فتح القسطنطينية تحقيق وعد من وعود الإسلام
1990/06/07م
المقالات
2,704 زيارة
قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ).
هذا وعد عام من الله سبحانه وتعالى لعباده الصالحين، بالاستخلاف، إن هم أخذوا بأسباب العزة والقوة التي تكمن في الإسلام بما حواه من عقائد وأفكار وأحكام. إنه وعد للأمة الإسلامية كلها، لجميع أجيالها بالاستخلاف في الأرض، أي بأن يصبحوا سادة الأرض وحكامها، وبالتمكين لهم، وبتبديلهم الأمن بعد الخوف.
وهذا ما نطق به التاريخ، فبعد أن بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشر الدعوة والعمل على الحكم بما أنزل الله، أكرمه الله تعالى وصحابته بدولة ابتدأت في المدينة المنورة وأخذت بالاتساع حتى دانت لها الأمم والشعوب والقوميات. واستمر حال الأمة الإسلامية كذلك تبعاً لتمسكها بمبدئها، أي بعقيدتها ونظامها. ولما ضعف فهمهما وتمسكها بأفكار الإسلام وأحكامه وصل حالها إلى ما وصل إليه من الضعف والتخلف والتراجع والتقهقر والذل والمهانة. ولقد صدق الفاروق رضي الله عنه حين قال: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلو ابتغينا العزة بغير دين الإسلام أذلنا الله».
إذا كانت هذه الآية وعداً عاماً لكل الذين يؤمنون بالإسلام إيماناً صحيحاً، ويعملون به عملاً صحيحاً، فإن الإسلام قد احتوى وعوداً خاصة بإنجازات وانتصارات، منها ما تحقق ومنها ما لم يتحقق بعد، ولا ريب في إنه سيتحقق.
فمن وعود الإسلام التي تحققت ما رواه البخاري عن خباب بن الأرَتّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حين اشتكى أصحابه إليه ظلم قريش: «والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون». فدارت عجلة الزمن ليتحقق هذا الوعد الكريم حين أصبحت الجزيرة العربية بكاملها دار إسلام تحت حكم الدولة الإسلامية. ولو أردنا تعداد وعود رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحققت لطال بنا المقال.
وسنتكلم في هذا المقال عن وعد عظيم، أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأثبت التاريخ بعد قرون صدقه، وكان من دلائل نبوته عليه السلام. وهو ما رواه الإمام أحمد والحاكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أمرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش». وقد أردنا التكلم عن فتح هذه المدينة لما كان لها من أهمية في التاريخ، ولما تعنيه من مفخرة للأمة الإسلامية، وليتذكر المسلمون عظمة تاريخهم ودولتهم التي دامت قروناً متطاولة، وهزمت أعتى الأساطيل والجيوش. وأذلت أعتى الجبابرة والمتكبرين والطواغيت، عسى أن يكون ذلك إسهاماً في حث المسلمين على العمل لإعادة مجدهم عن طريق إعادة الخلافة الإسلامية.
كانت مدينة القسطنطينية العاصمة لدولة من أعظم الدول التي سادت قروناً طويلة، وهي الإمبراطورية البيزنطية، وكانت من أقوى مدن العالم وأشهرها وأهمها على الإطلاق. وقد أتت أهميتها من عدة عوامل. فهي تقع عند نقطة اتصال آسية بأوروبة عن طريق مضيق البوسفور الذي يصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأسود وبواسطة بحر مرمرة، فكانت بذلك عقدة المواصلات وطريق الملاحة. وقد قال عنها نابليون مرة: «لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها».
ثم أن أهميتها لم تأت فقط من موقعها الجغرافي، فلقد كان للمدينة في السياسة الدولية دور كبير، فمنذ أن انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى غربية وشرقية آخر القرن الرابع الميلادي، أصبحت العاصمة الأوروبية الثانية بعد روما ونافستها في الزعامة والسيطرة. وترافق هذا الانقسام للإمبراطورية مع انقسام الكنيسة النصرانية إلى غربية وشرقية، مركز أولاهما روما ومركز الثانية القسطنطينية. ولذلك كانت القسطنطينية إحدى أهم المراكز التي تنطلق منها الحروب والغزوات ضد بلاد المسلمين، خاصة إبان الحروب الصليبية. وقد استعصت لقوتها وتحصينها على الفاتحين.
ومنذ أن انطلق المسلمون في فتوحاتهم، كانت القسطنطينية من الأهداف التي وضعوها تصب أعينهم. ولم يتأخروا في محاولة فتحها، فلقد كانت أولى المحاولات في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان عام 51 هـ، حيث أرسل إليها ابنه يزيد، وكان في جيشه عدد من الصحابة رضوان الله عليهم أمثال أبي أيوب الأنصاري وغيرها، والذي لا يزال ضريحه شاهداً حتى وقتنا الحاضر قرب أسوارها. ثم جرت محاولة أخرى لفتحها في عهد سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي. إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل وبقيت القسطنطينية منيعة في وجه المسلمين عدة قرون من الزمن تخللتها فترات ضعف للدولة الإسلامية، مما أدى إلى صمودها أكثر فأكثر، بل كانت كما ذكرنا منطلقاً لكثير من الحملات الصليبية، كغيرها من العواصم الأوروبية.
إلى أن أعز الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية بدولة قوية في زمن العثمانيين حررت الكثير من ديار الإسلام وأعادت للإسلام والمسلمين عزهم وقوتهم، فوقفت حصناً منيعاً في وجه الجيوش الصليبية، بل تجاوزت ذلك إلى فتح البلاد غير الإسلامية وتحويلها إلى دار إسلام، فضمّت قسماً كبيراً من البلاد الأوروبية، وأصبحت القسطنطينية تشعر بالخطر المحدق بها، فقد أصبحت محاطة من أكثر جوانبها بالجيوش الإسلامية وبدأ السلاطين العثمانيون يعدون العدة من أجل فتحها وتحقيق البشارة النبوية الشريفة. فأكرم الله سبحانه وتعالى سابع سلاطين بني عثمان، السلطان «محمد الفاتح» وجيشه بهذا الشرف العظيم، وقد لقب لأجل ذلك «بالفاتح».
الحصار والتحضير للقتال
بدأ الفاتح الذي كان يبلغ من العمر الثالثة والعشرين، ببناء قلعة على الشاطئ الأوروبي من البوسفور على بعد لا يزيد على سبعة كيلومترات من أبواب القسطنطينية، واشترك بنفسه مع العمال في بنائها، ونصبت على الشاطئ المجانيق والمدافع الضخمة.
وقد حاول «قسطنطين» إمبراطور القسطنطينية، تلافي المعركة، ولم يألُ جهداً في سبيل ذلك، إلا أن السلطان أصر على الفتح ولم يتردد في موقفه، فأرسل الإمبراطور إلى ملوك أوروبا يطلب منهم العون والدعم والتدخل للدفاع عن عاصمة أوروبا الثانية، فأرسلوا إليه الدعم العسكري والمالي، وقام البابا يستنهض همم أوروبا وملوكها، وجرى توحيد للكنيستين الشرقية والغربية بعد انقسام دام قروناً طويلة.
قام أحد المخترعين المجريين بعرض اختراعاته الحربية على ملوك أوروبا فلم يبالوا بها، فعرضها على «الفاتح» فأكرمه وسخى عليه بالمال، فقام بتصميم المدافع الضخمة ومن أبرزها ذلك المدفع العملاق الذي يزن 700 طن، ووزن قذيفته 12 ألف رطل، ويجره مائة ثور يساعدهم مائة رجل شديد، وكان دوي انفجاره يسمع على بعد 13 ميلاً، كما أن قذيفته تنطلق بعيداً لمسافة ميل واحد، ثم تغوص في الأرض ستة أقدام.
وقام الفاتح بعدها ببناء سفن جديدة، ووضعها في بحر مرمرة كي تسد طريق الدردنيل، وقد بلغ عدد السفن العثمانية ما بين 250 و400 سفينة. وقد قام الروم بسد مدخل الخليج المحاذي للمدينة، ويسمى «القرن الذهبي»، بسلسلة ضخمة، واجتمعوا خلفها، وذلك لمنع الجيش الإسلامية من دخول الخليج لمحاصرة المدينة بحرياً.
وكان القسطنطينية محاطة بثلاثة أسوار، الأمامي غير مهم، يليه من جهة الداخل السور الخارجي الذي يبلغ ارتفاعه 25 قدماً، ثم يليه السور الداخلي الذي يبلغ ارتفاعه 40 قدماً، وبين هذين السورين فراغ قدره بين 50 و60 قدماً، والسور مدعم بأبراج وأمامه خندق واسع وهو خط الدفاع الأول.
بدء القتال
بدأ الزحف الإسلامي نحو القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح نفسه، وكان هو شخصياً في طليعة الجنود، وحاصر الجيش العثماني المدينة، وظهر أمام الجيش العلماء والأشراف من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعت الأعلام وقرعت الطبول ونفخت الأبواق، وكانت الحالة النفسية لسكان القسطنطينية منهارة، والخوف الشديد يستولي عليهم، وكان الإمبراطور يقوم بمحاولة رفع الروح المعنوية وبث روح المقاومة بين الأهلين.
وأقام السلطان مركزاً للقيادة وتوجه إلى القبلة وصلى ركعتين، وصلى الجيش كله.
ثم قام الأسطول بتطهير بحر مرمرة من السفن المعادية، ثم بدأت المدافع بإطلاق قذائفها باتجاه السور، وسرعان ما أحدثت ثغرة فيه واندفع الجند نحوها، ولم يعط الثمرة المطلوبة، إذ سرعان ما قام المحاصرون بسد الثغرة في اليوم نفسه.
في هذا الوقت كان الأسطول الإسلامي يقوم بمحاولة تحطيم السلسلة الواقعة في مدخل القرن الذهبي، ولكن ذلك باء بالفشل، فلم يستطع الأسطول الدخول إلى داخلة، ثم ظهرت خمس سفن صليبية فجأة في بحر مرمرة فلم يستطع الأسطول الإسلامي مواجهتها إذ كانت متقدمة في الصنع أكثر من سفن المسلمين. لكن عزيمة الفاتح لم تلن أمام تلك النكسات، بل ازداد تصميماً فوق تصميم، وفكر في وسيلة وجديدة كي ينقل بها السفن إلى داخل القرن الذهبي بعدما فشلت محاولة تحكيم السلسلة. فخطرت في باله فكرة جديدة أذهلت العقول وحيّرت الأذهان. وقام بعد دراسة المنطقة عن طريق البر ولمسافة ثلاثة أميال من بحر مرمرة حتى مياه القرن الذهبي. فأوعز بتعبيد الأرض وفرشها بالألواح الخشبية، ثم جرى دهن الألواح بالزيت والشحم، وبعدما زلجت السفن في تلك الطريق فوق الألواح المدهونة، وبتلك الطريقة استطاع إدخال سبعين سفينة في ليلة واحدة إلى داخل الخليج، وتغطية لذلك العمل قامت المدفعية بإطلاق قذائفها طيلة الليل، وطلع الصباح على أهل القسطنطينية ليذهلوا برؤية السفن الحربية الإسلامية في مينائهم، وربما لم يستطيعوا تصديق ما يرونه بأعينهم، فجرت معارك بحرية عنيفة داخل القرن الذهبي وكان النصر فيها حليف المسلمين. ثم قام الجند ببناء جسر عائم، وبدأ هجوم عثماني جديد وازدادت الحالة في المدينة سوءاً، ونقص الطعام في المدينة واقترح المقربون من الإمبراطور سفره خارج المدينة كي يستنجد بالدول النصرانية، ولكنه رفض وبكى واكتفى بإرسال الرسل.
ثم قام الفاتح بمفاجأة جديدة، إذ قام الجند بحفر الأنفاق تحت الأسوار ليصلوا إلى داخل المدينة، فجن أهل المدينة من سماع أصوات الضربات تحت أرجلهم، فلم يعودوا يعرفون أن ينتظرون عدوهم. وأحسوا بالعذاب قد داهمهم من بين أيديهم ومن خلفهم ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم، فدبت حالة من الذعر الشديد والهلع المريع، وبدأت كوابيس اليقظة تفتك بأعصابهم.
ثم فاجأهم ببناء قلعة خشبية ضخمة جاوز ارتفاعه السور، تشكلت من ثلاث طبقات، كساها بالجلود والسميكة المبللة بالماء لمقاومة النيران. وعندما شاهدها أحد المؤرخين، وهو صديق للإمبراطور قال مندهشاً:«لو اجتمع جميع نصارى القسطنطينية على أن يصنعوا مثل هذه القلعة لما صنعوها في شهر، وقد صنعها المسلمون الأتراك في ليلة واحدة، بل في اقل من أربع ساعات».
بعث السلطان الفاتح برسالة للإمبراطور يدعوه فيها للتسليم حقناً للدماء، وأمنّه على نفسه وأهله وماله وألا يتعرض أهل المدينة لسوء، ولكنه رفض الطلب وأجهش في البكاء وأغمي عليه لشدة ما كان يسمع من دوي القذائف وصيحات الجنود المسلمين «الله أكبر»، فاستمر المسلمون في الحصار.
ثم صمم مهندسو الفاتح مدافع ترمي إلى الأعلى ثم تسقط قذائفها في قلب المدينة، فكان المسلمون الأتراك أو من استخدم مدفع «الهاون». وقد قرر الفاتح الهجوم على المدينة لدخلوها.
بدء الهجوم
بعد واحد وخمسين يوماً من الحصار، في ليلة العشرين من جمادى الأولى لسنة 857 للهجرة بدأ الهجوم.
أمر الفاتح جنوده بالصيام قبل الهجوم بيوم لتطهير نفوسهم وتزكيتها، وأمرهم بالإكثار من الصلاة وذكر الله والدعاء، ثم قام بزيارة للسور وتفقد الأسطول. وفي تكل الليلة تعالت أصوات التكبير وصيحات المسلمين مدوية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقرع الطبول ورتلت الأناشيد الدينية وتلا الشيوخ آيات الجهاد. وعندما عاد السلطان إلى خيمته دعا كبار رجال جيشه ثم خاطبهم قائلاً: «إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث رسول الله ومعجزة من معجزاته وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير، فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً أن الظفر العظيم الذي سنحرره سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يسموها بأذى ويدَعوا القساوسة والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون».
وتكثف الهجوم، وتسلق المسلمون السور لعدة مرات وأعادوا التسلق حتى استنفاد قوة العدو، ثم قاموا بالانسحاب، في الوقت الذي كان يشن فيه هجوم بجري، وقام جنود الانكشارية الأكثر حركة وبسالة باقتحام السور، وأصيب رأس المدافعين عن المدينة، وخارت معنويات الروم وازداد عنف الهجوم واشترك الفاتح شخصياً فيه، ثم بدأ دخول المسلمين كالسيل العرمرم، وصيحاتهم تدوي… «الله أكبر»، «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وقتل الإمبراطور، وفر المدافعون من جنده وفتحت أبواب المدينة، ونكست أعلام الإمبراطور ورفعت مكانها الرايات الإسلامية، وقال الفاتح: «الحمد لله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد، ولشعبي الفخر والمجد». ودخل السلطان الفاتح البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً المدينة في مركبة الحافل يبتعه وزراؤه وقواده وجنوده البواسل، فخطب فيمن حوله، فقرأ على جنوده الحديث النبوي الشريف: «لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»، وهنأهم بالنصر وأوصاهم بالثبات وعدم الغرور، والتمسك بالفضيلة وحسن المعاملة والرأفة بسكان المدينة ونهاهم عن القتل والسلب والنهب، ثم سار إلى موضع كنيسة أيا صوفيا ونزل على الأرض وانحنى ووضع حفنة من التراب على رأسه خضوعاً لله وشكراً له. ودخل الكنيسة فأعطى الأمان للرهبان ورجال الدين ولكل النصارى. ثم أمر أحد المؤذنين، فرفع الأذان فوق الكنيسة فتحولت إلى مسجد من أعظم مساجد المسلمين في العالم، مسجد «أيا صوفيا» الشهير، وبدأ السكان يدخلون في دين الله أفواجاً، وأصبح اسم المدينة بعد ذلك «إسلام بول» أي مدينة الإسلام، حيث أصبحت عاصمة للدولة العثمانية التي أصبحت بدورها خلافة المسلمين في الأرض كلها، وبقيت عزاً للمسلمين قروناً عدة، نعمت فيها الأمة بوحدة سياسية تحسدها عليها الأمم والشعوب، وعُرف جيشها بالجيش الذي لا يقهر، ووجدت فيها الشعوب الإسلامية المستضعفة في أطراف الأرض الأمل والمرتجى، وتلمست بها العز والمجد والخلاص.
إلى أن دب الوهن في جسم الدولة الإسلامية، وتخلف المسلمون فكرياً، وتآمر الكفار على هدم الخلافة وساعدهم على ذلك كثير من المسلمين عن غباء وسذاجة وجهل، فتحقق لهم ما أرادوا، وأصبحت بلاد المسلمين ممزقة مشتتة داخل كيانات هزيلة، وتحوّل مسجد عاصمة المسلمين العظيم «أيا صوفيا» إلى متحف يدنسه الكفار والملحدون، وأصبح متنزهاً للحاقدين على الإسلام الشامتين بأهله لما وصولوا إليه من حال.
ولكن عزاء المسلمين، أن عجلة الزمان لم تقف، وأن المسلمين سيعيدون تحرير بلادهم. فوعد الله ما زال قائماً ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[ وأمره تعالى ما زال مستمراً ]وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ[ وسنّته باقية ]إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[.
بل وأكثر من ذلك، لقد وعد الإسلام بانتصارات وإنجازات وفتوحات بعينها، ولم تتحقق بعد، وستتحقق بإذن الله تعالى، فكما تحقق الوعد بفتح القسطنطينية، سيتحقق الوعد بفتح «روما» معقل الفاتيكان ومركز الغزو التنصيري، ومنطلق المؤامرات ضد الأمة الإسلامية. فقد روى الإمام أحمد والدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: «أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أم روميا؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: مدينة هرقل تفتح أولاً»وهي القسطنطينية، ومفهوم الكلام أن مدينة روما ستفتح بعدها.
ووعد الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال اليهود وهزيمتهم، فقال في الحديث الذي رواه البخاري: «تقاتلكم اليهود فتسلَّطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله»، وها هم اليهود قد أتوا في القرن العشرين إلى بلاد المسلمين وأقاموا لهم دولة على أرض فلسطين، ليتحقق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم.
ولكن من لهذه الانتصارات يا ترى؟ ومن لهذه الفتوحات؟ هل يمكن لأنظمة كأنظمة اليوم أن تفتح روما معقل الفاتيكان؟ هل يمكن لحكام كحكام اليوم أن يقودوا القتال ضد اليهود؟ إننا نراهم يتسكعون على أبواب الفاتيكان يطلبون منه حل قضاياهم ومشكلاتهم، إننا نراهم يتهافتون للصلح مع اليهود والاعتراف بدولة إسرائيل، فهيهات هيهات أن يحرروا وأن يفتحوا.
إنها دولة خلافة راشدة، وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعد، فقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».
فها هي المراحل التي عدها رسول الله عليه الصلاة والسلام قد مضت، وها نحن نعيش في مرحلة الملك الجبري، ولم يبق م هذه المراحل إلا الوعد الأخير في هذا الحديث، وهو قيام خلافة على منهاج النبوة، وستتحقق بإذن الله تعالى.
حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشر أهل الشام وأكناف بيت المقدس بأن الخير سينطلق من جديد من بلادهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، وهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك» قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» وفي رواية للبخاري: «هم بالشام».
اللهم إنا نسألك أن تنجز لنا وعد نبيك عليه وآله الصلاة والسلام، وأن تعلي بأيدينا راية الإسلام خفاقة فوق الرؤوس والهامات، وأن تعز الإسلام وأهله وتذل الشرك وأهله، إنك سميع الدعاء وناصر المؤمنين ومذل الكافرين.
إعداد: أحمد فضل
المرجع: تاريخ الدولة العثمانية للدكتور علي حسّون.
1990-06-07