كلاّ، بل الخلافة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم واجب
2001/02/25م
المقالات
1,906 زيارة
الإعلام هو أحد أهم أدوات السلطة في أية دولة، وقد أطلق عليه اسم السلطة الرابعة. وفي عالمنا الإسلامي حيث الدول القائمة كلها دول كفر، الإعلام هو بيد الدول تنفث من خلاله سمومها.
وفي ظل الصحوة الإسلامية اضطرت الأنظمة القائمة وأجهزة الإعلام أن تعطي قسطاً من وقتها للإسلام. ولكنها تخشى صحوة المسلمين على دينهم. لذلك فهي لا تقدم الإسلام إلا محرَّفاً بطريقة دس السم في الدسم، وتتجاهل منه ما له علاقة بالواقع السياسي وبعملية التغيير لواقع الكفر والظلم. وما تضطر إلى عرضه من ذلك فهي تحرِّفه ليتوافق مع النظم والقوانين المطبقة والسياسات المتّبعة. وبذلك فهي تهدف إلى تضليل المسلمين ودفعهم إلى الرضا بالواقع وعدم التفكير أو الاشتغال إلا بما يخدم الأنظمة، ولا يشكل أيَّ خطر على بقائها أو أي إزعاج لها.
ولأجل ذلك فهي تستخدم من (العلماء) من يقوم بهذا الدور، فيجمِّل الحكام ويبرِّئهم، ويصرف الناس عن العمل لإزالتهم، ومن يحرِّف الأحكام الشرعية، ويحاول تسفيه الدعاة إلى إقامة حكم الله، وتسفيه أفكارهم، ويقدّم ذلك تحت ذرائع مثل تجديد الدين أو مقاصد الشريعة أو فقه الموازنات أو العقلانية أو الوسطية أو غير ذلك.
وهل يتوقع من حكام رويبضات وإعلام كاذب أن يوظفوا أو يستعملوا علماء ومفتين ليسوا منهم؟ هل ينتظر، على سبيل المثال، من قناة فضائية إنجليزية السياسة الحرص على تقديم الإسلام النقي الصافي الذي يأمر بالحكم بما أنزل الله، وبتوحيد الأمة، أو الحرص على أن تعي الأمة على مكائد الكافر المستعمر وعملائه، وعلى النهوض والعمل للتغيير ورفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، أم أنها يتوقع منها عكس ذلك تماما؟!
هذا الإعلام أداة في أيدي الحكام، فلن يأتي منه إلا ما يبرئهم ويضلل الناس، ولن يأتينا بعلماء يقدمون أحكام الإسلام كما جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما بعلماء يخدمون الحكام وسياساتهم وأهدافهم. وهؤلاء هم علماء السلاطين.
إن دسائس الحكام ولأجهزتهم كثيرة نريد أن نشير هنا إلى اثنتين منها:
أما الأولى فمفادها أنه إذا كان الحكام يحاربون الأحكام الشرعية التي تبين ظلمهم وخيانتهم، ووجوب تغييرهم، ووجوب إقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله، ويلاحقون حملة الدعوة ويضيقون عليهم، فإنه ليس من الضروري – كما يزعمون – أن ندعو إلى هذه الأحكام التي تغضب الحكام لأن هناك أبوابا أخرى من الخير، يمكن أن تحصل الدعوة عليها بدون متاعب.
وأما الثانية فهي فكرة طلب النصرة، حيث يعمد علماء السلاطين إلى التعمية عليها وتجاهلها بذرائع وحجج تنضح بالضعف وبالتحريف المخزي، وكل ذلك كي لا يعترفوا بحقائق تزعج الحكام.
أما بالنسبة للأولى فيقول لأحد العلماء الذين يلمعهم ويبرزهم الإعلام: «هناك نوع من الحكام لا يكره الإسلام، بل يخافه… ولو هيّأ الله لهؤلاء الحكام من يشرح لهم الإسلام الحق متكاملا بلا تجزئة، ميسرا بلا تعسير… لو هيّأ الله لهم ذلك، وانشرحت لهم صدورهم لتغيروا، وتغيرت مواقفهم – كليا أو جزئيا – من الإسلام ودعوته…» ثم يدعو هذا العالم إلى طمأنة الحكام على كراسيهم وسلطانهم، في المرحلة الراهنة على الأقل، في مقابل ترك الحرية لدعوة الإسلام حتى تقوم بمهمتها في تربية الشباب على معاني الحق والخير والطهر…
وعندما قيل لهذا العالم في مداخلة تلفزيونية: إننا نريد أن ندعو إلى الإسلام ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولكن الحكام لا يتركوننا وشأننا، بل يمنعوننا ويحاربوننا ويعاملوننا بالحديد والنار، كان جوابه: إن هناك أبوابا كثيرة للدعوة وإن لم تدع إلى الخلافة يمكنك أن تدعو إلى باب آخر من أبواب الإسلام.
وهذه من أعظم وأخطر الخدمات التي تقدم أحكام الكفر وسلاطينه. فهي دعوة إلى الاستسلام، وإلى عدم إزعاج الحكام، وإلى إرضائهم، مع أنهم يحكمون بالكفر والطاغوت. إن عملية التغيير تقتضي القيام بالأعمال التي من شأنها إحداث التغيير، وليس مجرد القيام بأعمال يضيع فيها الوقت وتصرف فيها الجهود من غير طائل، ولا هي أعمال مخادعة ظاهرها خدمة عملية التغيير، وحقيقتها تكريس الواقع والتيئيس من التغيير. إن الصراع بين الحق والباطل قائم ومستمر منذ خلق الله اّدم عليه السلام. والحكم في بلاد المسلمين اليوم هو بيد الذين يحكمون بالكفر ويحاربون الإسلام. والإسلام، اليوم، ليس له دولة تحكم به وتحرسه وتحمي رعاياها وتجاهد لأجله. وإنما هناك مسلمون حملة دعوة يعملون لإقامة الدولة الإسلامية بإيجاد الخلافة وتطبيق الإسلام. والصراع قائم، وعلى أشده بين حملة الدعوة ودول الكفر.
وفي حالة الصراع بين أي فريقين يعمل كل فريق لأجل التغلب على الآخر وإخضاعه – وليس لأن يكون عميلا وأداة له – وهذا معناه إضعاف الخصم وإفقاده قوته أو عناصر قوته سواء كانت مادية أو فكرية أو معنوية أو غير ذلك، والتركيز على كل ما له أثر كبير أو أثر أكبر في إضعاف قوى الخصم والهيمنة عليه. وفي هذا الصراع، يقوم كل فريق بحماية قواه وعناصرها، العناصر التي لها الأثر في وجوده وسلطته وهيمنته، ويوظف الحراسات الأكبر والأضخم على النقاط والمواضع التي تشكل خطرا عليه إذا فقدها. أما النقاط التي لا شأن لها في القوة أو الضعفـ أو التي شأنها غير ذي بال، فإن التركيز عليها يعد تضييعا للجهد والوقت، ويعطي فرصة للخصم.
والذين يتقدمون إلى قومهم على أساس أنهم علماء وخبراء، وناصحون حريصون، فيبرزون ويضخمون من قوى الخصم ما لا قيمة له في الصراع. ويهونون من شأن الأعمال والقوى التي لها الأثر الحقيقي في الصراع، وبالتالي يوجهون الناس إلى ما يعرضهم للخطر، وإلى ما لا يؤثر على الخصم ولا يفيد في تحقيق النصر والغلبة عليه، هؤلاء معاول هدم في الأمة وهم بمقام العملاء والخونة.
إن الكافر المستعمر وعملاءه يراقبون أعمال المسلمين وتحركاتهم وأفكارهم، فإن كانت لا تؤثر على هيمنتهم وعلى مصالحهم، فإنهم لا يحاربونهاـ بل يظهرون لها القبول والود كيدا ومكرا. أما الأفكار والأعمال التي تفضح هذه الأنظمة وتبين عداءها للإسلام، والتي تدفع الأمة للتفكير في عميلة التغيير وطريقته، ووجوب إقامة الدولة الإسلامية، ما يهدد الأنظمة الخائنة ومن خلفها من شياطين الإنس والجن، هذه الأفكار والأعمال تحارب بشدة وضراوة. وتسعى الأنظمة وأدواتها التجسسية والقمعية والإعلامية وعلماء السلاطين إلى حرف الناس وصرفهم عن هذا الطريق لأنه الطريق العملي والمؤثر، فيسدون في وجه المسلمين الطرق التي تؤثر وتوصل إلى الهدف، ويفتحون الطرق التي لا تنتج ولا تفيد ويعبدونها. وهذا هو مفاد ونتيجة جواب عالم الفضائيات المشهور: إذا كان الحكام لا يرضون منكم ولا يسمحون لكم بالعمل والدعوة لإقامة الخلافة فالخلافة ليست هي الباب الوحيد في الإسلام، اتركوا هذا العمل وهذه الدعوة وقوموا بغيرها- فهناك أبواب أخرى في الإسلام!!
إنه إن لم يكن الخبث والتآمر على الإسلام في هذه المقولات وأمثالها مقصودا، فلا شك أنها تنطوي على خفة وسذاجة مع خطورة بينة. لذلك يجب أن تدرك الأمة واقع هؤلاء ” العلماء”ـ وأنهم خندق دفاعي يدافع عن أنظمة الكفر ويحميها من الأمة الإسلامية.
إن الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين هي أنظمة كفر، وهي حريصة على أن لا تفهم الأمة الإسلام إلا بشكل يخدم الكفار ويثبط المسلمين، وعلى أن لا يدعى المسلمون إلى التغيير وإلى استئناف الحياة الإسلامية. وعلماء السلاطين يقومون بدورهم في هذا الأمر، ويتحاملون على حملة الدعوة ويحاولون تشويههم والسخرية من أفكارهم. وفي المقابل نجد أن أمثال هؤلاء ” العلماء” تفتح لهم أبواق الإعلام التي تقوم بإشهارهم وتلميعهم، وتقوم الأنظمة وأدواتها بتيسير أمورهم وإغراقهم بالجوائز، بينما السجون عند هذه الأنظمة مليئة بحملة الدعوة والعلماء الذين رفضوا أن يبيعوا دينهم بدنياهم. ومرة أخرى نتساءل: هل يمكن لحكام رويبضات وإعلام تابع لهم أن يقدموا للأمة علماء إلا أن يكونوا أدوات لهم؟!
كان الواجب على هذا «العالم» أن يتقي الله ويقول لصاحب المداخلة إن عليه أن يتبع الصراط المستقيم ويثبت عليه وإن كان فيه أذى، وأن يستمر حتى يرضى الله لا أن يتركه حتى يرضى الحكام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». وقال: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه ونهاه فقتله». أو لا يعرف هذا العالم كم تعذب وتحمل وصبر الرسول أسوتنا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فلم يغير ولم يبدل، ولم يقصد يوما إرضاء الكفار أو السكوت عن شيء مما أمره الله به. فبمن نقتدي ولمن نسمع، لعملاء أو علماء السلاطين أم للنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: «ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيختلفان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يرضون لأنفسهم ما لا يرضون لكم، إن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: وما نفعل يا رسول الله؟ قال: كونوا كأصحاب عيسى حملوا على الخشب ونشروا بالمناشير فوالذي نفس محمد بيده لموتة في طاعة الله خير من حياة في معصية» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما المسألة الثانية، وهي طلب النصرة، فهي حكم شرعي، وهي أقوال وأفعال صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلمـ يقوم علماء السلاطين بتصوير أنها أفعال قام بها النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس لها دلالة شرعية، ولا يجب إتباعه فيها، مع أنها من أهم الأحكام الشرعية، فقد واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم سنوات، ولم يحد عنها حتى أقام سلطان الإسلام، وكان هو الطريق الذي تمكن به النبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة من مكة إلى المدينة ومن إقامة الدولة الإسلامية. وإذا ذكر لهم أو ذكروا به فإنهم يقللون من شأنه. ويردونه ردا جاهليا، من غير أي بحث شرعي ولا استناد إلى أدلة شرعية، بل بالتدليس والمغالطات. ولا يتعرضون أبدا لمحاولات الرسول المتعددة في طلب النصرة، ولا لبيعة العقبة الثانية وما ورد فيها- مع أنها كانت استجابة للرسول صلى الله عليه وسلم في طلبه للنصرة، وكانت بيعة على النصرة، ومع أن أهل النصرة مفخرتهم وسابقتهم في الإسلام أنهم أهل للنصرةـ وقد سماهم القرآن الأنصار، وجعلهم مع المهاجرين أفضل الصحابة رضوان الله عليهم جميعا فقال تعالى: ]وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ…[ الآية، وقال: ]لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ…[ الآية. وقال: ]إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ…[ الآية. وقال أيضا: ]وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[.
إن طلب النصرة هو حكم شرعي يبين كيفية إيجاد القوة اللازمة لإيجاد الدولة الإسلامية. إذ لا دولة بلا سلطة ولا سلطة بلا قوة. والأمة الإسلامية لديها إمكانيات وقوى هائلة. ولكنها مصادرة ومكبلة في أيدي الحكام أعداء الإسلام، الذين يعملون على إضعافها وتجزئتها وتفتيت قواها، واستعمالها ضد الإسلام والمسلمين، ولخدمة وحماية مصالح أسيادهم. وطلب النصرة يعني تحويل هذه القوى أو بعضها لخدمة الإسلام والمسلمين وإقامة الحكم بما أنزل الله وهذه القوى هي قوى الأمة الإسلامية من جيوش وأعداد وعتاد وثروات. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. فلماذا لا يأتي علماء السلاطين وإعلام السلاطين، وبرامج التعليم الشرعي على ذكر الكيفية التي حصل فيها النبي على القوة التي أقام بها دولة الإسلام؟ كيف تحول مع صحابته من مستضعفين يعتدى عليهم في مكة إلى رئيس دولة وأعزاء أقوياء في دولة عزيزة؟ لقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة، كان الكفار قد أعدوا خطة قتله فيها ! وأرسلوا خلفه من يأتي به! هكذا هاجر، ولكنه وصل إلى المدينة رئيس دولة، فما الذي كان قد أعده؟ ما الذي حضره قبل ذلك؟ إنه طلب النصرة الذي استجاب له ما يكفي من أهل القوة في المدينة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب النصرة قبل ذلك بسنوات من قبائل وقوى عديدة لم تستجب له، واستجاب له الذين استجابوا، وعقد معهم بيعة العقبة الثانيةـ بيعة النصرة. ونالوا بذلك أعظم كرامة في الإسلام بعد كرامة الإيمان وإحياء الإسلام في الأمة، وأنزل الله فيهم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ويخبرهم أن الله قد رضي عنهم فطوبى لهم.
ومع ذلك يعمد أذناب السلاطين إلى إغفال حكم طلب النصرة ومعناه وأثره. ونجد، مثلا، عالم الفضائيات المشهور ينزعج من اتصالات المشاهدين التي تبين واقع الحكام، وينزعج من ذكر طلب النصرة، وهو له محاولات تكاد تكون مستميتة لإلغاء حكم طلب النصرة، ولذلك فهو يتناقض مع نفسه ويخالف بديهيات في الإسلام بشكل لا يليق به، لأنه يريد أن يهرب من الحقائق وأن يشوش على الذين يدعون إليها. فنراه يقول إن طلب النصرة فعل من أفعال النبي، وليس ضروريا الاقتداء بالنبي في هذا الفعل، ولأجل تمرير هذا القول وغيره مما يفيد في تبرئة الحكام وفي التوفيق بين أحكام الإسلام وأنظمة الكفر، فهو ينزل رأيه هذا على كل أفعلا النبي صلى الله عليه وسلم – هي من السنةـ وهي دليل شرعي بلا خلاف، فكيف يخرج هذا «العالم» من مأزقه هذا؟ إنه يعمد إلى التدليس والمغالطات، فيقول إن هذه الأفعال من السيرة وليست من السنة، ويزور فيقول إن الأصوليين لم يدخلوا السيرة في السنة، محتجا بأن من السيرة ما قام به صلى الله عليه وسلم قبل النبوة. ولكن هل هذا يلغي ما قام به صلى الله عليه وسلم بعد النبوة؟ كلا، ولكنه الزلل والخطأ. ولذلك تراه يتناقض فتارة يقول إن الفعل من السيرة والسيرة ليست من السنة، وتارة يقول إن السيرة أفعال وهي جزء من السنة، وتارة غير ذلك، وهذه بعض نصوصه: يقول: ” إذا لمن يكن فعل الرسول – وهو جزء من سنته – ملزما لمن بعده، ووسع الصحابة أن يخالفوه لاعتبارات رأوها فكيف يكون فعل المسلمين من بعده ملزما لمن بعدهم” ثم استنتج مباشرة ما أراده سلفا، فقال: « إن مجرد السوابق العملية لا تحمل صفة الإلزام التشريعي، كل ما في الأمر أنها كانت هي المناسبة لمكانها وزمانها وحالها، فإذا تغيرت هذه الأشياء تغير ما بني عليها». وعلى ذلك فأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم هي مجرد سوابق عملية ولا تحمل صفة الإلزام التشريعي، هكذا يتحدث هذا «العالم»، بهذا الإطلاق وهذا العموم، وبما أن الزمان والمكان والحال قد تغير – بزعمه – فالنتيجة المنطقية عدم وجوب التأسي بالنبي. وهذا اجتراء على الدين وافتراء ومقدمة لتنحية كثير من الأدلة الشرعية ولتحريف كثير من الأحكام الشرعية.
وإنه بتنحية السنة (الفعلية) جانباً تفقد كثير من النصوص الشرعية البيان الشرعي وتصبح قابلة لتحمل تفسيرات مناقضة للشرع طالما أن جزءا من الشريعة وهو البيان (الفعلي) من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدرت قيمته الشرعية أو التشريعية. وهذا هو مراد محرفي الدين ويقول هذا «العالم»: «ومن أسباب الخطأ والاضطراب في الفقه السياسي: الخلط بين السنة والسيرة في الاحتجاج» – ويقول «ولكن الخطأ الذي يقع فيه البعض هنا أنه يضع (السيرة) موضع السنة. ويستدل بأحداث السيرة النبوية على الإلزام كما يستدل بالسنة والقرآن». ومع أن هذه الأقوال ليست إلا مقدمات بعيدة كل البعد عن الدقة والموضوعية لا يقصد بها سوى المغالطة والتشويش. إلا أنها كذلك خطأ فاحش لأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي جزء من سنته. ولكن «عالمنا» مضطر للتجديف، يقول: «لهذا لم يدخل الأصوليون السيرة في تعريف السنة، بل قالوا: السنة ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ولم يجعلوا منها السيرة». ويا للعجب من هذا الزعم، وهل السيرة إلا أفعال للرسول – بل هي أفعال وأقوال!!، ونراه بعد بضعة أسطر مباشرة يقول: «إن السيرة تمثل الجانب العملي من حياة النبي صلى الله عليه وسلم – أي تمثل قسم الفعل من السنة غالبا». وإذا كان الأمر هكذا فلماذا هذا التخبط، وهذه الحملة على الاستدلال بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم؟
وبناء على هذه المغالطات والشطحات يأتي عالم الفضائيات المشهور ليستنتج أنه ليس من الضروري الاقتداء بالنبي طالما أن الزمان والمكان والحال قد تغير، ويذكر أمورا ليس ضروريا الاقتداء بالنبي فيها يدس بينها قوله: «وليس من الضروري أن نطلب النصرة من أصحاب السلطة والقوة كما طلبها هو من بعض القبائل فاستجاب له الأوس والخزرج، إذ لم يعد ذلك أسلوبا مجديا في عصرنا».
ولا بد هنا من تنبيه هذا «العالم» وأمثاله إلى أمور:
أولا: إن السنة هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وهي أصل من أصول الفقه ومصدر تشريعي كالكتاب. وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم هي جزء من سنته، ولا يوجد موضع للخلاف في ذلك بين المسلمين. وما أتى به هذا «العالم» هو مغالطات لا تليق بمن له إلمام بالشريعة.
ثانيا: إن الاحتجاج بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هو من الاحتجاج بالسنة، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم منها الواجب ومنها المندوب ومنها المباح، ويجب فهم كل فعل على وجهه عند المحتج.
ثالثا: إن الاحتجاج بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليس معناه الاحتجاج بكتاب في السيرة، أو بقصص وروايات ضعيفة أو لا أصل لها. وإنما معناه الاحتجاج بسيرته صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرته منها ما دل عليه القرآن ومنها ما دلت عليه كتب السنة الصحيحة أو الروايات الصحيحة. فموقفه الذي دل عليه القرآن بقوله تعالى: «إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم»، وموقفه في قوله تعالى: «قل يا أيها الكافرون» الآية. وموقفه في قوله صلى الله عليه وسلم: «والله يا عم…» وغير ذلك مما يبين طريقته وسنته وسيرته هو من السيرة. وكذلك مواقفه في الثبات والصبر، ورفض التنازل والمداهنة والمداجاة، وكل ذلك بينه القرآن وبينته السنة، هو من سيرته، وكذلك طلبه للنصرة، وهجرته، وغزواته ومعاهداته وكتبه وغير ذلك هو من سيرته وكل ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم. والمرويات التي تنقل إلينا أفعاله وأقواله إن ترجحت نسبتها إليه صلى الله عليه وسلم فهي من السنة.
على أن هذا العالم قد خاض في مواضيع فقهية وأصولية بطريقة غير علمية ولا موضوعية، وإنما قرر كثيرا من المغالطات على أساس أنها حقائق علمية أو شرعية، واستنتج منها ما أراده سلفا. ولذلك فإننا سنورد هنا بعض ما لا نزاع فيه بين العلماء الأصوليين بشأن أفعلا الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله: (أفعال الرسول ثلاثة أقسام: أحدها الأفعال الجبلّية، أي الأفعال التي من جبلّة الإنسان وطبيعته أن يقوم بها وذلك كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه، فهذه لا نزاع في كون الفعل على الإباحة بالنسبة له صلى الله عليه وسلم ولأمته. القسم الثاني: الأفعال التي ثبت كونها من خواصه صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها أحد، وذلك كاختصاصه عليه السلام بوجوب الضحى والوتر… وكاختصاصه بإباحة الوصال في الصوم ونحو ذلك مما ثبت أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه لا نزاع أنه لا يجوز الاقتداء فيها بالنبي عليه السلام لأن ذلك مما اختص به الرسول. القسم الثالث: ما ليس من الأفعال الجبلّية وليس مما اختص به الرسول عليه السلام، أي سائر الأفعال، وهذه لا نزاع في أننا مأمورون بالاقتداء فيها بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزاع في أنها دليل شرعي كأقواله وسكوته فيجب العمل به لأنه فعله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[، ولقوله تعالى: ]إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ[، وقوله تعالى: ]إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي[، وهذا صريح وواضح وظاهر في العموم فيشمل كل ما يقوم به الرسول من أعمال كما يشمل الأقوال ويشمل السكوت).
وهنا، يحاول المحرفون أن يغالطوا، فيقولون مثلا: لقد هاجر الرسول لقد هاجر الرسول من مكة إلى المدينة فهل علينا أن نهاجر؟ يوجهون مثل هذا الاستنكار بسطحية ولأجل التقرير. ولكنا نجيبهم: إن الحكم الشرعي يتعلق بمناطه، ويتعلق به سببه أو شرطه، أو ما جعله الشارع متعلقا به من أحكام الوضع. فإذا تحقق وجود المناط، فإنه يوجد الحكم، ويجب التقيد به، على وجهه، وبحسب ما بينه الشرع، أي بحسب أحكام الوضع. وللتفصيل نقول: لقد صام الرسول فهل نصوم؟ ونحن اليوم في شوال أو محرّم. والجواب: لقد صام النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان، وكان صيامه على وجه الوجوب، فيجب علينا الصيام في رمضان. وإذا لم يكن رمضان فلا يجب الصيام، ورمضان يعرف برؤية هلاله، فبحصول الرؤية يعرف وجود الوجوب، ويتعلق هذا الوجوب بالمكلف. فحكم وجوب الصيام قائم، ونصوم إذا تحقق السبب وهو رؤية الهلال أو إتمام الثلاثين. فإذا كان المكلف مسافرا يباح له الإفطار، لأنه تعلقت بالحكم رخصة، وإن كانت حائضا تفطر وجوبا لوجود المانع من الأداء. وكذلك صام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان ندبا أو نافلة، فيجب الاقتداء به، فيعتبر ذلك الصيام مندوبا، ونصوم اقتداء بالنبي مثل ذلك الصيام، أي على وجهه، أي ندبا، فلا يصح اعتبار ذلك الصيام واجبا ولا مباحا. ومعنى هذا أنه يندب ذلك الصيام ولفاعله أجر، ويباح عدم الصيام ولا وزر في ذلك. فهذا في غير رمضان.
وهكذا، فالحكم له مناطه، يوجد بوجود مناطه وتتعلق به أحكام هي أحكام الوضع. ويتقيد بالحكم إذا وجد مناطه وبحسب ما يتعلق به من الأحكام الأخرى.
وهكذا الهجرة من مكة إلى المدينة فهي هجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام فإذا وجدت دار الإسلام اليوم وجبت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام على وجهها كما كانت من مكة إلى المدينة إلا من استثنوا بالنصوص الشرعية، فإذا أصبحت دار الكفر دار إسلام فلا هجرة منها كما انتفت الهجرة من مكة بعد أن فتحت وصارت دار إسلام كما قال صلوات الله وسلامه عليه: «لا هجرة بعد الفتح».
وهذا ما يقال عن طلب النصرةـ اليومـ فهو الحكم الشرعي، الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لإزالة الحكم بالكفر، ولإقامة الحكم بما أنزل الله، وليس لأحد أن يحدد بأهوائه أو مصالحه أنه ضروري أو غي ضروري. فالمسألة هي أن مناط الحكم قد وجد فوجب تطبيقه كما أمر الله.
وطلب النصرة هو فعل قام به النبي صلى الله عليه وسلم مرات عديدة ولفترة طويلة، فهو من سنته بلا شك. والاقتداء به صلى الله عليه وسلم واجب على وجهه.
والذي يدل على أنه للوجوب هو أنه بيان لواجب. فقد دلت آيات القرآن على وجوب حمل الدعوة والحكم بما أنزل الله وإظهار الإسلام على الدين كله، وعلى وجوب التكتل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في حم الدعوة في مكة إلى أن أقام الدولة في المدينة هي بيان لآيات الكتاب المتعلقة بحمل الدعوة وإيجاد الكتلة وإقامة الدولة، فتكون هذه الطريقة ومنها طلب النصرة واجبة لأنها بيان لواجب. ولقد تقرر في أصول الفقه أن البيان كالمبين من حيث الحكم. فبيان الواجب واجب، وبيان المندوب مندوب، وبيان المباح مباح. وسنة الرسول ومنها سيرته هي بيان لآيات الكتاب في الغالب الأعم. قال تعالى: ]وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[.
هذا فضلا عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم استمر بطلب نصرة القبائل دون أن يغيرها بطريقة أخرى رغم الردود الصعبة التي حدثت ورغم الأذى الشديد في بعضها الذي أصاب الرسول في جسمه الشريف. ومن المعروف في الأصول أن التزام الفعل وتكراره مع المشقة فيه دون تغييره يكون قرينة على الوجوب.
وأما ما طلع علينا به مؤخراً، العالم المشهور، بقوله رداً على فكرة طلب النصرة: لا نريد حكماً عسكرياً، فهو سقطة معيبة. ونقول له: عندما تزعم أنه ليس ضرورياً الاقتداء بالنبي في طلب النصرة حيث استجاب له الأوس والخزرج، فهذا إقرار منك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب النصرة وحصل عليها، وأقام سلطان الإسلام بها، فهل أقام حكماً عسكرياً؟! نحن نريد أن نقيم حكماً مثل الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، وبالطريقة التي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم بها وهو لن يكون حكما عسكريا بوليسيا بمعناه المعروف بل سيكون حكما عادلا آمنا تتحقق فيه العزة للإسلام والمسلمين، والذلة والصغار للكفر والكافرين.
هذه هي الخلافة التي نريد وهذا هو طلب النصرة الذي سنه وأوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقة لإقامتها وهو الحق ولا يضر هذا الحق وقوف الحكام العملاء في وجهه ولا كتمان علماء السلاطين له أو محاولة تشويهه بل يضرون أنفسهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد□
2001-02-25