علاقات الكتائب بإسرائيل تعود إلى 1948
1989/10/25م
المقالات
3,935 زيارة
قامت جريدة الحياة اللبنانية التي تصدر الآن من لندن بنشر سلسلة من المقالات لجوزيف أبو خليل، أحد مسؤولي حزب الكتائب. وهو يدافع في هذه السلسلة عن علاقات الكتائب بإسرائيل.
وقام بدر الحاج بنشر المقالة التالية في جريدة الحياة نفسها في العدد 9746 (16/08/1989). وبدر الحاج هو مؤلف كتاب (الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان). وقد رأت «الوعي» إعادة نشر هذه المقالة لاطلاع قرائها عليها.
قدمت «الحياة» لما تنشره من كتابات لجوزيف أبو خليل عن الحرب اللبنانية بقولها إنها أشبه بالرواية، وأنَّ أبو خليل، لم ينافق، ولم يحاول الكذب، أو لنقل أنه لم يحاول التهرب من المسؤولية…»الخ.
والواقع إن الرواية التي يسردها أبو خليل على صفحات «الحياة» تنفض تماماً، الوصف الذي أسبغ عليها. ولكي لا يصنَّف كلامنا هذا في خانة التطرف والاتهامات، نستطيع من خلال قراءة سريعة في وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية التي يحتفظ بها «مركز الدارسات اللبنانية» في مدينة أوكسفورد، أن نثبت من دون أي شك أن أبو خليل كان متجاهلاً أو متعمداً ذكر رواية مختلفة لحقيقة العلاقة بين حزب الكتائب وإسرائيل. ونحن نسوق هذا المثل فقط كنموذج لما يرويه أبو خليل من أحداث يحملها آراءه وآراء حزبه.
ولا بدَّ لي هنا من الاعتراف بأنني لست في مجال الرد على كل القضايا التي أثارتها مقالات أبو خليل، بل سأثير قضية علاقة أبو خليل وحزبه مع إسرائيل فقط مع العلم أن منظور أبو خليل وحزبه للبنان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً يتناقض جذرياً مع مفهوم أكثرية اللبنانيين، وأنا من بينهم، ولا أعتقد أن هناك مجالاً مستقبلياً في إيجاد قواسم مشتركة لمفهومين متناقضين تناقضاً جذري.
اعتبر أبو خليل بعد رواية دراماتيكية لأحاديثه مع بيار الجميل قبل رحلته إلى إسرائيل لطلب المساعدة أو بالعبارة التي ذكرها أمام الإسرائيليين ـ اعتبرونا شحاذين ـ إن مبادرته كانت «شخصية! لم يسبقها أي قرار سياسي وأي استعداد لها أو تحضير…» وأضاف أن سبب اللجوء إلى إسرائيل للمساعدة كان «لاعتبارات الدفاع عن البقاء» لأن شباب الكتائب من دون سلاح وذخيرة وشدد على أن الكتائب لم يكن لها سابقاً أي استعداد ذهني للاتصال بإسرائيل، على رغم أن بيار الجميل كان يهدد دائماً بالاستعانة «بالشيطان» واستدرك أبو خليل مفسراً «النوايا الحقيقة لبيار الجميل بأنها كانت «للتخويف»! فقط. هذه باختصار المحاور الأساسية في رواية أبو خليل لعلاقته وحزبه بالدولة اليهودية.
ولا مجال هنا للخوض في تفاصيل ما قاله أبو خليل للإسرائيليين، ولا ردود الإسرائيليين عليه على الرغم أن رواية أبو خليل تتناقض مع روايات القادة الإسرائيليين أنفسهم وخصوصاً رواية الجنرال ابراهام تامير رئيس دائرة التخطيط في وزارة الدفاع الإسرائيلية الذي حضر معظم اللقاءات مع قادة الكتائب والأحرار وتحدث في كتابه «جندي من أجل السلام» بالتفصيل عن مواقف الكتائب والأحرار. وباعتقادنا أن التحالف الإسرائيلي ـ الكتائبي، وما جرّه على لبنان ممن دماء يثبت صحة الرواية الإسرائيلية وأوهام «الاستقلالية» التي يسبغها أبو خليل على حزبه، والوثائق التي سأشير إليها تؤكد أيضاً على التحالف الأيديولوجي للتيارات المذهبية في المشرق العربي قديم، وإن «الشحاذة» من الإسرائيليين كما يقول أبو خليل بدأت بشكل مبرمج ومنظم منذ أواخر الأربعينات من هذا القرن وبمعرفة وإشراف وتوجيه مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل.
تنفي الوثائق الإسرائيلية نفياً قاطعاً رواية أبو خليل ببراءة الكتائب ومؤسسها من التعامل تاريخياً مع إسرائيل سواء عندما حرص أبو خليل على إبلاغنا استغراب بيار الجميل اقتراحه بالذهاب إلى إسرائيل، أو عندما استهل إحدى الحلقات التي ينشرها بمذكرة طويلة لبيار الجميل يتحدث فيها عن تأييده لحقوق الشعب الفلسطيني!
إنَّ في الوثائق الإسرائيلية ما يدين ليس حزب الكتائب فقط، بل التيارات السياسية الأخرى، كتيار «الكتلة الوطنية» بقيادة أميل إده، والمطران مبارك والبطريك عريضة والمطران عبد الله خوري. وهذه الإدانة نستخلصها بوضوح قبل أن تنتصر الكتائب «للسيادة اللبنانية» كما يقول أبو خليل، وقبل وجود أي أثر للمقاومة الفلسطينية في لبنان، وقبل «أن يحشر المسيحيون»! كما يحلو لأبو خليل أن يصور لنا معتبراً حزبه حامي المسيحية في لبنان.
تذكر الوثائق الإسرائيلية أن بداية العلاقات مع حزب الكتائب جاءت بمبادرة القيادي الكتائبي إلياس ربابي الاتصال بالزعماء الإسرائيليين وطلب المساعدة المادية والعسكرية لحزبه ـ المسيحي الماروني ـ كما وصفته الوثيقة الإسرائيلية، بهدف العصيان وقلب نظام الحكم في لبنان، وذلك بسبب غضب ونقمة كل من الكتائب وإميل إده والمطران مبارك من انضمام لبنان إلى الجامعة العربية، ومن مشاركة الجيش اللبناني الرمزية في القتال ضد اليهود بعد إعلان دولة إسرائيل في 15 أيار (مايو) 1948. وتشير مذكرة مجلس الطوارئ الأميركي ـ الصهيوني المؤرخة في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1950 والتي كتبتها سولاميت شوارتس والموجهة إلى موشي شاريت وزير الخارجية الإسرائيلية إلى دور الأب يوسف عواد في منطقة واترفيل في ولاية ماين الأميركية بالتنسيق السياسي والإعلامي مع المنظمة الصهيونية وحزب الكتائب اللبنانية. وتذكر الوثيقة أن مجلس الطوارئ الأميركي ـ الصهيوني ناشد الأب عواد مساعدته في أوساط المهاجرين اللبنانيين في الولايات المتحدة بالدعوة لمؤسسة النشر المسماة «فينيقيا ـ برس» بهدف تمكينها من بث الدعوة لصالح إقامة «الدولة المسيحية» في لبنان في حركة تهدف كما جاء في الوثيقة إلى «فصل لبنان عن العالم الإسلامي والرجوع به ثلاثة آلاف عام إلى الوراء، أي للعهد الفينيقي…» وتذكر الوثيقة أن إلياس ربابي، الذي تصفه بالرجل الثاني في حزب الكتائب، قدم مذكرة تفصيلية يقترح فيها تأمين مبلغ 50 ألف دولار (وهو مبلغ ضخم في ذاك الوقت) للتوسع في دار النشر ولشراء آلات طباعة جديدة لجريدة «العمل» التي كان يرأس تحريرها بهدف الدعوة لـ «الوطن القومي المسيحي» في لبنان، وتأييد الأهداف الصهيونية في فلسطين.
وتصف المذكرة إلياس ربابي بأنه «لا يقل حماسة للصهيونية وأهدافها عن المطران مبارك صاحب المذكرة المشهورة إلى لجنة التحقيق الدولية بشأن قضية فلسطين والتي قدمها في 5 آب «أغسطس» 1947 محدداً فيها موقفه بالقول: «إن هناك أسباباً رئيسية اجتماعية وإنسانية ودينية تقضي بأن يخلق وطنان للأقليات، وطن مسيحي في لبنان كما كان دائماً، ووطن يهودي في فلسطين، وسيكون هذان الوطنان مرتبطين ببعض جغرافياً ويتساندان ويتعاونان اقتصادياً…».
ومما ذكرته شوارتس في المذكرة نقلاً عن إلياس ربابي قولها: «إن الكتائب تصر إلى إخراج لبنان من الجامعة العربية وعلى عقد السلام مع إسرائيل. وإنشاء علاقات اقتصادية معها». وتضيف أن المطران مبارك يؤيد هذه الأفكار بحماس. وبناء على تلك المذكرة التي طالب فيها ربابي بالسلاح والمال أصدر شاريت تعليماته لعقد اجتماع مع ربابي يحضره جدعون رفائيل مدير الدائرة السياسية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ونالت تعليمات شاريت موافقة ديفيد بن غوريون رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك.
عقد الاجتماع بين إلياس ربابي والإسرائيليين في نيويورك بتاريخ 12 كانون الثاني (يناير) 1950 بحضور شولاميت شوارتس. وكتب جدعون رفائيل مذكرة حول ما دار في الاجتماع قال فيها: «ذكر لي إلياس ربابي أن حزب الكتائب يعتزم دخول الانتخابات النيابية في لبنان عام 1951، ويأمل بالفوز بأربعة أو خمسة مقاعد…»، وأضاف جدعون نقلاً عن ربابي: «إن زعماء الكتائب مقتنعون على الدوام بأن مصير المسيحية في لبنان مرتبط بقيام العلاقات الوثيقة مع دولة إسرائيل(…) وأنه يثق بتفهم إسرائيل لأهمية تقديم الدعم للكتائب خصوصاً الحاجة للمساعدة المالية لخوض الانتخابات والتي تحتاج إلى نفقات كبيرة للرشوة وشراء الأصوات…» واقترح ربابي أن يكون المبلغ ما بين 25 ألف دولار على أقل تقدير إلى مئة ألف دولار.
وجاء في تقرير آخر موجه إلى موشي شاريت عن لقاء إلياس ربابي مع رفائيل نجار المستشار الثاني للسفارة الإسرائيلية في باريس والياهو ساسون مدير قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية أن ربابي تسلم مبلغ 2000 دولار من يهوشواع بالمون (من تقرير حول اجتماع بالمون وساسون وربابي المؤرخ في 26 آذار (مارس) 1951). ويحدد ساسون موقفه من ربابي والكتائب في معرض رده على تساؤلات أحد المسؤولين في قسم شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية: «إن ربابي معروف من قبلنا وذلك من خلال الاجتماع الذي عقدناه معه منذ عام ونيف في باريس، حيث قدمنا له مبلغاً صغيراً من المال بمثابة قرض». ويضيف ساسون أن ربابي كان عرض فكرة إخراج لبنان من دائرة النفوذ العربي وربطه بإسرائيل. هذه الفكرة التي «رأينا فيها مدخلاً لتغيير والوضع القائم في الشرق الأوسط»، مستخدماً العبارة نفسها التي وردت في رسالة شاريت لايتان المؤرخة في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1950، حين قال: «إن إلياس ربابي جدير بالاهتمام، فالصورة التي ترسمها مذكرته وتدعو إخراج لبنان من الحظيرة العربية والائتلاف مع إسرائيل، صورة تنعش القلب وتفتح الباب لإعادة بنيان الشرق الأوسط كله». وأضاف شاريت: «حتى لو لم يتحقق هذا الهدف عاجلاً، لكنه يبقى هدفاً قائماً بذاته يستحق الكفاح من أجله واستثمار كل الجهود والوسائل اللازمة لتحقيقه».
وقبل أن نختتم الحديث عن مبادرة إلياس ربابي «الشخصية» كما قد يحلوا لأبو خليل تسميتها، لا بد من أن نقتطف من مذكرة شولاميت شوارتس المؤرخة في 15 أيار (مايو) 1951 والموجهة إلى موشي شاريت وزير الخارجية الإسرائيلية، هذا المقطع على لسان إلياس ربابي والذي يعتبر برأينا الموقف الحقيقي لتشكيلات الحزبيات الطائفية في لبنان. تقول شوارتس عن ربابي والكتائب: «إن موقفهم المؤيد للصهيونية هو نزعة متأصلة فيهم حيثما وجدوا، هذه النزعة قوية، مطلقة إلى حد أنها مخيفة في بعض الأحيان بحيث يصعب التعبير عنها بكلمات. قال لي ربابي معبراً عن كرهه العميق للمسلمين: «لقد عشنا معهم 1300 سنة، نحن لا نعتبرهم بشراً، إنهم بحاجة إلى قرن على الأقل كي يتطوروا قليلاً».
ولكي لا يعتبر جوزف أبو خليل أن حزب الكتائب فقط كان المبادر منذ السنوات الأولى لقيام دولة إسرائيل إلى الاتصال بقادتها وطلب الدعم المالي والعسكري، فإن الوثائق الإسرائيلية تتحدث أيضاً عن الدور الريادي في هذا المجال لكل من المطران مبارك مشاركاً حزب الكتائب وإميل إده.
بالنسبة إلى المطران مبارك أود هنا أن أشير إلى حادثة واحد فقط لها دلالاتها الواضحة، والحادثة أصبحت اليوم للذكرى وللتاريخ. فخلال محاكمات السوريين القوميين الاجتماعيين في لبنان والتي جرت في خريف عام 1949 بعد إعدام مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، أبرز القاضي يوسف شربل وثيقة اعتبرها دليلاً على تعاون سعادة مع إسرائيل! والوثيقة عبارة عن رسالة مؤرخة في 13 أيار (مايو) 1949 وجهها مسؤول الحزب السوري القومي الاجتماعي في منطقة عكا محمد جميل يونس إلى سعادة ويشير فيها إلى: «أن منظمة الفالانج ـ الكتائب ـ والمطران اغنطانيوس مبارك على اتصال ومفاوضة مع إسرائيل لقلب نظام الحكم وإنشاء الوطن المسيحي واضطهاد الفئات الأخرى. وقد اتطلعت من المواطنين على كتب توصية من المطران مبارك لإسرائيل، وسأحاول الحصول على نسخ منها».
وتكشف الوثائق الإسرائيلية صحة معلومات محمد جميل يونس. فقد جاء في مذكرة كتبها خبير الشؤون اللبنانية والسورية في وزارة الخارجية الإسرائيلية شموئيل يعري ومؤرخة في 28 شباط (فبراير) 1949، أن قسم شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية تلقى في 24 شباط (فبراير) 1949 خبراً من حيفا عن وصول ثلاثة رجال من لبنان يدعون تمثيل المطران مبارك ويرغبون بمقابلة ممثلين عن وزارة الخارجية الإسرائيلية. إثر ذلك توجه شموئيل يعري للاجتماع بالأشخاص الثلاثة وهم سليمان شكور وفريد حوري وتوفيق سمعان.
وتضيف المذكرة أن توفيق سمعان قدم نفسه بصفته ممثل المطران مبارك الخاص ويخمل منه كتاب تعريف وتوصية موقع بتاريخ 15 شباط (فبراير)، يطلب فيه المطران من السلطات الإسرائيلية تسهيل مهمة سمعان. هذه المهمة التي كانت ـ كما تشير المذكرة ـ تنحصر في معرفة الموقف الرسمي الإسرائيلي من مسألة الإعداد لثورة في لبنان. ووفق ما ذكره سمعان فإن أسس الثورة وضعت، وكل ما يلزم هو تقديم المشورة المساعدة من الإسرائيليين لأن شعور المسيحيين بالمرارة وصل إلى ذروته وأن بيار الجميل والرئيس السابق إميل إده يؤيدان أن خطة مبارك للإطاحة بالحكم. (الوثيقة من ملف رقم 23/ 2563).
أما بالنسبة إلى إميل إده فإن لقاءاته في بيروت وباريس مع زعماء الوكالة اليهودية في فلسطين، وبالتحديد حاييم وايزمن والياهو ساسون بدأت في الثلاثينيات من هذا القرن، وأشار إليها، بالتفصيل كل من الياهو ساسون والياهو ايلات في مذكراتهما. كما تحفل وثائق الأرشيف الإسرائيلي بتفاصيل اللقاءات مع إده الذي كان يرى ضرورة المحافظة على «نقاء لبنان المسيحي» ولذلك فرض أصلاً ضم «الأقضية الأربعة» إلى جبل لبنان، وقد رفع مذكرة بهذا الشأن إلى نائب وزير الخارجية الفرنسية عند زيارته باريس عام 1932 معتبراً أن التكاثر السكاني الإسلامي يشكل خطراً على الأكثرية المسيحية. وآراء إده هذه لا تختلف من حيث المضمون عن آراء المطران مبارك أو الجميل وأنجاله.
وفي وثيقة بعنوان «حديث مع إميل إده في 3 تموز (يوليو) 1949» مرسلة من ز. زيلغسون إلى ي. شمعوني في وزارة الخارجية الإسرائيلية، يتحدث زيلغسون عن لقائه بإميل إده في باريس حيث تم البحث في إمكان القيام بثورة في بيروت بعد أن يقوم الجيش الإسرائيلي بغزو جنوب لبنان. وقد اشتكى إده من عدم وجود سلاح في أيدي المسيحيين ـ تماماً كشكوى أبو خليل بعد ثلاثين سنة ـ ومن افتقار المعارضة المسيحية للوحدة، لذلك اقترح إده أن يصل الجيش الإسرائيلي إلى صور ومن الأفضل برأيه إلى صيدا لكي يبدأ بعد ذلك تحرك قوى المعارضة لإرباك الحكم وإسقاطه. واقترح على إسرائيل أيضاً التمهيد للغزو بحرب نفسية وتوزيع منشورات بواسطة الطائرات فوق بيروت ودمشق تحذر المواطنين من التعرض للجيش الإسرائيلي!
وما أشرنا إليه هو جزء يسير جداً من علاقات التحالف بين شتى التيارات الطائفية في لبنان والدولة العبرية. لذلك نخالف أبو خليل الرأي بأن مبادرته للاتصال بإسرائيل كانت «فردية» ومن دون تخطيط مسبق! ولا نعتقد أن الكتائب التي جرت الحرب بارتكابها مجزرة الباص في منطقة عين الرمانة كانت تفتقر إلى السلاح والذخيرة بدليل أن مخازن الجيش اللبناني كانت مفتوحة، كما يعلم الجميع، لصالح ميليشيا الكتائب.
نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها، وهو قول أبو خليل أن حماية الكتائب للحي اليهودي في وادي أبو جميل في بيروت كانت من باب ما أسماه «البعد الإنساني» للكتائب وإيمانها بتعايش الأديان على أرض لبنان!
الواقع يتناقض تماماً مع هذا الكلام والدليل أن رئيسه شبكة التجسس الإسرائيلية في لبنان شولا كوهن تذكر في مذكراتها التي نشرت بالإنكليزية في نيويورك سنة 1980 أن تعاوناً وثيقاً كان قائماً بين حزب الكتائب وحاييم مولشو أحد قادة المخابرات الصهيونية في لبنان. وتقول كوهن أن رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل شارك شخصياً مع قادة حزبه في احتفال بارمتسفاه لابنها (وهو الاحتفال الذي يقام وفق الشعائر اليهودية لكل ذكر يهودي يبلغ الثالثة عشرة من العمر) كتعبير عن متانة العلاقات المشتركة. كما أن رئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون أرسل إلى الكنيس اليهودي في وادي أبو جميل سيارة ليموزين سوداء تابعة للقصر الجمهوري محملة بالزهور في المناسبة.
ولا أعتقد أن الجميل وشمعون يجهلان من هي شولا كوهن، كذلك لا أعتقد أن المبادرة الذاتية من الجميل أو شمعون إنما جاءت من باب الاعتزاز بالمواطنين اليهود اللبنانيين. فالحقيقة أن التمارين الرياضية التي كانت تقوم بها شبيبة حركة مكابي اليهودية في وادي أبو جميل لم تكن سوى قناع تختفي وراءه النية لتشكيل قوة دفاع يهودية ذاتية في الحي، تلك القوة التي اشتركت في تمارينها مع قوات الكتائب منذ مطلع الأربعينات. وهذا ما يذكره يشعياهو بن تدبن في تعليق له حول نشاطات شولا كوهن في بيروت نشر في جريدة «جيروزاليم بوست» في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1979.
وإذا افترضنا جدلاً، أن هناك «بعداً إنسانياً» دفع الكتائب إلى حماية وادي أبو جميل، فلماذا لم يظهر هذا البعد الإنساني في مجازر السبت الأسود، والنبعة، والكرنتينا والمتن والكورة الصفرا وإهدن؟
إن تحليلاً للأحداث الدامية التي تجري في لبنان سيقودنا بالضرورة إلى مراجعة المراحل السابقة لهذه الأحداث والتي لا تقدم لنا الخلفيات التاريخية لها فحسب. وإنما تقدم صورة واضحة عن الإفلاس المريع الذي وصلت إليه التيارات الطائفية في شتى اتجاهاتها وأبطالها. فالتحالفات التي أقيمت مع الوكالة اليهودية في فلسطين في الثلاثينات والأربعينات من قبل عريضة وإدة ومبارك هي، في خطوطها العامة، نتيجة للحقد الطائفي الذي عطل عقول هذه القيادات. فالاستراتيجية الصهيونية في لبنان ومنطقة المشرق العربي التي تعتمد التمزيق تتم اليوم باتساع وشمول مع تبدل في الأسماء فقط.
هناك نقطة أخيرة نتفق بها مع أبو خليل، وهي أن الولادة الجديدة للبنان قادمة، فالحرب الحالية لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، والولادة الجديدة ستكون حتماً ولادة دولة يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات بمعزل عن الانتماءات المذهبية، دلو لها دستور وقوانين وأنظمة. هذه الدولة سننتصر لها حتماً لأن دستورها سيضع الذين يتعاونون مع العدو في خانة الذين سيعاقبون العقاب الصارم!
1989-10-25