حمل الدعوة والاستقامة عليها
بقلم: عبد الله محمود
أصل الاستقامة في معهود اللغة الاعتدال، وفي نصوص الشرع وفعل الرسول عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم الانصهار التام في بوتقة الإسلام فكراً وشعوراً وتقيداً ودعوة، قال تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ). أي: فادعُ إلى الإسلام واستقم على ما دعوت إليه. وقال سبحانه: (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ). والاستقامة لله تكون بتوحيده والإعراض عما سواه، وطلبِ العون منه وحده دون غيره، والتوكلِ عليه حق التوكل، واللجوء غليه واستخارته في الأمور كلها، وسؤالِه المغفرةَ والرحمةَ والنصر العزيز وكلَّ خير لدينه وأمته وحَمَلَةِ دعوته، والخضوعِ والتذلل إليه لصرف كل شر عن الإسلام وأهله، ودوامِ ذكره وشكره في الليل والنهار كثمرة من ثمار التفكير في مخلقاته وفي نعمه وفي كتابه وسنة نبيه وفي التقيد بأحكامه ونحوِ ذلك.
وأن يكون ذكر الله نتيجة إدراك الصلة بالله (لا كعادة من العادات)، والإيمان الراسخ بأنه المعطي والمانع، المحيي والمميت، المعز والمذل، الحامي والناصر لدعوته ولمن استقام عليها، والاعتقادِ القاطع بكتاب الله وسنة رسوله اعتقاداً لا يتطرق إليه أدنى ريب، ولزومِ دوام مصاحبتهما، والثباتِ على طاعة الله ورسوله، ومتابعةِ مفاتيح الخير وأبوابه من أجل الولوج فيه وعدم الخروج عنه، والأخذ بالأسباب أو الحالات التي تمكن من الدخول فيه، وتقوض كل مرتجع يحول دون ذلك، ورصد مفاتيح الشر وأبوابه من أجل اتقاء الدخول فيه والقضاء عليه، والأخذ بالأسباب أو الحالات التي تمكن من معرفة أبواب الشر ومفاتيحه لكي يتأتى تجنُبه ومحوه والحيلولةُ دون الوقوع في حبائله وفخاخه ومكائده.
فحامل الدعوة حين يؤمن بأن الله هو الذي يثبت الامتثال لأمر الله في الأخذ بالأسباب أو الحالات التي تؤدي إلى تثبيت فكره وشعوره على الإسلام والتقيد به والدعوة إليه، مع دوام بروز الاعتقاد الجازم بأن الله هو الذي يهيئ الأسباب وبيده النتائج، وحين يريد حامل الدعوة درء الأخطار، مع يقينه بأن الله يدافع عن دينه وأوليائه، وحين يريد حامل الدعوة دوام الاستقامة على الإسلام يقيس نفسه بالمبدأ والسلف الصالح مع الصحابة ومن جاء بعدهم من المسلمين الذين تحققت فيهم الاستقامة، فيجد نفسه صغيراً قد فاته الشيء الكثير؛ وعليه الإقدام نحو الاستقامة بدأب لا يعرف النضوب، وباندفاع لا يعرف الغرور، وعليه أن يأخذ بالأسباب أو الحالات التي تجسد الاستقامة فيه، ومن الأسباب التي تحقق الغايات والأهداف تقوى الله، والتوكل عليه، ونحو ذلك مفاهيم الإسلام العقدية، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ). وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
وحامل الدعوة حين يقرأ قول الله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ)، وحين يقرأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب». فعليه أن يحرص كل الحرص على عدم إغضاب والديه، وأن يَبَرَّهما وإن ظلماه، وأن يطيعهما ما لم يأمراه بمعصية، ويخاطبهما بلين الكلام، ويدعو ويستغفر لهما، وينفذ عهدهما، ويكرم صديقهما، ويتصدق عنهما، ولا يمشي أمامهما، ولا يجلس قبلهما، ونحو ذلك من الأسباب أو الحالات التي تجسد رضى الوالدين. وحين يقرأ أقوال الرسول r في صلة الرحم كقوله: «إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم». وقوله: «الرحم شجنة من الرحمن، من يصلها يصله، ومن يقطعها يقطعه، لها لسان طلق ذلق يوم القيامة». فعليه أن يحرص على إكرام رَحِمِهِ والعطف عليهم، وأن يكون حليماً صبوراً واسع الصدر، يصبر على أذاهم ويصل من قطعه، أي: عليه الأخذ بالأسباب أو الحالات التي تجسد هذه الصلة وترسخها، مع دوام التذلل والخضوع لله لكي ينير له الحالات ويهيئ له الأسباب التي تمكنه من تحقيق الغايات والأهداف. ومن هنا فعلى حامل الدعوة حين يتدبر آيات الله، ويتفهم أحاديث الرسول التي تأمره بتحقيق غايات شرعية أن يسعى جاهداً في تجسيد هذه الغايات في كيانه وفي أمته وفي البشرية جمعاء، وأن يلتزم بالطرائق الإسلامية أو الأسباب الشرعية دون أن يحيد عنها، قال تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) أي: على طريقة الإسلام في تحقيق الغايات الإسلامية الأساسية والفرعية، وقال سبحانه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا). وقال سبحانه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).
وعلى حامل الدعوة الأخذ بالأسباب أو الحالات الدنيوية كالإبداع في رسم الخطط وأهدافها العامة، وإتباع الأساليب الدينامية لا التقليدية المؤدية إلى تحقيق أهدافها الخاصة، وحسن اختيار الوسائل الفعالة التي تستخدم في تجسيد الغايات المبدئية والأهداف الدنيوية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر مع يقينه بأن الله ناصره وأن النصر بيد الله وحده دون سواه، فقد أخذ بكافة الشروط التي تحقق نصر الله امتثالاً لأمر الله، وما حصل من هزيمة للمسلمين في معركة أحد إلا لكون الرماة قد خالفوا أمر رسول الله، وما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه المعركة من ملاحظة العدو حتى حمراء الأسد إلا من أجل درء الخطر المتوقع من اليهود وأهل الشرك على الإسلام ودولته، وليشعرهم أنه قادر على القتال مهما جرى وحصل في معركة أحد، وحين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه من مكة إلى المدينة فقد أخذ بالأسباب الشرعية والدنيوية لاتقاء خطر قريش مع تجسد اليقين عنده بأن الله هو الحامي له ولدعوته.
والاستقامة لله تعالى تكون بالإخلاص الخالص لله تعالى في الفكر والعمل والغاية من خلال إذابة الكيان الإنساني في الإسلام وتسليمه القيادة الفكرية والشعورية، وأن يكون القصد من ذلك تحقيق مرضاة الله عز وجل، وبهذا يكون حامل الدعوة مستحقاً لهذا الوصف، وواعياً حقاً، ومخلصاً حقاً، وتتمثل فيه الحكمة ودعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما الحكمة فهي: «الرجال ثلاثة: عاقل وسفيه ومجنون، أما العاقل فهو الذي لا يؤثر الفاني على الباقي، وأما السفيه فهو كالسنبلة التي تميلها الرياح فيتردد بينها، وأما المجنون فهو الذي يبيع آخرته بدنياه»، وأما دعاء الفاروق فهو: «اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً».
والطريقة الإسلامية في تجسيد الاستقامة على الإسلام والدعوة إليه تتمثل بما يلي:
أولاً:معالجة مفاهيم الأعماق والأفكار الفاسدة التي وُرثت من عهد الانحطاط، وذلك بتغذية العقل بأفكار الإسلام سواء أكانت عقائد أم أحكاماً شرعية، وتحويل هذه الأفكار إلى مفاهيم عن طريق التصديق بها، وإدراك واقعها في الذهن إدراكاً نقياً صافياً مبلوراً كواقعها في الخارج، أي: في كتاب الله وسنة رسوله، ثم تحويل هذه المفاهيم إلى قناعات راسخة كأنها جزء من تركيب العقل، وذلك بالحرص الشديد على التقيد بها وتطبيقها، وبترديد هذه الأفكار والمفاهيم عن طريق حملها والدعوة إليها، وبجعل مقاييسها أساساً للحكم على الوقائع، وبتجسيد مواقفها بشكل حي لتكون نموذجاً يحتذى به، وبعدم التأثر بالأفكار والأحكام والمواقف والمقاييس والآراء المناقضة للإسلام، بل التأثير فيها والسعي الجاد لمحوها من الوجود، كفكرة القومية والوطنية والديمقراطية والتعايش بين الحركات الإسلامية وبين السلطات القائمة في العالم الإسلامي، وكالاستعانة بدول الكفر وموالاتها، والتحاكم لمؤسساتها الدولية والإقليمية، ومداهنة الحكام أو السكوت على أنظمة الكفر والتذرع باتخاذ وسيلة لإقامة الحكم الإسلامي، وقبول جعل الإسلام متهماً ومحاولة الدفاع عنه عن طريق تأويل الإسلام ليتفق مع حضارة الغرب ومفاهيمه، وكاتخاذ المصلحة العقلية والأهواء مبرراً لسلوك سبل الشياطين والإعراض عن سبيل الإسلام، وكذلك الحال بالنسبة لطريق إيجادها في الواقع، واعتبا العادة مُحَكّمة، أو جعل الإسلام يتغير ويتبدل بحجة أنه يتغير تبعاً للظروف مكاناً وزماناً وأحداثاً، وكآراء خذ وطالب، و الرضى بالأمر الواقع وما شاكل ذلك.
فيجب دوام تغذية العقل بأفكار الإسلام ودوام حمل الدعوة ومحاربة كل فكرة وحكم ومقياس ورأي وموقف يناقض الإسلام محاربة لا هوادة فيها، حتى يتمكن الإسلام من تفويض الكفر، وحتى يتمكن الإسلام من تقويض الكفر، وحتى يتم إحباط مؤامرات الكفار في إحداث الميوعة والتموّج في أفكار الإسلام.
فاستقامة العقل تكون بانصهاره التام في بوتقة الإسلام، وقيام حامل الدعوة بواجبات الإسلام وواجبات الدعوة، والصبر على ذلك، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). وقال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). وقال: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا).
فمن واجبات الدعوة، أن لا يتأثر بقبول الناس له أو رفضهم، وأن لا يؤثر فيه طول الطريق أو قصره، أو الحرص على حياة حَمَلَة الدعوة أو عدمه، ما دام الأمر يتصل بدين الله ويتعلق بالجنة والنار وبرضى الله أو سخطه. فالحرص كل الحرص هو على دين الله والاستقامةُ عليه مهما كانت النتائج والعقبات والخسائر، فتقدير ذلك يجب أن يرتبط بالإسلام وبالتقيد به فكرة وطريقة دون الحيد عنهما قيد أنملة. فالمصيبة هي مصيبة الدين، والخسارة هي خسارة الدين، فكل مصيبة مهما علت وعظمت حتى لو وصلت حد الزلزلة فيجب أن لا تؤثر ي حامل الدعوة م دام مستقيماً على مبدأ الإسلام والدعوة إليه، وكل خسارة مهما بلغت من الذروة فيجب أن لا تهز من حامل الدعوة، ما لم تتصل هذه الخسارة بدين الله. قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). وقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). وقال: (لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). وقال: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ). وقال: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ). وقال: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ). وقال: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
ثانياً: معالجة المشاعر الغريزية الفطرية بجعلها مشاعر إسلامية مبدئية يري التحكم بها والسيطرة عليها عن طريق العقلية الإسلامية, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تَبَعاً لما جئتُ به». فشعور حُبّ السيادة والسيطرة يعالج بحب سيادة الإسلام في العالم أجمع، وشعور الخوف يعالج بالخوف من الله سبحانه دون سواه، وشعور الحرص على الحياة يعالج بحب لقاء الله والحرص على الاستقامة على الدين والدعوة وتطبيق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موتٌ في طاعة الله خير من حياة في معصية». وحُبّ الأمل بطول العمر يعالج بالأمل في الخلد في الفردوس والفوز برضى الرحمن، وحُبّ المال والبخل يعالج بحب الإنفاق لوجه الله دون الانتظار للشكر والجزاء بل توقع الإساءة، والإحساس بالمسؤولية عن النفس والأهل والعشيرة يعالج بالإحساس بالمسؤولية عن البشرية كافة… وهكذا يقوم حامل الدعوة بتتبع مشاعره الغريزية جميعها ويعالجها حسب دين الله, ويستمر على ذلك حتى تنصر مشاعره انصهاراً تاماً في بوتقة التقيد به والدعة إليه بهدف كسب رضوان الله، لا ريب أن متابعة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في العهدين المكي والمدني، والإطلاع على مواقف الصحابة رضوان الله عليهم, ترينا كيف تجسدت الاستقامة على الإسلام والدعوة إليه في الرسول وصحبه, فلقد كان إسلاماً يحيا في الواقع, ومثالاً يحتذى به في بناء الشخصية الإسلامية وفي حمل الدعوة, وفي التقيد بالشرع, وفي الإدراك بأنهم وجدوا من أجل الإسلام: فهماً والتزاماً ودعوة، وفي الممارسة لتجسيد هذا الإدراك عملياً فقد ضحوا بالغالي والنفيس ن أجل الإسلام, وكانوا نموذجاً فريداً في تطبيق الإسلام في المجتمع وحمل دعوته للعالم. فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفض مداهنة زعماء قريش أو ما يسمى اليوم بالتعايش والحوار مع الأنظمة الفاسدة، ويرفض ترك مكافحة الباطل ومصارعته، ولم يتأثر بالإغراءات أو التهديدات، واعتبر أمر المعارك السياسية أمراً مصيرياً، أي: أمر حياة أو موت, ولقد قال في هذا الأمر المقولة المشهورة: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». وهناك موقف عظيم لصحابي يرينا عمق الحرص على الاستقامة ببات لا يتزلزل، وحماس لا ينضب، وإحساس بالمسؤولية، وهذا الصحابي هو عبد الله بن حذاقة السهمي، فلم عجز ملك الروم على إغرائه في ترك الإسلام ودخول النصرانية وذلك بإشراكه في ملكه وتزويجه ابنته، أمر بقدر من نحاس فأحميت وجاء بأسير المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه النصرانية فأبى فأمر به أن يلقى في القدر فرفع ليلقى فيها فبكى فطمع فيه الملك ودعاه فقال عبد الله: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذا القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة من جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله قال له الملك: قبّل راسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أساري المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذاقة، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
وتجسيد الاستقامة علة هذا المبدأ الإسلامي والسير ف تحقيقها بالصعود في سلم الإسلام، والثبات على ذلك حتى يلقى حامل الدعة وجه ربه وهو راض عنه، فيكون ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وقال جل جلاله (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)، فتجسيد الاستقامة يحتم تصور هذه الغاية بشكل دائم، وجعلها أمراً مصيرياً، ودوام التفكير الجاد في تحقيقها، والسعي الحثيث بجهد لا يعرف الكلل ولا الملل للوصول إليها في أعلى مراتبها ليمر على الصراط يوم القيامة كردّ الطرْف لا كالبرق ولا كالريح ولا حبواً، بل يرجو ربه أن يكون من الفئة التي تمر على الصراط لدخول الجنة كالطرف، ويأخذ بالسباب الشرعية والدنيوية لتحقيق هذه الأمور.
فعلى حملة الدعوة ترسيخ تقوى الله في نفوسهم، عن طريق القيام بالواجبات وتجنب المحرمات ما اتسع الطاقة البشرية لذلك، والقيام بالنوافل والطاعات لينعموا بحب الله, وأن يكون ذلك متصلاً بإدراك الصلة بالله، وحب لقائه، والرجاء بأن يكونوا من الزمرة التي لا خوف عليها ولا تحزن، وعن طريق دوام التفكير بالموت والعاقبة ويوم الحساب والجنة ودرجاتها والنار ودركاتها، ورضى الله وسَخَطِه، ومحبته، ونحو ذلك، وأن يكون هذا التفكير مقترناً بالغاية منه، وعن طريق التفكير بحقيقة الحياة الدنيا، وواجب حامل الدعوة فيها، والغاية الكبرى التي يصبوا إليها في هذه الحياة التي يحياها كراكب السفينة في البحر. فالدنيا البالية التي لم تدم لمن سبقنا من الأغنياء والفقراء، ومن الأتقياء والفساق، ومن العظماء والسوقة، لن تدوم لنا، فحقيقة الدنيا أنها كالسفينة إما أن تقود صاحبها إلى الغرق في جهنم فيكون من أصحاب الدنيا لا من أصحاب الآخرة، وإما أن يقودها العاقل حامل الدعوة لسبيل السلامة في الجنة، فيكون من أصحاب الآخرة ولا يخسر الدنيا. فهو يمتطيها من أجل تسخيرها وتسخير كل القدرات والإمكانات من أجل الإسلام وعلو شأنه وسيادته على الكرة الأرضية، ومن أجل محو الكفر والشرك والنفاق من الوجود، فحامل الدعوة لا يستريح حتى يلقى وجه ربه، لذلك يداوم على فهم الإسلام بشكل تفصيلي يرسخه كقناعات في أعماق كل موقع دون أن يحسب أي حساب لما سيلاقيه من عنت وشده وابتلاء في طاعة الله، فيكون بذلك قد سلك الطريق الارتقائي نحو الاستقامة على دين الله وعلى دعوته حتى يصبح في نقائه من الشوائب والأدران الفكرية والمشاعرية المخالفة للإسلام كنقاء الإسلام في أفكاره ومشاعره، وفي صفاته ونقائه. وفي وضوح شخصيته واستقامته على نهج الإسلام كوضوح الإسلام في خلوه من كل غبش.
ولضمان السير في الطريق الارتقائي فعلى حامل الدعوة أن يقوم بعملية تقويم الاستقامة على دين الله وعلى دعوة الله وسبيلها، وعليه أن لا يتساهل في المعصية لأن المعاصي تؤخر رحمة الله ونصره، فقيام أحد الشباب بقطع رحمه كفيل بحجب نصر الله ورحمته عنا، وفق حديث الرسول r الذي يصدق به، وما حصل يوم حنين من وجود الغرور عند المسلمين بقوتهم وربطهم النصر بهذه القوة المادية وما ترتب على ذلك من نتائج وخيمة معروفة لَخَيْرُ دليل على أن المعصية تحجب رحمة الله ونصره. لذلك كان المسلمون يحرصون كل الحرص على عدم فعل المعصية قبل خوضهم للمعارك مع الكفار خزفاً من أن تؤدي هذه المعصية إلى نتائج سلبية عليهم أي تؤدي إلى الهزيمة.
فمن الواجب على المسلمين وحَمَلَة الدعة الأخذ بكافة الأسباب الشرعية والدنيوية ضمن القدرات والإمكانات وبحسب ما تتسع له الطاقة، امتثالاً لأمر الله، مع وجوب وجود اليقين بأن الله وحده دون سواه هو الناصر لدينه وأمت وحَمَلَة دعوته، فعلى حملة الدعوة أن تكون ثقتهم بالنفس التي لا حد لها قائمة على أساس ثقتهم بالله وبدينهم وبقوته وبعظمته لا على أساس ثقتهم بقدرتهم الذاتية، فهم بدون الإسلام وبدون عوْن الله لا وزن ولا قيمة لهم، فالإسلام، سر حياتهم، ومنبع قوتهم، وسبيل عزتهم. وعلى حامل الدعوة أن يتحلى بالصفات الإسلامية كالطيبة وحسن الظن، ولكن هذه الصفات وغيرها يجب أن تستند إلى الوعي واليقظة والحذر والتكتم على الأسرار، فكثير من الناس المخلصين قد يضرون بالإسلام وأهله دون وعي ودون إدراك لعواقب الأمور، فالعقلاء الذين يفكرون بالعواقب هم فئة نادرة، وأغلب الناس يتصرفون بالهوى ودون تبصّر، وإن ظهر على بعضهم الفكر قبل العمل، فإن ذلك يكون نادراً لأنه ينحصر في أمور معينة تجسدت فيهم من خلال التقليد لا التفكير، وما أروع الحكمة القائلة: «من فكر بالعواقب نجا، ومن تصرف بالحس عاد عليه بالألم». إن الاستقامة على دين الله وعلى دعوته وما تتطلبه هذه الاستقامة من الأخذ بكافة الأسباب الشرعية والدنيوية هي السبيل الوحيد للفوز بنصر الله في الدنيا وسعادة الدارين دار الدنيا والآخرة.
فالاستقامة الاستقامة يا حملة الدعوة الإسلامية