أيمن القادري
بعض المفسرين للقرآن الكريم يحاولون تفسير بعض آياته بحسب النظريات العلمية أو الآراء الغالبة المنتشرة في عصرهم. فإذا تغيرت من الزمن النظريات العملية أو الآراء التي كانت رائجة يصبح التفسير القديم خطأ في نظر النظريات العلمية الحديثة. وربما يتوهم بعضهم أن الخطأ من القرآن وليس من المفسّر. ولذلك فإن هذا الموضوع دقيق وخطير ولا بد فيه من الحذر.
لقد كانت الغاية الأولى من إنزال القرآن على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن يكون دستوراً شاملاً وتشريعاً يحتكم إليه الناس، قال تعالى: ]إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ[.
إلا أن القرآن، مع جوانبه التشريعية، حفل بكثير من الأمور الأخرى التي تُعدّ من الإعجاز، سواء في ذلك الإعجاز اللغوي البلاغي أو الإعجاز العملي الإخباري. وليس القرآن كتاباً عن علم الأحياء أو علم الفلك وإنما تعرَّض لذلك كي يرشد الناس إلى التفكّر في الكون من جهة وليعطينا أنباء علمية لم تثبتها التجارب إلا حديثاً مما يُعَدّ دليلاً قاطعاً على أن هذا الكتاب ليس من قول بشر. وهذه الأنباء التي حوتها آيات كريمة لم يكن المفسرون القدامى يجدون فيها هذه الأهمية، أما حديثاً فكثير من المسلمين يسلطون الضوء عليها، وأنّه لجهد طيب.
لكن الخطأ الذي وقع فيه بعض من انبرى لهذه المسألة هو عدم التفريق ـ في المطابقة بين الآيات والعلم ـ بين ما هو حقيقة علمية وما هو مجرد نظرية لأن الأولى ثابتة علمياً والثانية غير ثابتة بعد، فنلحظ أن كثيراً من الآيات حاولوا تفسيرها على ضوء نظرية لم تثبت بعد صحتها ليقولوا للناس إن القرآن عرف هذه النظرية منذ قرون طويلة. والخطر هنا فيما إذا تبدى أن هذه النظرية غير صحيحة لأن ذلك يوقعنا في إدعاء الآخرين بأن القرآن إذاً غير صحيح، وإن الآراء العلمية التي فيه غير مصيبة!
وشبيه بذلك التعسّف في تطبيق النظريات والحقائق على النص القرآني ومحاولة تأويله تأويلاً بعيداً لإظهار الإعجاز القرآني، مع أنه قد يكون سياق الآية مخالفاً لذلك التأويل.
لذلك رأينا أن نسوق أمثلة على هذه التفسيرات ونبيّن فسادها.
أولاً ـ قال تعالى: ]كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ @ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ @ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ @ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَة..ِ[ لقد قرأت أن أحدهم فسّر هذه النار بالأشعة السينية (أشعة إكس) التي تكشف جوف الإنسان!! ومع أن (تطّلع) [التي فسرها القدامى بالوصول إلى القلوب لإحراقها] تحتمل معنى الاطلاع والمعرفة، مع ذلك فإن سياق الآيات يرجح أن هذه النار هي نار جهنم لا غير. ولا مجال لتحميل النص هذا التأويل البالغ. ثم، من قال أن أشعة إكس تطلّع على ما في القلوب!!
ثانياً ـ قال تعالى: ]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه @ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[.
التفسير الذي يعمد إليه الكثير حديثاً وينساق وراءه كثير من الناس أن الذرة التي ترجمتها بالفرنسية Atome هي المعنية هنا أي «أصغر جزء من عنصر ما، يصح أن يدخل في التفاعلات الكيماوية». وبما أن الله ذكرها في معرض المحاسبة على أدق الأمور فإنه أفادنا منذ قرون سحيقة أن الذرة هي أصغر الجزئيات.
والاعتراض على هذا التأويل قادم من أمرين.
1- ليس صحيحاً أن الذرة Atome، هي أصغر الجزئيات، فالذرة تتكون من أجزاء أصغر كثيرة منها: بروتون ـ نوترون ـ إلكترون. وغير ذلك. وقد يُجاب بأن المقصود هو كون الذرة أصغر جزء يُعثر عليه في الطبيعة لا في المختبر (حيث يتسنى تفكيك الذرة)، وهنا نقول: ثمة عناصر في الطبيعة لا توجَدُ إلا بائتلاف مزدوج للذرة فغاز الأوكسجين ورمزه الكيمائي (O) لا يوجد إلا مكوناً من اتحاد ذرتين O2 وهذا الاتحاد يسمّر بـ (molecule).
2- كلمة (ذرة) الواردة في السورة يجب أن يراعى في إدراكها ما كان مفهوماً آنذاك ولا يجوز الاقتصار على منطوقها اللغوي المصطلح عليه في ما بعد. فكما أن كلمة (السيارة) الواردة في قوله تعالى: ]يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ…[، تعني المسافرين، ولا يجوز تفسيرها على أنها آلة التنقّل المعروفة، كذلك كلمة (ذرّة) كانت تعني عند العرب «النملة الصغيرة… وقيل الذَرّ ما يُرى في شعاع الشمس من الهباء». [الكشاف، للزمخشري ـ ت 538]، وقال الفيروز أبادي (ت 817) صاحب القاموس المحيط «الذرّ صغار النمل ومئة منها زنة حبة شعير، الواحدة ذرة».
إذاً، لم يُتَوسّع في مدلول كلمة (ذرة) فتشمل المفهوم العلمي المعروف اليوم إلا بعد القرن التاسع للهجرة ما دام الفيروز أبادي لم يذكرها في معجمه. والقرآن لا يجوز أن تفسَّر ألفاظه إلا بسبيلين.
1- مراجعة مدلول اللفظ في كلام العرب في الجاهلية. أي المعنى اللغوي.
2- فهم المدلول الجديد الذي أسبغه الإسلام على اللفظ، كما في (الصلاة ـ الزكاة ـ النفاق) فإنها لم تكن في الجاهلية بهذا المدلول، أي المعنى الشرعي.
ثالثاً ـ قال تعالى: ]سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ @ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ @ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ[.
جنح بعض المتأخرين إلى الزعم أن الآية تُفيد إمكانية صعود الإنسان إلى السماوات والكواكب، الأمر الذي تحقّق في عصرنا هذا ضمن ما يسمّى بـ (غزو الفضاء)، وفسّروا السلطان الوارد في الآية الأخيرة بالعلم.
وهذا الزعم مخالف لأقوال المفسرين ويرّده سياق الآية فقد وردت لبيان أهوال القيامة وشدائدها بدليل قوله تعالى قبلها ]سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ[، قال البيضاوي: «أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة… والثقلان: الجن والإنس». إذاً، لا معنى للنفاذ من أقطار السماوات والأرض إلا ما ذكره المفسرون من أنه الفرار من قضاء الله وعقابه. قال ابن كثير: «معنى الآية أنكم لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلّص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم وهذا في مقام الحشر حيث الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان أي إلا بأمر الله وإرادته».
ثم إن النفاذ من أقطار السماوات والأرض بمعنى إخراقها يخالف ما ورد من الله تعالى جعل السماء سقفاً محفوظاً، قال تعالى: ]وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ[ الأنبياء 32.
وختاماً نشير إلى أن البحث عن مكتشفات علمية حديثة أشار إليها القرآن، أمرٌ ذو بال يعنينا على إثبات نسبة القرآن إلى الله تعالى، لكن على الذي يخوض في هذه الأبحاث أن يكون متعمقاً في اللغة والتفاسير وفي العلم الكوني بالإضافة إلى تسلّحه بكيفية الجمع بين الأخبار أو الترجيح فيما بينها¨