الإمارات ودورها في خدمة الإنجليز
عبدالله القاضي – اليمن
تعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة المعاصرة جزءًا من الإقليم الذي عرف تاريخيًا باسم “عمان“، كما عرفت باسم”مجان” وذكره كثير من المؤرخين والكتاب العرب وغيرهم، والذي يشمل حاليًا سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة .من هذا المنطلق فإن تاريخ الدولة المعاصرة يدخل في إطار التاريخ العماني والعربي الشامل. وقبل ميلاد دولة الإمارات العربية المتحدة كانت المنطقة تسمى مشيخات الساحل العماني، ثم أطلق عليها الاستعمار ساحل القرصان، ثم تغير هذا الاسم ليصبح مشيخات الساحل المهادن. ويقسم تاريخ الإمارات إلى ست مراحل رئيسية عبر العصور المتلاحقة، ولا ينفصل تاريخها عن تاريخ المنطقة حولها في مراحل عديدة منه. وكان تاريخها مليئًا بالأحداث والتطورات، تراوحت ما بين الحرب والسلام. ففي السلم كان لأساطيل سكان المنطقة وخبرتهم البحرية دور كبير في إنعاش التجارة بين الدول المطلة على المحيط الهندي من آسيا وأفريقيا وبين أوروبا عبر طرق التجارة المعهودة. ولكن يبدو أن هذا كان أيضًا من مسببات الحروب في المنطقة.
عاشت منطقة الخليج في ظل الإسلام فترة من الاستقرار، وأصبحت في عهد الدولة الأموية مركزًا عالميًا للملاحة والتجارة البحرية،كما ازدهرت فيها صناعة السفن .وفي نفس الإطار تم العثور على موقع أثري في حي جميرا بمدينة دبي يمثل بقايا مدينة إسلامية من العصر الأموي كانت تتحكم بطرق التجارة آنذاك. ومن أهم مرافق هذه المدينة الأثرية المطلة على الخليج العربي بيت للحاكم وسوق تجارية صغيرة ومرافق سكنية. من المدن الإسلامية المعروفة في ذلك العصر مدينة جلفار الواقعة على شاطئ الخليج شمال مدينة رأس الخيمة الحالية، والتي تم العثور فيها على بيوت سكنية وأربعة مساجد، بنيت فوق بعضها البعض عبر الزمن. وتعود إلى القرن الرابع الهجري، الموافق العاشر الميلادي.
في هذه المرحلة من التاريخ نشطت التجارة البحرية بين تجار عمان وحضرموت واليمن وساحل عمان، وهي الأرض التي تقع عليها الإمارات العربية المتحدة اليوم، مع منطقة جنوب شرق آسيا وسواحل أفريقيا الغربية. استطاع هؤلاء التجار بحسن معاملتهم أن يوطدوا علاقاتهم مع سكان هذه البلاد وأن ينشروا الإسلام في كثير منها. وقد ساهم هذا النشاط التجاري في تنشيط طرق التجارة الدولية التقليدية التي تمر عبر شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام ومصر. واستمر هذا خلال عهدي الدولة الأموية والعباسية؛ ولكن لم ينجح النفوذ العثماني بعد ذلك في الوصول إلى هذه المنطقة إلا بحرًا دون أن يستطيع فرض أي سيطرة سياسية على أرضها. وأصبح هذا النشاط التجاري مطمعًا أوروبيًا خصوصًا بعد انهيار الدولة الإسلامية في الأندلس، وانطلاق الرحلات الاستكشافية لطرق جديدة للوصول إلى الهند دون المرور عبر الدول الإسلامية. ومن بين جميع المتنافسين، كان البرتغاليون أول من نجح في الوصول إلى هذه المنطقة.
كان أول من وصل إلى الهند من أوروبا الرحالة فاسكو داغاما بعد نجاح بارثولوميودياز بالالتفاف حول رأس الرجاء الصالح سنة 1488م، ومنها بدأ البرتغاليون الدخول إلى منطقة المحيط الهندي وبحر العرب وخليج عمان والخليج العربي، وسيطروا على جميع الموانئ الواقعة على سواحل عمان والمنطقة بالكامل لأكثر من قرنين.
توحَّد العمانيون بقيادة الإمام ناصر بن مرشد مؤسس دولة اليعاربة (1642-1741) التي شملت عمان التاريخية، أي سلطنة عُمان والإمارات العربية المتحدة، وأجزاء كبيرة من شرق أفريقيا، وكانت عاصمتها الرستاق، وشن اليعاربة حربًا ضد البرتغاليين، ليس في عمان فحسب، وإنما أيضًا في مناطق في الخليج العربي والسواحل الأفريقية، وتمكنوا من مواجهتهم بقوة وأخرجوهم من جميع أراضيهم؛ وهو ما أضعف شوكتهم في جميع أرجاء المحيط الهندي. وساهم هذا في إخلاء الطريق للبريطانيين والهولنديين الذين تمكنوا من القضاء على الوجود البرتغالي والانفراد في السيطرة على المنطقة في معركة بحرية حاسمة سنة 1625م، بالقرب من بندر عباس، لتبدأ مرحلة جديدة استمرت حتى قيام الاتحاد.
الدولة السعودية الأولى:
في عام 1218هـ الموافق 1803م، أرسل والي بغداد رسالة إلى الصدر الأعظم مفادها أن “قبائل بني ياس انضمت للسعوديين، وكذلك قبائل النعيم وبني قتب والقواسم” وأن هذه الحملة هدفها ضم عمان للنفوذ السعودي.
الدولة السعودية الثانية:
ذكرت المصادر العثمانية أنه في عام 1269ه الموافق 1853م، تم التوقيع على اتفاقية البريمي بين الأمير عبد الله بن فيصل نائبًا عن والده الأمير فيصل بن تركي والسيد هلال بن سعيد البوسعيدي نيابةً عن السيد ثويني بن سعيد البوسعيدي .وكان من الشهود على الاتفاقية الشيخ سعيد بن طحنون. بعد القضاء على الدولة السعودية الثانية في عام 1891م، انتقل الصراع بين الشيخ زايد بن خليفة آل نهيان وقائمام قطر الذي يعتبر ممثلًا للعثمانيين، وتزايد النفوذ البريطاني في منطقة شرق شبه الجزيرة العربية الذي أدى إلى توقيع اتفاقية حماية بين بريطانيا وكل من شيوخ الساحل والشيخ قاسم آل ثاني – حاكم قطر.
تسبب تحرير عمان من السيطرة البرتغالية وانحلال دولة اليعاربة في حدوث تنقلات جديدة بين القبائل، لا في عمان وحدها، بل في شرقي شبه الجزيرة العربية كلها، إذ ساد الأمان ساحل الخليج العربي بعد فترة طويلة من الصراع في العهد البرتغالي. وخلال فترة تقارب من 70 عامًا، ما بين انتهاء الاستعمار البرتغالي وقدوم الاستعمار البريطاني، بدأت القبائل هجرتها إلى الساحل. وقد برزت على سواحل الخليج في منطقة ساحل عمان التي تعرف الآن بالإمارات العربية المتحدة قوتان سياسيتان جديدتان مستقلتان، هما:
القوة البحرية: تتألف من حلف قبائل بني غافر (وهو أحد حلفي القبائل العمانية) يتزعمه القواسم، وهم قبيلة عمانية عربية، وقد ورد في كتاب “نهضة الأعيان” للمؤرخ العماني محمد بن عبد الله السالمي أن القواسم قبيلة عمانية عدنانية عريقة، نزحت من سواد العراق، ومن بلاد سر من رأى وديار بني صالح. بدأت زعامتهم على إثر انحلال دولة اليعاربة التي حكمت عمان بأكملها. وبدأت دولتهم في ما يسمى اليوم برأس الخيمة والشارقة، ثم انتشرت لتشمل شرق الخليج العربي بساحليه الشمالي (يتبع اليوم لإيران) والجنوبي، إضافة للجزر. وقد صارت للقواسم في القرن السابع عشر الميلادي أضخم قوة بحرية في المنطقة، وامتاز رجالها بالصلابة والشجاعة، فأقلقوا بريطانيا في ذلك الوقت أكثر مما أقلقتها أية دولة في الخليج. ولم تكن أعمالهم أعمال قرصنة -كما يدعي الإنجليز – وإنما كانت حربهم حربًا دفاعية لإجلاء الإنجليز عن السواحل العربية.
القوة البرية: وهي قوة بني ياس وحلفائهم من القبائل ضمن الحلف الهناوي (وهو الحلف الرئيس الثاني للقبائل العمانية). وبنو ياس هم قبيلة عربية عدنانية يرجع نسبها إلى ياس بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ولها وجود هام على ساحل الخليج العربي، تحالفت بعض القبائل معها، وأطلق على هذا الحلف تحالف بني ياس فاختلط الأمر على البعض فظنوا أنه حلف سياسي عسكري، ولا تمت هذه القبائل بصلة إلى بعضها البعض. كما يشير بعض خبراء النسب إلى أن أصولها قد تكون قحطانية. إلا أن حججهم ليست بقوة من ينسبهم إلى العدنانيين. وكانت زعامة هذا الحلف بيد قبيلتي آل بوفلاح التي ينحدر منها آل نهيان حكام إمارة أبوظبي، وآل بوفلاسة والتي ينحدر منها آل مكتوم حكام إمارة دبي. أما القبائل المتحالفة فتشمل: آل بو مهير، المزاريع، الهوامل، المشاغين وهم فرع من آل بو مهير مستقل، السبايس وهم فرع من آل بو مهير مستقل، المحاربة، القبيسات، الرميثات، الحلالمة، المرر، آل بو حمير، وهم فرع من المناصير، القمزان، السودان، الريالات. امتد نفوذ بني ياس آنذاك على طول الساحل الإماراتي الحالي حتى خور العديد.
بعد خروج البرتغاليين، نجحت بريطانيا -رغم منافسة كل من فرنسا وهولندا لها- من السيطرة على المنطقة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع العشر، وأنشأت شركة الهند الشرقية ككيان إطاره تجاري وأهدافه اقتصادية سياسية. وقد سيطرت على الهند وجميع الدول في ذلك الجزء من العالم بما فيها منطقة الخليج العربي، واعتبرت جميع الأراضي التابعة له جزءًا من الإمبراطورية البريطانية العظمى.
بعد منتصف القرن الثامن عشر، بدأت تتكون الإمارات المختلفة في المنطقة التي تُشكل الدولة حاليًا بشكل تدريجي، وأخذت بالتطور شيئًا فشيئًا، ولعدم وجود ترسيم واضح للحدود بينها وقعت بعض النزاعات على مناطق النفوذ التي انتهت بالصلح بين مختلف شيوخ الإمارات تحت الحماية البريطانية.
أزمة البريمي
تقع البريمي في قلب عمان التاريخية (التي تضم سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة)، ونتيجة لعدم تحديد التقسيم القبلي مناطق النفوذ والحدود بصورة واضحة وجلية، فقد برزت هذه الأزمة بقوة عند ظهور النفط. وكان الملك عبد العزيز بن سعود قد منح شركة ستاندرد النفطية الأميركية امتياز البحث عن النفط في جميع أراضي المملكة. ثم أرسل السعوديون سنة 1952م أميرًا من قبلهم إلى واحة البريمي التي تضم مدينة العين الحالية. وقد أصر البريطانيون على إثر ذلك على أن هذه الأرض لا تتبع المملكة العربية السعودية وإنما تتبع مسقط وأبوظبي بناء على الاتفاقات العثمانية البريطانية فيما يسمى بالخطوط الزرقاء. وعرضت القضية على القضاء الدولي الذي فشل في حلها. ولم ترضَ السعودية بذلك، وتصاعد الخلاف حتى وصل في الخمسينات من القرن العشرين إلى صدام مسلح تطور إلى ما عرف بحرب البريمي؛ حيث قاد الحركة الشيخ صقر بن سلطان آل حمود النعيمي حاكم البريمي في ذلك الزمن، وتبعته عدة قبائل. إلا أن حداثة أسلحة الإنجليز مكنتهم من السيطرة على المنطقة، وذلك في أكتوبر سنة 1955م. وقسم البريطانيون واحة البريمي بين عمان وأبوظبي، وعين ابن نهيان أخاه أميرًا عليها. واضطر الشيخ صقر بن سلطان آل حمود النعيمي حاكم البريمي وشيخ النعيم إلى اللجوء إلى الدمام في السعودية، كما اضطر الشيخ عبيد إلى الانسحاب جوًا إلى الشارقة، ثم بحرًا من دبي إلى الخبر.
تم حل هذه المشكلة الحدودية بعودة منطقة البريمي إلى عمان التاريخية (الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان) فيما بعد بالاتفاق على تبعية البريمي لسلطنة عمان، والعين لأبوظبي، وتم منح السعودية الأراضي المتاخمة للحدود القطرية من أراضي الإمارات، وعلى ساحل يطل على الخليج العربي طوله يقارب 150 كم.
كانت دولة الإمارات العربية المتحدة إمارات متفرقة لا يربطها كيان سياسي واحد قبل عام 1971م، وكانت ترتبط بمعاهدات حماية مع بريطانيا. وفي اليوم التالي لانسحاب القوات البريطانية من الإمارات المتصالحة في الخليج وافق حكام تلك الإمارات على الاتحاد فيما بينهم تحت اسم الإمارات العربية المتحدة، واختاروا حاكم إمارة أبو ظبي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيسًا، والشيخ راشد بن سعيد المكتوم حاكم دبي نائبًا للرئيس. ولا يزال الشيخ زايد يتولى مقاليد السلطة ويعاونه ابنه وولي عهده الشيخ خليفة. وفي عام 1976م، أعيد انتخاب الشيخ زايد رئيسًا للبلاد من قبل المجلس الوطني الاتحادي، ووافق المجلس كذلك على منح الحكومة الفيدرالية سلطات أوسع فيما يتعلق بتنظيم شؤون المخابرات والهجرة والجوازات والجنسية والأمن العام والإشراف على الحدود. تحكم كل إمارة من الإمارات السبع أسرة حاكمة ينتقل فيها الحكم وراثيًا، آل نهيان في أبو ظبي، وآل مكتوم في دبي، والقاسمي في الشارقة ورأس الخيمة، والنعيمي في عجمان، والمعلا في أم القيوين، والشرقي في الفجيرة.
وبعد وفاة الشيخ زايد في عام 2004م، أصبح الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، ابنه الأكبر، رئيسًا للإمارات التي يبلغ عدد سكانها 9 ملايين نسمة، يمثل سكانها الأصليون نحو 11٪ من مجموع السكان… وقد زاد الشيخ خليفة من القدرات العسكرية لدولة الإمارات من خلال شراء أسلحة من الدول الغربية والاستثمار بشكل كبير في تدريب الجنود الإماراتيين. وتسلمت الإمارات أول طائرة من 80 طائرة من طراز F-16E/F Desert Falcon في إطار عقد بقيمة 6.4 مليار دولار مع الولايات المتحدة… ثم حصلت الإمارات فيما بعد على طائرات هليكوبتر من طراز أباتشي، ومقاتلات من طراز F-16، وعربات مدرعة، ومجموعة من الصواريخ والذخائر. ومن ثم أصبح دور الإمارات مهيَّأً للأعمال السياسية بل والعسكرية! وقد كانت زيارة ملكة بريطانيا للإمارات في 2010م تتويجًا لهذا الدور “وصلت إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا إلى الإمارات في زيارة رسمية بدأتها من أبو ظبي، وقال سفير بريطانيا في أبو ظبي دومينيك جيريمي لوكالة الصحافة الفرنسية إن “صداقة قوية تربط الملكة مع الأسر الحاكمة في الإمارات” فيما اعتبر عبد الرحمن غانم المطيوعي سفير الإمارات في لندن أن هذه الزيارة تعتبر تتويجًا لتطور العلاقات الثنائية بين البلدين الصديقين في شتى المجالات، واصفًا الزيارة بـ”الهامة جدا”…” (جريدة الشرق الأوسط 25/11/2010). وقد مارست الإمارات دورها بإتقان، فانضمت إلى التحالفات الاستعمارية في المنطقة تنفيذًا للسياسة البريطانية، سواء أكانت التحالفات إنجليزية على حقيقتها أم كانت أميركية، فتدخلها الإمارات على الطريقة البريطانية لتكون عين بريطانيا على السياسة الأميركية… وهكذا تقاتل الإمارات رغم تبعيتها للإنجليز تحت لواء أميركا وتسير في ظلها، أو تسير في ظل عملائها كانضمامها للتحالف العربي، بل الأميركي، بقيادة السعودية سلمان باسم عاصفة الحزم، فهي القوة الثانية بعد السعودية حيث تشارك بعدد من الطائرات يبلغ 30 طائرة… وهي تُظهر نفسها من حلفاء أميركا، فقد قال سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة: “لأميركا في الإمارات حليف قوي وهادئ يلقب بإسبارطة الصغيرة…” (واشنطن بوست 9/11/2014م)، وكذلك فكما جاء في واشنطن بوست 3/1/2017م من مراسلها في قاعدة الظفرة الإماراتية فإن “الطائرات الأميركية تنطلق من قاعدة الظفرة، ومنذ ستة أسابيع، في طريقها لرمي حممها على كل من سوريا والعراق…”وأضافت الصحيفة إلى “أن ما لا يعرفه البعض أو قلة، هو تمركز حوالي 3.500 جندي أميركي في قاعدة الظفرة، وهي القاعدة العسكرية الوحيدة التي تملك مقاتلات إف-22” … وتنقل الصحيفة عن أنطوني زيني القائد السابق للقوات الأميركية في الشرق الأوسط “إن علاقة الولايات المتحدة مع الإمارات تعد العلاقة الأقوى مع أي دولة في العالم العربي اليوم”. وهكذا فإن الإمارات تبدو وكأنها حليف قوي لأميركا… وفي الحقيقة فإن الإمارات تلعب دورًا خاصًا لحساب الإنجليز، وما اشتركت في حروب أميركا إلا بإيعاز من بريطانيا، وعلى طريقتها في الظهور العلني وكأنها تؤيد أميركا ثم التشويش عليها من وراء ستار!
ومن الجدير ذكره أن بريطانيا منذ هزائمها شرق السويس، وخاصة 1956م، ثم خسائرها الفادحة في حرب اليمن 1963م، ومن بعد قرار انسحابها من الخليج عسكريًا عام 1968م الذي نفذته عام 1971م، فإنها لم تعد تحتمل البقاء على ما هي عليه؛ ولذلك فضلت الانسحاب العسكري وتحويل شكل الاستعمار المباشر إلى شكل آخر، والبقاء سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا كما فعلت في أغلب مستعمراتها… ومنذ ذلك الوقت، أي منذ انسحابها الكامل من شرق السويس، فقد أصبحت بريطانيا لا تستطيع الوقوف العلني في وجه أميركا، وقد غلب على سياستها تجاه أميركا ما يشبه التأييد في العلن، والتشويش عليها في الخفاء، وتوزيع الأدوار على عملائها كالدور الإماراتي في كل من ليبيا وتونس ومصر واليمن.
ففي ليبيا، تُظهر أنها تقف بجانب حفتر عميل أميركا وتسنده بقوة!، بينما كانت تحتفظ بعلاقة وطيدة بالمبعوث الأممي السابق لليبيا برناردينو ليون وهو الإسباني ذو الميول الأوروبية، وتعمل معه بمحاولة توفير الدعم لمساعيه على جانب برلمان طبرق وجماعة حفتر، وقد فضحت الصحف تسريبات بريده الإلكتروني في المراسلات مع وزير الخارجية الإماراتي، كما وفضحت بعد ذلك انتقاله للعمل مباشرة في الإمارات براتبٍ مغرٍ بعد تركه لمنصبه الأممي في ليبيا. وهذه العلاقة الوطيدة بين الإمارات وبين المبعوث الدولي الذي يمثل الميول البريطانية تدل على رضا بريطانيا عن دور الإمارات في ليبيا.
وفي تونس، فمن جانب، تمول الإمارات تونس بصفقات أسلحة فرنسية، ومن جانب آخر تظهر وجود توتر في العلاقات معها؛ ما يدل على أن التوتر غير حقيقي؛ وهو مصطنع لتلعب الإمارات دورًا إنجليزيًا في تونس وما حولها.
وفي مصر، فإن تصرفات الإمارات المتقاربة مع السيسي هي ضمن الخط البريطاني المرسوم دونما أي خروج عنه، فبريطانيا ترسل له بعض الإشارات المطمئنة، وتقرنها بدولة الإمارات.
وأما في اليمن، شاركت الإمارات في عاصفة الحزم التي أعلنتها السعودية على اليمن منذ انطلاقها في آذار 2015م، ولكن رغم أن ظاهر الأمور يوحي بالتناغم، لكن الحقيقة ليست كذلك، فقد كانت السعودية تريد أن تقتصر عاصفة الحزم على الضربات الجوية، وأما الإمارات فإن حجم مشاركتها الكبير في المعارك البرية يدل على أنها قد استغلت التحالف للزج بقوات برية كبيرة في اليمن… وبالتدقيق بين نفي السعودية وجود قوات برية لها في اليمن 5/4/2015م، وبين إعلانها انتهاء “عاصفة الحزم” 21/4/2015م، وبدء “إعادة الأمل”، نجد أن هذه كانت فترة التأزيم بين السعودية التي تريد أن تكون الضربات الجوية طريقًا إلى التسوية السياسية – وإطلاقها “إعادة الأمل” لا يخلو من إشارة إلى ذلك – وبين الإمارات من جهة أخرى التي تريد لهذه الحرب أن تكون دحرًا فعليًا للحوثيين عن مدن اليمن… ففي الوقت الذي تهدف السعودية إلى تشكيل ضغط فقط على الحوثيين تمهيدًا للتسويات السياسية، تقوم الإمارات بحربهم على الأرض ودحرهم إلى الوراء…
وليس الخلاف السعودي الإماراتي في هذا فحسب، بل إن الموقف من المخلوع صالح كان يختلف. ففي الوقت الذي كان العداء يستحكم بين السعودية والمخلوع، كانت تتوارد الأنباء على أن الإمارات تدعمه، بل إنها أنقذته من إحدى غارات عاصفة الحزم! فقد أشار موقع مصر العربية 4/4/2015م إلى ذلك بشكل مباشر: “وكشف مسؤول يمني رفيع في تصريح خاص لـ “مصر العربية” أن ثمة خلافًا بين الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، بسبب إبلاغ أبو ظبي نجل الرئيس السابق علي عبد الله صالح بعملية عاصفة الحزم قبل قصف صنعاء بساعة، ورؤية الإمارات بضرورة الحفاظ على صالح وبقائه ضمن أي مبادرة للحل، وكشف أن تسريب الإمارات موعد العملية العسكرية أنقذ صالح من الموت، إذ غادر منزله قبل القصف إلى أماكن آمنة بالعاصمة صنعاء”. والذي يشير أيضًا إلى دعم الإمارات لعلي صالح، أنها تتجاهل القرار الدولي بفرض عقوبات عليه، وتزدحم مواقع التواصل الإلكتروني باتهامات الإمارات بأنها تقدم الدعم المالي والعسكري لعلي عبد الله صالح وعائلته وأنها لا تزال حليفًا له، وذلك رغم ظاهر مشاركة الإمارات في التحالف العربي الذي تقوده السعودية والذي يشن حربًا ضد الحوثيين في اليمن وضد حليفهم صالح، وهي الحرب التي تضع “إعادة الشرعية إلى البلاد” و”إنهاء الانقلاب الدموي الذي نفذه الحوثيون” أهدافًا معلنة لها… والذي يؤكد هذه العلاقة أيضًا ما ذكرته يمن برس 22/10/2015م: “يواصل نجل الرئيس المخلوع العميد الركن أحمد علي صالح، الإقامة في الإمارات خاضعًا لحماية من نوع خاص، على الرغم من الحرب التي تشارك فيها الإمارات ضد الحوثيين وصالح…”!
ثم إن الرئيس هادي نفسه في مهب الريح، إذ تطالب المبادرات الأممية بعزله، أي أن بريطانيا تجهز القوى والأوراق الأخرى في اليمن حتى إذا آلت التسويات الدولية لإبعاد هادي عن المشهد السياسي في اليمن، فلا يكون وقتها إبعاد هادي إبعادًا للنفوذ الإنجليزي عن اليمن؛ لأن ذلك النفوذ متمثل بأوراق كثيرة أخرى، وما هادي إلا واحدة من هذه الأوراق الكثيرة… وهكذا جعلت بريطانيا الإمارات تدعم علي صالح… وكلا الرجلين هادي وصالح من أشياع بريطانيا، ولكن المسألة هي توزيع الأدوار على طريقة الدهاء البريطاني! وهكذا يفهم الخلاف بين الإمارات وهادي ضمن هذا الخط، ومن ثم الاستقبال الفاتر له في أبو ظبي، والخلاف على منع الإمارات لهادي من عزل مدير أمن المطار في عدن صلاح العميري (أبو قطان)… أي أن التنافر الظاهر بين سياسة الإمارات في اليمن والرئيس هادي باعتباره من توابع بريطانيا إنما هو ناتج عن تكليف بريطانيا للإمارات بمهمة خاصة تقتضي هذا الدور، وهكذا تُظهر الإمارات أنها لا تقف بجانب هادي الذي وافقت عليه في المبادرة الخليجية، وهي تقف فعلًا بجانب عميل آخر لبريطانيا وهو علي صالح. وبذلك تلعب دورًا لحساب الإنجليز في اليمن يخلط الأمور على النظام السعودي الذي يعمل لحساب أميركا هناك.
إن ما يحدث في جنوب اليمن ليس إلا امتداد للصراع الإنجلو أميركي عبر الأدوات المحلية والإقليمية. فبينما تسعى أميركا لتثبيت الحوثيين بإشراكهم في مستقبل اليمن السياسي كطرف رئيسي؛ وذلك بالسيطرة على أكبر قدر من المساحة الجغرافية لشمال اليمن، والضغط المتواصل بالخروج من أزمة اليمن بالحل السياسي. فهي تسعى بالمقابل لإحياء جناح الحراك المتشدد والمطالب بتقرير المصير واستعادة دولة الجنوب، ففي المقابل تقف لها بريطانيا بالمرصاد عن طريق الإمارات؛ وذلك بالعمل على احتواء الحراكيين أو تصفيتهم، وكذلك العمل على استعادة المدن التي تخضع لسلطة المجلس السياسي المدعوم أميركيًا بالحسم العسكري عن طريق العميد طارق صالح.
لقد قامت الإمارات بأعمال عسكرية جهنمية، وتصرفت كأنها دولة عظمى؛ حيث قامت بالسيطرة على باب المندب من جميع الجهات كالسيطرة على جزيرة سقطرى، وبنت عليها قاعدة عسكرية بالإضافة إلى سيطرتها على جزيرة ميون، كما أقامت الحزام الأمني للسيطرة على مدينة عدن، كما قامت بالسيطرة على قرية ذو باب وهجرت بما يقارب من عشرة آلاف من أهلها، ثم قامت بالاستيلاء على ميناء المخا، وأقامت عليه قاعدة عسكرية كبيرة يتواجد عليها ما يقارب من أربعمائة جندي إماراتي لتمويل قواعدها العسكرية، بالإضافة إلى سيطرتها على مطاري عدن والمكلا، وبهذه الأعمال سيطرت سيطرة مطبقة على المحافظات الجنوبية من اليمن، وذلك خدمة لبريطانيا أمام الخطة الأميركية في اليمن.
فبعد تصفية علي صالح الذي كان يعوِّل عليه الإنجليز بحسم الصراع لصالحهم من داخل العاصمة صنعاء، واحتواء الرئيس عبد ربه هادي من قبل السعودية، ومنعه من مغادرتها، ها هم يعدون العدة من جديد، وذلك بعد نجاة طارق محمد عبد الله صالح وأخيه وتواجدهما في عدن ليقوما بالدور الموكل إليهما من الإنجليز عبر الإمارات؛ وذلك للتواصل بقوات الحرس الجمهوري، رغم أن الحرس الجمهوري هو الذراع التي قاتل بها المخلوع صالح (الجنوبيين) على حد وصفهم، إلا أن عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي قال إنه يدعم طارق صالح في حربه ضد الحوثيين، في تغير لافت للموقف الجنوبي من الحرس الجمهوري العدو الألد للمقاومة الجنوبية، وذلك تنفيذًا لرغبة الإمارات، التي أوعز إليها الإنجليز لملمة بقايا الحرس الجمهوري وقيادات حزب صالح المؤتمر الشعبي العام، لتشكل بهم قوة عسكرية وسياسية توازي خط الإنجليز الأول، وهو الخط الذي يتزعمه الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي، وبهذا يكون للإنجليز في اليمن جناحان تم الحفاظ عليهما رغم قتل الحوثيين لعدوهم الحليف علي عبد الله صالح.
كما يتم التواصل كذلك مع مشائخ القبائل وأعضاء حزب المؤتمر وتجار العملات والمواد الغذائية لتضييق الخناق على الحوثيين ومن يقع تحت سلطتهم للوصول إلى انفجار الوضع وإرباك الحوثيين من الداخل والخارج ليُسَرِّع بالحسم العسكري في إشارة لإحلال العميد طارق ومن معه بديلًا عن عبد ربه هادي وحكومته التي أصبحت عاجزة عن القيام بما هو مطلوب منها. ونتيجةً لوصول العميد طارق وأخيه، فقد قامت أميركا بتحريك مكونات «الحراك الجنوبي» وأصدرت بيانًا حذّرت فيه دول «التحالف» من استضافة أي من القيادات التابعة لنظام الرئيس، علي عبد الله صالح في الأراضي الجنوبية، ورفض المحتجون «إقامة أي معسكرات لطارق داخل مدينة عدن»، وذلك لعلم الأميركان بارتباطهم بالإنجليز، كما أوعزت أميركا للسعودية بوضع وديعة بمبلغ ملياري دولار بالبنك المركزي في عدن تحت ذريعة وقف انهيار العملة اليمنية مقابل الدولار، وهي في حقيقتها ليست إلا استرضاءً لأبناء الجنوب، خدمةً لأميركا ووقوفًا أمام ما تقوم به الإمارات خدمةً للإنجليز.
إن استدعاء أحمد علي عبد الله صالح لعبد الكريم صالح شائف رئيس فرع المؤتمر في عدن ونائب محافظ محافظة عدن سابقًا الذي وصل أبو ظبي في الأيام الماضية ليدلل على أن الإنجليز ماضون في عملية الحسم العسكري، وإعادة تجميع أعضاء حزب المؤتمر والقبائل الموالية بعيدًا عما تسمي نفسها بالشرعية؛ وذلك عبر مخطط لنشر الفوضى في العاصمة المؤقتة عدن والمحافظات المحررة بهدف الانتفاضة على (الشرعية) والحكومة حيث ضمت الاجتماعات قيادات جنوبية موالية لعلي عبد الله صالح، فما كان من الأمم المتحدة إلا الخروج بهذا التقرير، وذلك لمحاولة خلط الأوراق لكي لا يتم ما يخطط له الإنجليز للمحافظة على وحدة اليمن لما يتبعه من وحدة النفوذ للإنجليز، وفشل مخطط أميركا ومصالحها في اليمن.
والظاهر أن الإنجليز يرغبون في تكثيف الهجمات العسكرية على الحوثيين بمساعدة الألوية التي يتم تشكيلها حاليًا في عدن لتساند الجبهات الحالية للجيش التابع لهادي، أو لفتح جبهات جديدة تقوم بقضم المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في الشمال، وبهذا يحافظ الإنجليز على سيطرة أكبر داخل البلاد، وتمثيل سياسي أوسع في المفاوضات التي تعمل الأمم المتحدة حاليًا على إحيائها.
وبهذا، كلما حاولت أميركا مزاحمة الإنجليز وإخراجهم من مستعمرتها السابقة، عمد الإنجليز إلى عملائهم في المنطقة لتجديد وجودهم العسكري والسياسي.
وبهذا تتضح للعيان معالم الصراع الإنجلو أميركي على اليمن: أميركا عن طريق السعودية وقيادتها للتحالف العربي في اليمن، وعن طريق دعم مليشيات الحوثي كقوة تشبه حزب إيران في لبنان لتحافظ أميركا على مصالحها في اليمن، بينما الإنجليز لا يستسلمون ويعمدون لتجديد أجنحتهم في اليمن: عبد ربه هادي والأحزاب المتحالفة معه من جهة، والحرس الجمهوري وبقايا المؤتمر الشعبي العام من جهة أخرى، وكل ذلك يتم عبر عميلة الإنجليز منذ نشأتها الإمارات، التي تعمل أيضًا على كسب قيادات الحراك الجنوبي لصالحها، وتهميش الحراك الجنوبي التابع لأميركا.
والخلاصـــة، إن الإمارات تدين للإنجليز بالولاء والتبعية المطلقة كباقي دول الخليج إلا في السعودية التي تسير مع أميركا على عهد سلمان حاليًا… فالإمارات تقوم بلعب دور يرسمه الإنجليز لها سواء، أكان هذا الدور في ليبيا، أم كان في اليمن، أم في دعمها للنظام المصري… وهكذا فإن التناقض الظاهر على سياستها إنما هو ناتج عن الخطوط العريضة التي رسمتها بريطانيا لها بدعم العلمانيين، ومناهضة الإسلاميين، وهي غير الخطوط العريضة المرسومة لقطر مثلًا، فضلًا عن أن الإمارات تقوم بتنفيذ سياسات خاصة وعميقة لبريطانيا، وأنها أي الإمارات كثيرًا ما تعمل لبريطانيا في الخطوط الخلفية لعملاء أميركا في المنطقة، وتقدم خدمتها لبريطانيا من تلك المواقع… ومع ذلك، فسواء أكانت قطر، أم الإمارات، أم أي دولة أخرى في بلاد المسلمين تخدم مصالح الكفار المستعمرين، فتلك جريمة كبرى، وكلهم متبَّـرٌ ما هم فيه، ولن يجنوا من وراء ذلك خيرًا، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
وجوه غابت من المشهد، ووجوه ظهرت من جديد؛ ليستمر الصراع، وليستمر نزيف الدم بين أهل اليمن، وتزيد معاناتهم يومًا بعد يوم، من الجوع والأمراض التي تفتك بهم، وهم يعلمون علم اليقين أنه لا مخرج لهم ولا حل لمشاكلهم، ولا لنيل رضوان ربهم إلا بالعمل الجاد والمنتج لإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة التي بها يأمنون على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وليسعدوا في الدارين، ولذلك ندعوهم، فهل من مجيب؟!