السياسة المالية في دولة الخلافة (5)
جباية الزكاة وتوزيعها
الزكاة هي أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي واجبة شرعًا بالكتاب، والسنة، والإجماع. ففي الكتاب، قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ﴾ [البقرة:43]. أما في السنة فإن سیدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن فقال: “أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فتُردُّ في فقرائهم“ [فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/450، کتاب الزكاة، سنن النسائي، ص: 426. سنن الترمذي، ص:194]. واتفق الصحابة، رضي الله عنهم، على قتال مانعيها، وإذا كان مانع الزكاة خارجًا عن قبضة الإمام قاتله؛ لأن سيدنا أبا بكر، رضي الله عنه، قاتل مانعيها.
وقال الإمام الشافعي: “ففرض الله على من له مال تجب فيه الزكاة أن يؤدي الزكاة إلى من جعلت له، وفرض على من وَلِيَ الأمر أن يؤديها إلى الوالي إذا لم يؤدِّها” [الأم، 2/76] وأضاف: “لا ينبغي لوالي الصدقة أن يَسِمَ كل ما يأخذ منها من إبل، أو بقر، أو غنم” [الأم، 2/86].
ويقول الإمام مالك: “الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي… وليس للعامل على الصدقات فريضة مسماة إلا على قدر ما يرى الإمام” [الموطأ، 2/268]. وعن أنس أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم” ماذا إذا أديتُ الزكاة إلى رسولك، فقد برئتُ منها إلى الله ورسوله؟ قال: “نعم، إذا أدَّیتَها إلى رسولي؛ فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فلك أجرها، وإثمها على من بدَّلها“ [مسند الحارث (زوائد الهيثمي)، 1/385]
يقول أبو يوسف في كتابه للخليفة هارون الرشید: “فمُرْ، يا أمير المؤمنين، العاملين عليها، بأخذ الحق، وإعطائه من وجب له وعليه، والعمل في ذلك بما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء من بعده” [الخراج، ص76]. وأضاف: “ومُرْ، يا أمير المؤمنين، باختيار رجل، أمين، ثقة، عفيف، ناصح، مأمون، عليك، وعلى رعيتك، فولِّه جمع الصدقات في البلدان… فإن مال الصدقة لا ينبغي أن يدخل في مال الخراج” [الخراج، ص80].
وذكر أبو عبيد في الأموال: “كانت الصدقة تُرفع، أو قال: تدفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمَرَ به، وإلى أبي بكر أو من أمر به، وإلى عمر أو من أمر به، وإلى عثمان أو من أمر به، فلما قُتل عثمان اختلفوا، فكان منهم من يدفعها إليهم، ومنهم من يقسمها. وكان ممن يدفعها إليهم ابن عمر” [أبو عبيد، القاسم بن سلام، الأموال، ص527]. وأشار أبو عبيد إلى أن السيدة عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، كانت تدفع زكاتها إلى السلطان. وأورد روايات عديدة عن الصحابة تشير إلى دفع مال الصدقة إلى “السلطان“ أو “الأمراء” أو “الولاة“ أو“من ولاه الله أمركم” أو “إلى من بایعت” أو إلى “الإمام“ أو “ولاة الأمر“.[أبو عبيد القاسم بن سلام، الأموال، مرجع سابق، ص5۲۷-531].
وقال ابن تيمية: “فعلی ذي السلطان (الخليفة)، ونوابه في العطاء، أن یؤتوا كل ذي حق حقه، وعلى جباة الأموال، كأهل الديوان، أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه، وكذلك على الرعية الذين يجب عليهم الحقوق” [ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص ۲۹]. وأضاف: “والذي على وليِّ الأمر، أن يأخذ المال من حلِّه، ويضعه في حقه” [ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 32].
وعن عتَّاب بن أُسيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرُصُ علیهم کرومهم وثمارهم” [سنن الترمذي، ص193]. وجاء في “المغني”، لابن قدامة: “وينبغي أن يبعث الإمام (الخليفة) ساعِيَه، إذا بدا صلاح الثمار، ليخرصها، ويعرف قدرَ الزكاة، ويُعرِّف المالكَ ذلك” [ابن قدامة، المغني، 2/567].
ومما يؤكد خطورة هذه الفريضة الشرعية، وهذا الركن الهام من أركان الإسلام، وأهمية دور دولة الخلافة في الخرص، والجباية، والإنفاق لهذه الفريضة وجود الأدلة التالية:
أولًا: إن الإسلام فرض قتال مانعيها، والقتال لا يجاز إلا للقضايا المصيرية الهامة، واعتبر الإسلام من يمتنع عن أدائها جاحدًا وجوبها، مرتدًا، ويعامل معاملة المرتد، وإن امتنع عن أدائها معتقدًا وجوبها، أخذت منه بالقوة. وإن رفضت جماعة من المسلمين دفع الزكاة لدولة الخلافة، وتحصنوا في مكان معين، قاتلتهم الدولة قتال بغاة، كما قاتل سیدنا أبو بكر، رضي الله عنه، والصحابة مانعي الزكاة. “وإن منعها معتقدًا وجوبها، وقدر الإمام على أخذها منه، أخذها وعزَّره، ولم يأخذ زيادة عليها، في قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأصحابهم، وكذلك إن غَلَّ ماله، وكتمَه، حتى لا يأخذ الإمام الخليفة زكاته، فظهر عليه، وقال إسحق بن راهَوَيْه، وأبو بكر عبد العزيز، يأخذها وشطر ماله” [ابن قدامة، المغني، 2/434-437، عبد القديم زلوم، الأموال في دولة الخلافة، ص 177].
ثانيًا: إن الإسلام كَلَّف ولي الأمر (الدولة) بعملية التقدير (الخرص)، وجباية الزكاة، ومحاسبة الجباة، كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة، وفي السيرة النبوية:
أ. الدولة والخرص، وردت عدة أحادیث، تفيد مسؤولية الدولة عن ذلك، منها: عن أبي حمید الساعدي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : “اخرصوا“. فخرص القوم، وخرص رسول الله عشرة أوْسُق، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة: “أحصي ما يخرج منها، حتى أرجع إليك، إن شاء الله“ [صحيح ابن خزيمة، 4/40]
وهناك عدة روايات في الثمار التي تخضع للخرص، وهي النخل والعنب التمر والزبيب، ويكون وقت الخرص، حين يبدو صلاح الثمر، ويحل بيعه. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي المسلمين بالتخفيف على الناس في الخرص؛ لأن هذه الثمار قابلة لأن يأكل منها المارة، وأن تعطى على سبيل العَرِيَّة (هبة ثمر النخيل لمدة عام، أي موسم إثمار، وإبقاء ملكية الشجر لمالكه). ويقول ابن قدامة: “وينبغي أن يبعث الإمام ساعيه إذ بدا صلاح الثمار، ليخرصها، ويعرف قدر الزكاة، ويُعرِّفَ المالك ذلك” [ابن قدامة، المغني، 2/567].
ب. الدولة وتعيين الجباة، كان صلى الله عليه وسلم لا يرسل الولاة من خيرة من دخلوا الإسلام، وكان يأمرهم تلقين الذين أسلموا الدين، ويأخذ الصدقات منهم، ويسند إلى الوالي في كثير من الأحيان جباية الأموال، وحين أرسل معاذًا إلى اليمن كان مما قال له: “… فأخبرهم أن الله تعالی فرض عليهم زكاة، تؤخذ من أغنيائهم، وتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فخذ منهم، وتوقَّ كرائم أموالهم” [البخاري، 3/330].
وكان صلى الله عليه وسلم يرسل في بعض الأحيان رجلًا مخصوصًا للأموال، فقد كان يبعث كل عام، عبد الله بن رواحة، إلى يهود خيبر، يخرص عليهم تمرهم. [البيهقي، السنن الكبرى، 4/206] وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص ثمار الحجاز. وكان الزبير بن العوام يكتب أموال الصدقات.
ويقول أبو بكر الجصاص [الجصاص، أبو بكر، أحكام القرآن، 3/198]: “إن الزكاة يجب أن تدفع إلى الإمام فقط، لا إلى المحتاج مباشرة، عملًا بقوله تعالى: ﴿ خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٠٣﴾ [التوبة:103]. وذكر الجصاص أيضًا أن دفعها إلى المساكين لم يُجزِه؛ لأن حق الإمام قائم في أخذها، فلا سبيل له إلى إسقاطه.
وقال النووي: “يجب على الإمام (الخليفة) أن يبعث السُّعاة لأخذ الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال، ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل” [النووي، المجموع شرح المهذَّب، 2/167-5/528].
قال صلى الله عليه وسلم: “أرضوا مُصَدِّقيكم” (الــمُصَدِّق: الجابي الذي يكلفه الإمام بجمع الزكاة من المسلمين، أو العامل الذي يستوفيها من أربابها، أو الذي يأخذ الحقوق من الإبل والغنم، والمعطي متصدق) [صحیح مسلم بشرح النووي، 4/313]. وقال أيضًا: “إذا أتاكم المــُصدِّق، فليصدر عنكم وهو عنكم راضٍ”. يقول ابن حزم: “وقد اتفقت الأمة على أنه ليس كل من قال: أنا عامل عاملًا، وقد قال عليه السلام: “من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ” [فتح الباري شرح صحيح البخاري، 4/448]. فكل من عمل من غير أن يوليه الإمام الواجبة طاعته، فليس من العاملين عليها، ولا يجزىء دفع الصدقة إليه، وهي مظلمة، إلا أن يكون يضعها مواضعها، فتجزئ حينئذ؛ لأنها قد وصلت إلى أهلها. وأما عامل الإمام الواجبة طاعته، فنحن مأمورون بدفعها إليه، وليس علينا ما يفعل فيها؛ لأنه وکیل، کوصيِّ اليتيم، ولا فرق، وكوكيل الموكِّل سواءٌ بسواء” [ابن حزم، المحلَّى].
ويقول ابن قدامة: “وقال ابن أبي موسى، وأبو الخطاب، دفع الزكاة إلى الإمام العادل أفضل، وهو قول أصحاب الشافعي، وممن قال بدفعها إلى الإمام: كل من الشعبي، ومحمد بن علي، وابن رزين، والأوزاعي؛ لأن الإمام أعلم بمصارفها، ودفعها إليه يبرئه ظاهرًا، وباطنًا، ودفعها إلى الفقير لا يبرئه باطنًا؛ لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف، وتزول عنه التهمة” [ابن قدامة، المغني، 2/508]
وقد أوجز أحد الباحثين مسوَّغات تكليف الدولة بهذه المسؤولية بقوله: “ولا يمكن لأحد أن يقوم بها إلا الدولة، لما يلي:
1- لديها من العلماء ما يقدر على الإفتاء.
۲- لديها من الباحثين الاجتماعيين ما يؤكد إعطاء الفقير والمسكين.
۳- لديها من العاملين من يكشف التهرب، ويمنعه، ويعاقب عليه.
4- لديها من الخبراء من يستطيع الخرص والتقدير.
5- الزكاة حق الفقير، وأخذها من قبل الدولة تأكيد لهذا، واحترام للمحتاجين.
6- هناك أسهم لا يمكن لأحد أن يقوم بها إلا الدولة، كسهم المؤلفة قلوبهم، وفي سبيل الله.
7- الدولة وحدها هي المسؤولة عن قتال مانعي الزكاة” [يوسف كمال محمد، فقه الاقتصاد العام، ص241].
ج – قيام الدولة بمحاسبة العاملين عليها: لقد مارس سیدنا محمد صلى الله عليه وسلم محاسبة العاملين على الزكاة، ومارسها الخلفاء من بعده، فعن أبي حُميد الساعدي، قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأسْد يقال له: ابن اللُّتبية (قال عمرو وابن أبي عمر: على الصدقة) فلما قدم قال: هذا لكم. وهذا لي، أهدي لي. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. فحمد الله وأثنى عليه، وقال: “ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه، أو في بيت أمه، حتى ينظر: أيُهدى إليه أم لا. والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تَيْعَر” ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟“ مرتين [فتح الباري، 13/206].
وكان سیدنا عمر، رضي الله عنه، يحصي أموال العمال، والولاة، قبل توليتهم؛ ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية، وقاسم أكثر من واحد من عماله أموالهم، ومنهم سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وكان يأمر عماله أن يدخلوا نهارًا، ولا يدخلوا ليلًا، كي يُعرف ما يحملون من مال” [ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/203].
ثالثًا: توزيع الزكاة يفترض أن يكون مسؤولية الدولة: يرى الماوردي أن خيانة عامل الصدقات ينظر فيها ويستدركها الإمام، ويجوز لأصحاب الأموال أن يتظلموا إلى الإمام، ويجوز لهم أن يشتكوا للإمام على العامل، إذا وضع الصدقات في غير حقها” [الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 169].
وجاء في “الأموال” لأبي عبيد: “عن مالك قال: “الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على اجتهاد من الوالي، فأي الأصناف كانت فيه الحاجة، والعدد، آثر ذلك الصنف بقدر ما يرى. قال: وليس للعامل على الصدقة فريضة مسماة” [أبو عبيد، القاسم بن سلام، الأموال، ص 535-536]. ويضيف أبو عبيد: “فالإمام مخیر في الصدقة في التفريق فيهم جميعًا، وفي أن يخُصَّ بها بعضهم دون بعض، إذا كان ذلك على وجه الاجتهاد، مجانبة الهوى، والميل عن الحق، وكذلك مَنْ سِوَى الإمام، بل هو لغيره أوسع إن شاء الله”[أبو عبيد، القاسم بن سلام، الأموال، ص 538].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الزكاة “على رأيه واجتهاده”، حتى لزمه أحد المنافقين، وقال : اِعدل یا رسول الله، فقال: “ثکلتك أمك، إذا لم أعدل، فمن يعدل؟” [فتح الباري شرح صحيح البخاري، 6/302]. ثم نزلت آية الصدقات. [الماوردي، الأحكام السلطانية، ص156].