الفطــرة
1990/07/07م
المقالات
2,690 زيارة
وصلت إلى «الوعي» الرسالة التالية، وهي موجهة من أب إلى ابنته. وحين رأت «الوعي» أنها تحتوي على بحث قيّم عن معنى الفِطرة أحبت اطلاع قرائها عليها.
ولكن الكاتب ـ حفظه الله ـ أغفل شرح نقطة أساسية وردت في الحديث: «كل مولود يولد على الفِطْرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه» ولم يقل الحديث أو يُسْلمانه. مما يشير إلى أن الفِطْرة (في هذا الحديث) هي الاستعداد والتوجه نحو العقيدة الحقة والدين الصحيح، هذا الاستعداد والتوجه المخلوق في الانسان والذي يوصله إلى الدين الصحيح (الإسلام) إذا لم يصرفه عنه صارف.
بسم الله الرحمن الرحيم
لاهور في 28/10/1989م
ابنتي العزيزة…
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم، وأسبل عليكم ثوب ستره، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وهداكم بهداية منه وحفظكم بحفظه، وأعانكم على طاعته، وألهمكم الصواب والرشاد في القول والعمل…
ابنتي العزيزة
لقد تلقيت رسالتك المؤرخة في 16/10/1989م وبعد قراءتي لها وبعد اطلاعي على ما جاء فيها.. سررت بها سروراً عظيماً. لأني شعرب أنك لا تقفين عند قشور الأمور وإنما تبحثين عن الحقيقة حتى الوقوف عليها.
ابنتي العزيزة
قبل الاجابة عن سؤالك الذي تحمله إليّ رسالتك أريد أن أقدم لك تمهيداً ليساعدك على تكوين قاعدة فكرية تستطيعين من خلالها، ادراك الاجابة الصحيحة لمعنى الفطرة وهل هي الإيمان بالله ـ كما قالت لكم مدرسة التربية الاسلامية عندكم ـ أم أنها الخصائص الخَلْقِية وأن من هذه الخصائص الحاجات العضوية والغرائز التي جبل عليها الانسان نفسه وإن من هذه الغرائز غريزة التدين التي من مظاهرها حب التقديس عند الانسان.
ابنتي العزيزة
إن الحكم على أي شيء أو على أي فعل من أفعال الانسان لا يكون حكماً صحيحاً إلا إذا توفرت فيه أمور ثلاثة وهذه الأمور هي:
أ- ادراك الواقع الذي نريد أن نحكم له أو عليه ادراكاً تاماً.
ب- فهم النصوص التي جاءت لتعالج هذا الواقع فهماً تشريعياً.
ج- تنزيل فهمنا لمعنى النصوص على الواقع الذي نريد الحكم له أو عليه وملاحظة انطباق هذا الفهم لمعنى النصوص على ذلك الواقع تمام الانطباق.
هذه هي الأمور التي يجب علينا أن ندركها قبل اصدارنا الحكم على الواقع ما هو وما حكمه. وبما أن الموضوع الذي هو محل سؤالك إنما هو الفطرة ـ غريزة التدين ـ فكان لا بد لنا قبل الحكم عليها ما هي أن ندرك ما هو واقعها وما هي النصوص التي ترشدنا إلى الحكم على واقعها: ما هو.
وعند النظر إلى واقع الفطرة ما هو نجد أنه إنما يعني ما عليه المخلوقات من خصائص خَلْقِيَّة فإذا ما أردنا ادراك غريزة التدين ـ والتي هي من الفطرة ـ فإن الواجب علينا أن نسلط تفكيرنا على تلك الخصائص الخَلْقِيَّة الموجودة عند الانسان وذلك لأن الفطرة هي أصل الخلقة وما ركب في الخق من خصائص خلفية ثابتة.
فكان ادراك وجود أي أمر فطري إنما يكمن في ادراك ما عليه المخلوق نفسه من خصائص وميزات خَلْقِيَّة… ونجد أن من الأمور التي اختص بها الانسان غريزة التدين وهذه الغريزة هي خاصة من خاصيات الانسان بوصفه إنساناً لا بوصفه مؤمناً أو كافراً فهي مثل غريزة بقاء النوع التي من مظاهرها الميل الجنسي. فهذه الغريزة موجودة كذلك عند كل انسان سواء أكان مسلماً أو كافراً…
والأمور الفطرية كما أنها موجودة عند كل إنسان فإنه يضاف إلى ذلك أنها من الأمور الثابتة له فلا تتبدل ولا تتغير ولا يستطيع أحد أن يغير الأمور الفطرية عند الانسان.
هذا بالنسبة إلى ادراك واقع الفطرة، ومنها غريزة التدين. أما النصوص الدالية على هذا الواقع فكثيرة. منها قوله تعالى في سورة الروم: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهّودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». وعند النظر في هذه الأدلة نفهم منها الأمور التالية:
– الأمور الفطرية هي الأمور التي خلق الله الناس، كل الناس عليها. ]فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[، «كل مولود يولد على الفطرة».
– الأمور الفطرية هي من الأمور الثابتة في المخلوق فلا يستطعي أحد أن يغيرها أو أن يبدلها: ]لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[.
– غريزة التدين والتي مظهرا حب التقديس هي من الأمور الفطرية الموجودة عند كل إنسان.
– طريقة إشباع الحاجات العضوية والغرائز ـ ومنها غريزة التدين ـ تقع في الدائرة الإدارية التي منحها الله الانسان ولهذا فإن الانسان مسؤول ومحاسب على طريقة إشباعه لغرائزه ولحاجاته العضوية إذا أشبعها الاشباع غير الصحيح ـ المحرم ـ ولهذا فإننانجد أن صدر الآية تطلب من الانسان الاستقامة على الاشباع الصحيح لغريزة التدين عنده: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا[.
والاشباع الصحيح لهذه الغريزة إنما يكون بعبادة الله وحده والاستقامة على هذه العبادة فإذا أشبع الانسان غريزة التدين بعبادة الله وحده كان مؤمناً مستقيماً على الطريقة الصحيحة في اشباع هذه الغريزة.
وأما إذا أشبعها بعبادة غير الله فقد انحرف على الاستقامة ووقع في الكفر أو الشرك. فالله تبارك وتعالى لم يطلب من الانسان أن تكون عنده غريزة التدين وإنما طلب منه أن يشبع هذه الغريزة الموجودة عنده فطرياً اشباعاً صحيحاً والاشباع الصحيح لهذه الغريزة لا يكون إلا بعبادة الله وحده وكما يريد الله أي حسب شرع الله قال تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا[.
هذا بالنسبة للآية، أما الحديث فإنه يقرر كذلك أن غريزة التدين موجودة عند كل انسان: «كل مولود يولد على الفطرة» وبين أن الضلال إنما يقع عندما يشبع الانسان هذه الغريزة الاشباع الخطائ أو الاشباع الشاذ ـ الاشباع المحرم ـ تبعاً لارادة أبويه وارشادهما له إلى الطريقة التي يريد أن يشبع ولدهما غريزة التدين بها فأبواه يهودانه أو نيصرانه أو يمجسانه.
فالأبوان لم يغيرا فطرة ولدهما ولم ينزعاها منه، وذلك لأن الفطرة أمر ثابت لا يستطيع أحد أن يغيره أو أن يبدله. وإنما كان فعل الأبوين مقتصراً على توجيه ولدهما إلى الطريقة التي يريدان أن يشبع ولدهما غريزة التدين عند بعد أن كبر. فاليهودي يزين لولده طريقة الاشباع التي شبع بها اليهود هذه الغريزة.. والنصراني يحبب لولده الطريق التي يشبع بها النصارى غريزالتدين عندهم والمجوسي يوجه ولده إلى أن يشبع غريزة التدين عنده حسب اشباع المجوس لها.. وهكذا كل فرقة تزين لأبنائها طريقة الاشباع الخاصة بها حسب معتقدها. وعلى هذا الأساس فإن كل آية أو كل حديث يدل على وجود انحراف في الفطرة عند الانسان فلا يعني ذلك أن الانحراف قد حصل بسبب تغيير الفطرة عنده، ذلك لأن الفطرة أمر ثابت لا يتغير ]فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ[ وإنما يكون الانحراف قد حصل بسبب الاشباع الخاطئ أو الاشباع الشاذ ـ الاشباع المحرم ـ الذي أشبع به الانسان غريزة التدين التي عنده. وإن كل توجيه قد ورد في آية أو في حديث ويطلب فيه الاستقامة على الفطرة فإنما يعني الاستقامة على الاشباع الصحيح لهذه الفطرة ولم يرد أي دليل على أن الانسان مسؤول أو محاسب على وجود الفطرة أو الغريزة أو الحاجة العضوية التي عنده. وذلك لأن وجود الأمور الفطرية عند الانسان إنما يقع في الدائرة القسرية والتي فرضت على الانسان فرضاً، والانسان لا يستطيع إلا أن يخضع لهذه الدائرة القسرية التي فرضت عليه ومن ثم فإنه غير محاسب ولا مسؤول عن وجود الأمور الفطرية عنده، ولا يوجد ولا دليل يدل على أنه مسؤول أو محاسب على وجود هذه الأمور الفطرية التي فطر عليها.. وإنما الأدلة كلها تنصب على طريقة اشباع الانسان لهذه الأمور الفطرية وذلك لأن طريقة الاشباع للحاجات العضوية وللغرائز إنما تقع في الدائرة الارادية التي منحها الله الانسان وجعلها حسب ارادته واختياره فإذا أشبع الانسان هذه الغرائز بغير الطريقة التي حددها له الشارع فإنه يكون مسؤولاً عن هذا الاشباع الخاطئ أو الاشباع الشاذ ـ الاشباع المحرم ـ الواقع في الدائرة الاختيارية عنده..
ابنتي العزيزة
بعد هذا التمهيد يمكنك أن تدركي معنى الآية ومعنى الحديث اللذين وردا في رسالتك فإذا تقرر لدينا أن غريزة التدين ـ حسب التقدير ـ موجودة عند كل إنسان وإذا تقرر لدينا أن الانسا الكافر لا يجوجد عنده إيمان بالله… تبين لنا أن الفطرة ـ غريزة التدين ـ ليس المراد بها الإيمان بالله وإلا لكان غير المؤمن ليس عنده فطرة ـ غريزة التدين ـ والآية تدل على أن الأمور الفطرية موجودة عند كل الناس مؤمنهم وكافرهم ]فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ[، وواقع ما عليه الانسان يدل على ذلك أيضاً، وكذلك الحديث يدل على أن «كل مولود يولد على الفطرة» سواء أكان ذلك المولود لأبوين مسلمين أو لأبوين يهوديين أو لأبوين نصرانيين أو لأبوين مجوسيين أو لأبوين صابئين أو لأبوين مانويين أو.. أو..
وعلى هذا فإن غريزة التدين من الفطرة، وانها موجودة عند كل انسان، وأن مظهرها حب التقديس، وأن التقديس هو الطريقة لاشباع هذه الغريزة، فالمسلم الذي لا يقدس إلا الله ولا يعبد أحداً سواه يكون قد أشبع غريزة التدين عنده اشباعاً صحيحاً فكان إنساناً مؤمناً بالله مقيداً سلوكه بأوامر الله ونواهيه.
وغير المسلم يشبع هذه الغريزة بتقديس الشمس أو القمر أو الصنم أو المال أو العظماء من الناس فيكون اشباعه لغريزة التدين التي عنده اشباعاً خاطئاً أو شاذاً ـ اشباعاً محرماً ـ ويكون إما كافراً بالله أو مشركاً به يعبد غيره معه.
ونظرة خاطفة إلى الآية التي وردت في رسالتك تبين لك أن العهد الذي أخذه الله على بني آدم إنما هو عهد بأن لا يشبعوا غريزة التدين في عبادة غيره وليس هو عهداً على وجود الفطرة عندهم.
فبعد أن أخذ الله اعتراف بني آدم بأنه هو ربهم وهو خالقهم طالبهم بما يقتضيه هذا الاعتراف. فطالما أنه هو وحده ربهم وهو وحده خالقهم فإن عبادتهم يجب أن تكون له وحده.
فالآية لا تحمل إلا هذا المعنى، اسمعي إليها ثانية:
قال تعالى: ]وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ @ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ[.
فالمسؤولية التي وقعت عليهم إنما كانت بسبب شركهم، والشرك هو عبادة غير الله مع الله، فهم قد أشبعوا غريزة التدين عندهم بنفس الطريقة التي كان آباؤهم يشبعون بها غرائزهم، فكان أن وقعت عليهم المسؤولية ونقضوا عهدهم مع الله الذي أخذه عليهم. هذا هو معنى الآية وهو أن الله قد أخذ عليهم عهداً أن لا يشبعوا غريزة التدين إلا في عبادته وحده فلما عبدوا غيره معه نقضوا عهدهم الذي أخذه الله عليهم.
وإذا ما نظرنا إلى الحديث فإننا لا نجد أي اختلاف في المعنى بينه وبين الآية، فالحديث بين أن العهد الذي أخذه الله على بني آدم هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادة الله ليست فطرية بحيث يكون الناس كلهم لا يستطيعون إلا أن يعبدوه، فالله تعالى خلق الانسان وخلق فيه القدرة على فعل الخير وعلى فعل الشر: ]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا @ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا @ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا @ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[.
فالله خلق في الانسان غريزة التدين وأزمه بوجودها عنده لأنها أمر فطري وأمره وأخذ عليه عهداً أن لا يشبع هذه الغريزة إلا في عبادته، ولكن لم يجعل ذلك الاشباع في الدائرة القسرية وإنما جعله في الدائرة الاختيارية، فإذا زكى الانسان نفسه فلم يعبد إلا الله فقد أفلح، ومن أشبع غريزة التدين في غير عبادة الله وحده فقد خاب وخسر…
ابنتي العزيزة.
هذا هو معنى الفطرة وهذا هو واقعها وهذا هو معنى الآية التي جاءت في رسالتك وهذه هي الاجابة عليها وبيان معناها.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه ويرضى به عنا من القول والعمل.
وتحياتي لكم ودمتم لوالدكم□
1990-07-07