أسيد بن حضير
2008/08/03م
المقالات
1,850 زيارة
أسيد بن حضير
ورث المكارم كابراً عن كابر..
فأبوه حضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحداً من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء.
وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحداً من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ. فلما اصطفاه الإسلام، وهدي إلى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه، وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه كواحد من أنصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين إلى الإسلام العظيم. ولقد كان إسلامه يوم أسلم سريعاً، وحاسماً وشريفاً…
فعندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام على الإسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم إلى دين الله. يومئذ، جلس أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو إلى دين جديد لا يعرفونه.
وقال سعد لأسيد: “انطلق إلى هذا الرجل فازجره…”. وحمل أسيد حربته، وأغذ السير إلى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا إلى الإسلام.
وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها مصعب بن عمير إلى الله… وفاجأهم أسيد بغضبه وثورته…
وقال له مصعب: هل لك في أن تجلس فتسمع.. فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته، كففنا عنك ما تكره”.. كان أسيد رجلاً.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..
فلما رأى مصعباً يحتكم به إلى العقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب:
لقد أنصفت، هات ما عندك…
وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته. ويقول الذين حضروا هذا المجلس:
“والله لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم.. عرفناه في إشراقه وتسهّله..!”.
لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهوراً: ما أحسن هذا الكلام وأجمله…
كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين”.؟
قال له مصعب: تطهر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي…”.
إن شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها، لا تتردد لحظة أمام إرادتها الحازمة.. ومن ثمّ، قام أسيد من غير إرجاء ولا إبطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلناً إسلامه، مودّعاً أيام وثنيّته، وجاهليته!! كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل إليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير وإخراجه.. وعاد إلى سعد… وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: «أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به..».
أجل.. لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي.. وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!! وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلاً…
إنه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماماً في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره…
ويعلم أنه ليس بينه وبين الإسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم مصعب بن عمير (رضي الله عنه)…
لكنه لو قال لسعد: إني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة…
إذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه إلى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى…
فكيف السبيل لهذا؟.. كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفاً على أسعد ابن زرارة… وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد ابن معاذ… هنالك قال أسيد لسعد:
“لقد حدّثت أن بني الحارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك”.. وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعاً إلى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين…
ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاء ولا لغطاً، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم…
هنالك أدرك الأمر الذي نسجه له أسيد لكي يحمله على السعي إلى هذا المجلس، وإلقاء السمع لما يقوله سفير الإسلام مصعب بن عمير. ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للإسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين!!
كان أسيد يحمل في قلبه إيماناً وثيقاً ومضيئاً… وكان إيمانه يفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلاً للثقة دوماً.. وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:
“لقد أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم… أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير دياركم… أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل”..
سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقاً عليه أن يخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. وتألم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً، وقابله أسيد، فقال له النبي عليه السلام: أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟
قال أسيد: وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟
قال الرسول: عبدالله بن أبيّ!!
قال أسيد: وماذا قال..؟؟
قال الرسول: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.
قال أسيد: فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها إن شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز…
ثم قال أسيد:
“يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وان قومه لينظـمون له الخـرز ليتوّجوه على المدينة ملكاً، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكاً”… بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح كان أسيد دائماً يعالج المشاكل، ويواجه القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة…
وفي يوم السقيفة، إثر وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالاً في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاه… وقف أسيد فقال مخاطباً فريق الأنصار من قومه:
“تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المهاجرين… فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين…
ولقد كنا أنصار رسول الله… وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته… وكانت كلماته، برداً، وسلاماً. ولقد عاش أسيد بن حضير (رضي الله عنه) عابداً، قانتاً، باذلاً روحه وماله في سبيل الخير، جاعلاً وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصار نصب عينيه:
“اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض..”.
ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق وحبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعاً. وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن إحدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها…
ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه… وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد… وأبى أمير المؤمنين عمر إلا أن يحمل نعشه فوق كتفه… وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم… وعادوا إلى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه: نعم الرجل… أسيد بن حضير..”.
ابو علي الحق
2008-08-03