حمزة عبد الودود
ورد في أحد كتب العقيدة المطبوعة في بيروت، خطأٌ في أثناء الحديث عن أنواع الكفر، ذلك أن الكاتب عند حديثه عن الكفر اللفظي استثنى حالة كون الشخص متأولاً باجتهاده في فهم الشرع فضرب مثلاً على ذلك الذين فسروا قول الله تعالى: ]فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[ ـ المائدة: 91، بأنه تخيير وليس تحريماً للخمر، وعلّل الكاتب ذلك بأن عمر ما كفّرهم وإنما قال: اجلدوهم ثمانين ثمانين ثم إن عادوا فاقتلوهم. ونسب ما جرى بين هؤلاء وعمر إلى حديث رواه ابن أبي شيبة.
وفي هذا الكلام خطأ من عدة أوجه:
أولاً ـ أما ما رواه ابن أبي شيبة فهو على الوجه التالي:
(أخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، قال: شرب نفر من أهل الشام الخمرَ وتأولوا الآية الكريمة فاستشار فيهم (يعني عمر) فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين وغلا ضربت أعناقهم لأنهم استحلوا ما حرم فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين) ـ [الحديث مذكور في نظام العقوبات لعبد الرحمن المالكي ـ ص 55] فمفهوم الحديث واضح أن هؤلاء النفر (تأولوا الآية الكريمة) فكان رأي علي أن يستتابوا ومعنى إستتابتهم أنهم ارتدو. وقد جاء في الحديث صراحة (وإلا ضربت أعناقهم لأنهم استحلوا ما حرم). ثم إن عمر حين جلدهم واكتفى بذلك إنما فعل بد توبتهم: (فاستتابهم فتابوا). وعليه فالحديث الذي يستند عليه الكاتب هو حجّة عليه لا له. ولا ندري كيف وقع في هذا الخطأ الجسيم.
ثانياً ـ ليس هذا الذي ذكره استثناءً من الكفر اللفظي على فرض أنه مستثنى، لأن إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة يدخل في الكفر الاعتقادي ولا علاقة له باللفظ فلو أنكر مسلم في قلبه حكماً قطعياً واعتقد جازماً بهذا الإنكار كَفَرَ وإن لميَبُحْ بإنكاره. والمعروف أن الحكم الشرعي إذا كان قطعياً بحيث ورد فيه النص يقينياً لا يحتمل تأويلاً، فإن منكره يكفر إجماعاً.
أما أنّ تحريم الخمر قطعي فالأدلة وافرة.
أ- من القرآن:
]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأََزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ المائدة: 90.
في هذه الآية قُرنَ الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام وكلها محرمةً قطعاً، وجعلها جميعاً رجساً أي نجاسة، قال ابن العربي: «الحكم بنجاستها يوجب التحريم» ـ أحكام القرآن ـ المجلد الثاني ـ ص 657. ثم جعلها الله من عمل الشيطان وطلب اجتنابها. ومن ثمَّ حصر الحديث في الخمر والميسر وجعلهما جالبين للعداء والبغض والصد عن الصلاة. وترك الصلاة كبيرة فكيف بالصَدّ عنها! والقاعدة الشرعية تقول: «الوسيلة إلى الحرام حرام».
أما قوله ]فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[ فهو ليس بغرض إلقاء السؤال وإنما خرج إلى النهي أي: إنتهوا. بدليل ما جاء بعدها فوراً ]وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ[ المائدة: 92، ففيه إشارة إلى أن تبليغ الحكم بحرمة الخمر كان تبليغاً مبيّناً. ويعضُدُ هذا ما ذكره ابن العربي في تفسير ]فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[، قال: «قال عمر: انتهينا. حين علم أن هذا وعيد شديد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن يُنادي في سِكَكِ المدينة: ألا إن الخمر قد حرمت. فكسرت الدنان وأُريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة» ـ أحكام القرآن ـ م2 ـ ص 657. وخير ما فُسِّرَ به القرآنُ: آيةٌ أو حديث، قال صلى الله عليه وسلم: «إستنطقوا القرآن بسنتي».
وقد جاء في حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية فلا يشرب ولا يبع… » [نظام العقوبات ـ ص 49].
ب- من السنة:
روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام». وليس بعد هذا النص الصريح مجال لتأويل.
وفي حديث رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين سرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
وروى أبو داود عن ابن عمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه… ».
ج- إجماع الصحابة:
لم يُنقل عن أحد من الصحابة إنكار لتحريم الخمر ولا بأي وجه من الوجوه بل لقد أقيم الحد على شاربها في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في أحاديث مشهورة ولم يعترض أحد.
أما ما ذهب إليه البعض من أن أحد الصحابة وهو قدامة بن مظعون شرب الخمر وتأوَّل هذه الآية فما كفّره عمر وإنما اكتفى بجلده، فهو دليلٌ واهٍ، فتفصيل قصة قدامة وردت في حديث رواه البخاري عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وموجزه أن قدامة كان قد استعمله عمر على البحرين فقدم الجارود منها وقال: يا أمير المؤمنين «إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكراً»… فقال عمر: «من يشهد لي على ما تقول؟» فقال: «أبو هريرة»… فكتب عمر إلى قدامة فلما جاء وَوُوْجِه قال: «والله لو شربت كما تقولون ما كان لك أن تجلدني يا عمر. قال: لم يا قدامة؟ قال: لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ]لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[ المائدة: 93، فقال عمر: «إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله إجتنبت ما حرم الله»… وفي الحديث أن عمر جلده بعد ذلك.
ومما اقتطفناه من الحديث يتبيّن لنا:
1- أن التأويل طرأ على الآية 93 من سورة المائدة وليس على الآية 91 المتضمنة تحريم الخمر.
2- هذا التأويل الذي فعله قدامه لا يوقع في الكفر لأن ظاهر الآية يوحي أنه لا جناح على المؤمنين المتقين إذا طعموا طعاماً محرَّما. ففي هذا التأويل اعتراف بحرمة الخمر ولكنْ فيه اعتقاد بإسقاط الحد عمّن شربها إن كان ممن له أعمال حسنة كثيرة سابقة (أي: أن الحسنات يذهبن السيئات). ومع أن هذا التأويل فاسد، إلا أنه لم يبح الخمر. والمعروف أن التفسير الصحيح لهذه الآية هو رفع الحرج والإثم عمّن شرب الخمر قبل نزول التحريم القاطع لها. وهذا التفسير يخفي على كثير من الناس بدليل قول ابن العربي «وقد خفي على قدامه وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس» أحكام القرآن ـ م2 ـ ص 661.
ونذكر أن تحريم الخمر من الأمور المعلومة بالضرورة، لا تخفى على أي مسلم، بل على أي كافر يعيش في بلد يسكنه مسلمون.
اللهم اجعلنا من الذين يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر ويتناهون عن المنكر ويذكر بعضهم بعضا و]اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[ ¨