من قال إن الحروب الصليبية انتهت؟ إنها ما زالت في ذروة شراستها على العالم الإسلامي.
التاريخ لا يعيد نفسه، لكن العملاء والخونة يقلدون أسلافهم، ومن حقنا أن نقول إن بلاد المسلمين للمسلمين، وللاستعمار النار.
وليس لأحد أن يدعي أن له مصالح في بلاد المسلمين كائناً من كان. فلقد مضى زمن الجهل، والعالم الإسلامي ليس فيتنام ولا هو غرينادا أو بنما أو الفوكلاند.
من هنا نبدأ الحديث عن الصليبية في حملتها الجديدة.
أما الصليبية في حملاتها الأولى فتبدأ مع التاريخ منذ العام 492هـ 1099م حيث هاجم الصليبيون مدينة القدس واحتلوها «وهرب الناس إلى الصخرة والأقصى واجتمعوا بها فهجموا عليهم وقتلوا في الحرم مائة ألف وسَبَوْا مثلهم وقتلوا الشيوخ العجائز وسَبَوُا النساء» [النجوم الزاهرة، أبو المحاسن، ج5 ص148].
إلا أن بداية الحروب الصليبية كانت في العام 488هـ ـ 1095م ولكن وصولهم إلى بيت المقدس وحصول المجزرة كان بعد عامين من بدايتها.
«وفي سنة 578هـ ـ 1162م رغب الصليبيون في احتلال الحجاز وإهانة الإسلام في مركزه ومنشأ دعوته والقضاء على المسلمين في وقت كانت فيه بلاد الحجاز لا تملك مالاً ولا ماءً وليست مصدراً اقتصادياً ولا موضعاً تخرج منه الجيوش الإسلامية، وليس لها من خطورة على الوجود الصليبي في بلاد الشام، وإنما كان الهدف من هذه المحاولة الصليبية محاربة الإسلام والكيد للمسلمين» [جهاد المسلمين في الحروب الصليبية، د. فايد عاشور].
«قصد الفرنج بلاد الحجاز وأنشأ البرنس أرناط صاحب الكرك سفناً وحملها على البر إلى بحر القلزم (السويس) واركب فيها الرجال وأوقف منها مركبين على حرزة قلعة القلزم لمنع أهلها من استقاء الماء، وسارت البقية نحو عيذاب فقتلوا واسروا وأحرقوا في بحر القلزم نحن ست عشرة مركباً، وأخذوا بعيذاب مركباً يأتي بالحجاج من جدة وأخذوا في الأسر قافلة كبيرة من الحجاج فيما بين قوص وعيذاب وقتلوا الجميع،وأخذوا مركبين فيهما بضائع جاءت من اليمن وأخذوا أطعمة كثيرة من الساحل كانت معدّة لميرة الحرمين وأحدثوا حوادث لم يُسمع في الإسلام بمثلها، ولا وصل قبلهم رومي إلى ذلك الموضع، فإنه لم يبقَ بينهم وبين المدينة النبوية سوى مسيرة يوم واحد، ومضوا إلى الحجاز يريدون المدينة النبوية» [المقريزي: السلوك ج1 ص78] إذن يستنتج من ذلك أن الصليبيين لم يكونوا يقصدون السيطرة على القدس فقط لتأمين الحج إليها وإنما كان هدفهم القضاء على المسلمين ودحرهم حتى في الحجاز، أي مكة والمدينة، وهذا يؤكد أن دوافعهم كانت صليبية دينية بحتة.
عندما أعلن باب روما أربان الثاني بداية الحروب الصليبية وألقى خطاباً في فرنسا المعقل الأبرز للصليبية صاح الصليبيون قائلين «هذه هي إرادة الله» وخاطب الباب رعيته قائلاً: «بأمر الله تتوقف العمليات الحربية بين المسيحيين في أوروبا، ويتجه هؤلاء بأسلحتهم إلى هزيمة الكفرة (المسلمين)… لقد كنتم تحاولون من غير جدوى إثارة نيران الحروب والفتن فيما بينكم، فالآن أذهبوا وأزعجوا البرابرة وخلصوا البلاد المقدسة من أيدي الكفار وامتلكوها لأنفسكم فإنها كما تقول التوراة تفيض لبناً وعسلاً» [د. شلبي: التاريخ الإسلامي ج5 ص438].
مجازر وحشية في بيت المقدس
وقال ابن الأثير «ولبث الفرنج في البلدة (القدس) أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود فاعتصموا به وقاتلوا فيه ثلاثة أيام… وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف».
وينقل د. فايد عاشور عن مؤلف صليبي اسمه جستا فرانكوروم يفتخر بوحشية الصليبيين بقوله «حتى أن جنودنا كانوا يخوضون حتى سيقانهم في دماء المسلمين».
وينقل عاشور أيضاً عن وليم الصوري بقوله «إن بيت المقدس شهد عند دخول الصليبيين مذبحة رهيبة حتى اصبح البلد مخاضة واسعة من دماء المسلمين أثارت خوف الغزاة واشمئزازهم».
ويقول عوستاف لوبون في كتاب حضارة العرب ص324 «وكان من أحب ضروب اللهو إليهم قتل من يلاقون من الأطفال وتقطيعهم إرَباً وشيّهم (على النار) كما روت آن كومنين بنت قيصر الروم» ويتابع عوستاف لوبون «كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كان كاللبؤات التي خطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً وكانوا لا يستبقون إنساناً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، فيا للعجب ويا للغرابة أن تذبح تلك الجماعة الكبيرة المسلحة بأمض سلاح من غير أن تقاوم، وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه، فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، فيا للشره وحب الذهب،وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث فيا لتلك الشعوب العمي المعدّة للقتل! ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية ديناً، ثم أحضر (بوهيموند) جميع الذين اعتقلهم في برج القصر، وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعافهم وبسوق فتياتهم وكهولهم إلى أنطاكية لكي يباعوا فيها».
وينقل لوبون عن كان يدعى ريموند داجيل «لقد افرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من إلا بمشقة».
الاستعمار القديم والحديث امتداد للصليبية
عملت إنجلترا زعيمة الاستعمار القديم على الإطاحة بالدولة الإسلامية دولة الخلافة وعملت جاهدة على طمس معالمها وجعلها طي النسيان، وسلكت في سبيل ذلك خطوات منها تفكيك العالم الإسلامي وتمزيقه إلى دويلات وتنصيب حكام عملاء وعلمانيين على هذه الدويلات. وقليل من المؤرخين من يشير إلى الجانب الصليبي من تصرفات الإنجليز وحلفائهم الفرنسيين بعد أن تغلبوا على الدولة الإسلامية لكن أقوالهم كانت دليلاً على أن الاستعمار كان امتداداً للحملات الصليبية فكتب التاريخ تذكر القول المشهور الذي قاله الجنرال اللنبي حينما احتل مدينة القدس حيث قال: «الآن انتهت الحروب الصليبية» أليس هذا القول دليلاً على أن أسياد هذا القائد العسكري يتصرفون أمامه بروح صليبية وإلا لما كان قالها.
وكذلك حصل مع القائد الفرنسي الذي وقف على قبر صلاح الدين وقال: «ها قد عدنا يا صلاح الدين» أليس ذلك دليلاً واضحاً على الروح الصليبية التي يتمتع بها قادة فرنسا وبريطانيا في القرن العشرين.
على أن هناك وقائع أخرى حديثة وأخرى حديثة جداً تؤكد صليبيتهم مهما حاولوا إخفاءها، فقد صرح مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952م قائلاً: «إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، فهو حائرٌ قلق، كاره لانحطاطه وتخلّفه، وفي حالة من الكسل والفوضى. غير أنه راغب في مستقبل أحسن وحرية أتوفر، فلنبذل كل جهدنا حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف بإبقاء المسلم متخلفاً فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً دائماً ينتهي به الغرب وتنتهي به وظيفته الحقيقية كقائد للعالم».
ومع أن أميركا حديثة عهد احتكاكها بالإسلام والمسلمين وليست لها عراقة الإنجليز والفرنسيين في التعامل الدقيق والفهم الدقيق للإسلام والمسلمين إلا أنها أغلقت الفجوة التي تفصلها عن زميلاتها في الاستعمار بمضاعفة جهودها واختصار الزمن بالتكنولوجيا فكان لها موقف لا يقل كيداً عن كيد زميلاتها الغربيات ففي تصريح لموظف رسمي أميركي في الستينات هو (يوجين روستو) الذي كان يشغل منصب رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأميركية، وكان مستشاراً للرئيس جونسون يقول فيه: «ولا تستطيع أميركا إلا أن تقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة اليهودية، لأنها إن فعلت عكس ذلك تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها، وإن هدف العالم الغربي في اشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وإن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط وإن ذلك ليس إلا استمراراً للحروب الصليبية».
ومنذ بضعة أسابيع صرح صليبي آخر هو (ميشال دوبريه) رئيس وزراء فرنسي سابق في عهد ديغول بقوله: «إن الإسلام أصبح الآن عدو أوروبا وعدو فرنسا أولاً، وأن الخطر يمكن أن يأتي من الجنوب… إن فرضية أن يجتاح تصاعد الجهاد المقدس منطقة المغرب بكاملها أصبحت فرضية قابلة للتحقق… يجب عدم التقليل من أهمية الخصم… إن فرنسا تقع على رأس لائحة الدول التي قد تشكل غداً هدفاً للإسلام المحارب… إن الذين سيقومون بما يجب لتحذير الفرنسيين وللمحافظة على مستوى تسلّح فرنسا سيتمتعون وحدهم باحترام الجماهير في المستقبل».
الصليبية مَاثلة للعيان في اجتياح الخليج
على أن هناك حدثاً هدماً فيه صليبية سبق غزو منطقة الخليج وهو إجماع العالم بما فيه الاتحاد السوفياتي على ترحيل اليهود السوفيات وتجميعهم في البلاد المقدسة، وباتفاق مسبق بين أميركا وروسيا ومباركة مطلقة من كافة دول الغرب، إلا أن الحدث الأكبر الذي طغى على هذا الحدث هو الإجماع الغربي من كل دول الكفرة المستعمرة قديمها وحديثها على غزو منطقة الخليج بمن تمثل وبما تمثل، وترافق هذا الإجماع على المشاركة بقوات رمزية في الاستعمار الجديد للمنطقة حرب إعلامية موجهة ضد المسلمين، وترافق بإجماع على حصار مسلمي العراق والكويت وقطع كل سبل الحياة عنهم وبمشاركة جميع ما يحيط بهم من دويلات في العالم الإسلامي وكأن المسلمين لا يرف لهم جفن تجاه حصار قسم منهم وأخوة لهم شاءت الأقدار أن يكونوا في هذه البقعة من الكرة الأرضية، ومن يدري لعل نفس المصير ينتظر مسلمين آخرين في بقعة أخرى من العالم الإسلامي ولا من مجيب. أين المتشدقون بالمصير المشترك واللغة المشتركة والدين والتاريخ والتقاليد والخندق الواحد؟
ولا ننسى خطاب قائد الحملة الجديد (بوش) وهو يفتتح الغزو ويخاطب جنوده وشعبه قبل توجههم إلى الرمال المتحركة في الصحراء بقوله «أدعو جميع الكنائس في الولايات المتحدة أن تصلي من أجل أبناء أميركا الذين يدافعون عن شرف ومجد أميركا» نعم هذه نفسيات الغزاة الجدد وهذه روحهم الصليبية ]قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ[ ¨