التصنيع ونقل التكنولوجيا إلى العالم الإسلامي
1990/05/07م
المقالات
2,311 زيارة
هذه محاضرة ألقاها الدكتور عنان حمدان بتاريخ 11/04/1979م. بمبنى كلية العلوم بالخالدية (جامعة الكويت).
ورغم مرور أكثر من عقد من الزمن عليها فإنها ما زالت في تشخيصها للداء ووصفها للدواء تعبّر عن الواقع وتنطق بالحقيقة. وقد رأت «الوعي» نشرها ونشر كلمة «الوعي» نشرها ونشر كلمة الوعي عن هذا الموضوع إسهاماً منها خدمة الإسلام والمسلمين.
يكثر الحديث في هذه الأيام عن نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية في أندية الأمم المتحدة وغيرها وهذا الحديث مرده إلى سوء التوزيع التكنولوجي في العالم حيث تتركز التكنولوجيا في عدد قليل من الدول، والهوة بين هذه الدول والغالبية الساحقة من الدول الأخرى كبيرة إلى درجة تبعث على القلق، والتقدم التكنولوجي أمر حيوي بالنسبة لكيان أي أمة في هذا العصر، فقوة الأمم العسكرية والاقتصادية تعتمد إلى حد كبير على تقدمها التكنولوجي، وبالتالي فإن الاستقلال السياسي للأمم رهن بمقدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا، وبشكل خاص على إقامة الصناعات الحديثة.
وإذا نظرنا إلى دول العالم اليوم فإننا نرى أنها تتفاوت بين دول صناعية كالولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان ودول غير صناعية وهي تشمل دول ما يسمى بالعالم الثالث أو الدول النامية وهي تشكل غالبية العالم. وهناك دول فيها قواعد صناعية أجنبية ولكنها ليست دولاً صناعية بالمعنى الحقيقي كتايوان وهونغ كونغ وكوريا البرازيل، والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: ما معنى نقل التكنولوجيا؟ وهل يمكن أن تقدم الدول الصناعية أسرارها التكنولوجية طوعاً واختيارً للدول النامية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، نعرض الصراع بين الدول الصناعية والتنافس بينها على أسواق المنتجات الصناعية.
1- الصراع بين الدول الصناعية:-
في العام المنصرم تحدث الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان عن مكانة فرنسا في حديث طويل للتلفزيون الفرنسي فقال إنه عندما كان وزيراً للاقتصاد وضع لنفسه هدفاً وهو أن تسبق فرنسا بريطانيا التي كانت تتقدم عليها دائما، وقال إنه بحلول عام 1967 تحقق هذا الهدف فقد سبقت فرنسا بريطانيا في مستوى المعيشة، واليوم تقف فرنسا أمام بريطانيا بشكل واضح. ثم رتب الدول الصناعية فوضع فرنسا في المرتبة الخامسة من ناحية القوة الاقتصادية بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي واليابان وألمانيا ووضعها في المرتبة الثالثة من ناحية القوى النووية بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مباشرة وقبل بريطانيا والصين، وقال إن هدفه الآن هو أن تتقدم فرنسا إلى صفوف أرقى أربع بلدان في العالم فتلحق بألمانيا في خلال 15 سنة.
بعد الحرب العالمية الثانية حاولت أميركا منع حلفائها من صنع الأسلحة الذرية والنووية فمنعت الأسرار عن بريطانيا وحاولت عرقلة برامجها ثم فعلت نفس الشيء بالنسبة لفرنسا فقد منع جونسون بيع أجهزة كمبيوتر أميركية متقدمة إلى فرنسا فتأخر لذلك البرنامج النووي الفرنسي لمدة سنتين، والغرض من ذلك أن تُبقي أميركا حليفاتها في حاجة لحمايتها. وفي آب سنة 1943 رقع كل من ورزفلت وتشرشل على اتفاقية في كوبيك بكندا تنازلت بموجبها بريطانيا عن حقها في النواحي التجارية والصناعية في حقل تطوير الطاقة النووية بعد الحرب إلا بالقدر الذي يسمح به رئيس الولايات المتحدة، وهذا التنازل جزء من الثمن الذي دفعته بريطانيا لإغراء أميركا للاشتراك في الحرب العالمية الثانية. وقد بدأ كارتر رئاسته بالضغط على الدول النووية الأخرى عن طريق إيقاف شحنات اليورانيوم المكثف إليها حيث تزود أميركا العالم غير الشيوعي بنصف احتياجاته من اليورانيوم، وقامت أمريكا بحملة ضد ما يسمى المفاعلات السريعة (FAST BREEDER REACTORS) بحجة منع انتشار المواد التي تصلح للاستخدام في الأسلحة النووية، وقيل عندها أن أميركا أرادت من ذلك إيقاف تقدم أوروبا عنها في معالجة الوقود الذري (FUEL PROCESSING) حيث أنها لتوفَّر اليورانيوم فيها لا تحتاج في الوقت الحاضر إلى معاملة الوقود الذري الناتج عن المفاعلات النووية العادية. وقد ضغطت أميركا على كل من فرنسا وألمانيا لإيقاف صفقات من المفاعلات النووية إلى كل من إيران وباكستان والبرازيل وعرضت أميركا على هذه الدول تزويدها بمفاعلات أميركية الصنع، والمعروف أن أميركا تسيطر على 70% من سوق المفاعلات العالمي، وكذلك الحال بالنسبة لصناعة الكمبيوتر حيث تحتكر الشركة الأميركية العملاقة IBM 60% من تجارة العالم في هذا المجال. وفي مجال الطيران المدني حارب الأميركان طائرة الكونكورد وهي الطائرة المدنية الوحيدة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت لأن الشركات الأميركية تخلت عن مشاريع لبناء طائرة مماثلة وهي أيضاً تسيطر على نسبة عالية من مسوق الطائرات المدنية العالمي.
هذا عن التنافس بين دول العالم الغربي، أما التنافس بين أميركا وروسيا فهو أمر معروف، فبالرغم من تركيز الروس على تكنولوجيا التسلح وصناعة الفضاء إلا عن عندهم نقاط ضعف كثيرة، فهم يتأخرون عن الأميركان في صناعة الكمبيوتر، وقد استورد الروس بعض أنواع الكمبيوتر الأميركية والتي تستخدم للتنقيب عن النفط، والمعروف أن الصناعة الروسية متأخرة في مجالات منها صناعة السيارات والمفاعلات الذرية حيث باعت روسيا مفاعلات لفلندا، وتنوي ليبيا شراء بعضها وفي الحالتين تعود أسباب الشراء إلى اعتبارات سياسية ولا تزال كل من أميركا وروسيا حريصة على تتبع أسرار التكنولوجيا عند الأخرى بمختلف الوسائل، فحين هرب طيار روسي بمقاتلة من نوع ميغ 25 إلى اليابان قام الخبراء الأميركان بتفكيكها وفحصها فحصاً دقيقاً لمعرفة المستوى الذي وصلت إليه روسيا في هذا المجال وكذلك فإن روسيا تستورد الكثير من المنتجات الصناعية ولا سيما من ألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا.
2- الصراع على أسواق المنتجات الصناعية:-
خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية محطمة وخرجت أميركا في أوج قوتها ومدت يد المساعدة إلى أوروبا عن طريق مشروع مارشال كما ساعدت اليابان على إعادة بناء اقتصادها، وفي أثناء ذلك بقيت البضائع الأميركية مسيطرة على الأسواق العالمية طيلة الخمسينات، إلا أنه مع نهاية الستينات كانت أوروبا ولا سيما ألمانيا الغربية واليابان قد وصلت إلى درجة من القوة الاقتصادية أخذت تنافس أميركا بنجاح ليس في الأسواق العالمية فحسب بل وفي الأسواق الأميركية حيث غزتها البضائع الأوروبية واليابانية في مجال السيارات وصناعة الفولاذ والصناعات الإلكترونية وغيرها، وفي بداية السبعينات أخذت أميركا في إعادة النظر في سياستها الاقتصادية بغرض إعادة سيطرتها على الأسواق العالمية وهي تستخدم لذلك الأسلحة التالية:
أ- نظام النقد الدولي المرتبط بالدولار.
ب- فرض السيطرة السياسية على موارد المواد الأولية.
جـ- إيجاد قواعد صناعية في دول كتايوان وكوريا لضرب الصناعات الأوروبية واليابانية.
وسنتحدث بإيجاز عن كل من هذه الأساليب لأهميتها:
أ- نظام النقد الدولي:
بعد الحرب العالمية الثانية خرجت أميركا من عزلتها ونشرت مظلّة حماية عسكرية فوق دول العالم الغربي، كما أنها نشرت مظلة اقتصادية للسيطرة على اقتصاد العالم غير الشيوعي، ومن الأدوات الرئيسية التي استحدثتها أميركا لممارسة هذه السيطرة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وقد أنشئ هذا التوأم حسب اتفاقية بريتون وودز المعقودة عام 1944، والمتتبع لتاريخ الصندوق وطريق عمله يرى كيف سيطرت أميركا على الصندوق كأداة من أدوات نفوذها، ولنسمع ما يقول أحد المعلقين الاقتصاديين: «لقد تعاظمت قوة الصندوق خلال الـ 34 سنة التي مرت منذ إقامته في بريتون وودز في نيوهامبشاير سنة 1944 حتى أنه لا تستطيع أية حكومة في هذا العالم الرأسمالي أن تقترض من البنوك الخاصة أو من البنك الدولي (توأم الصندوق الذي لا يقل عنه خبثاً) أو من الحكومات الأخرى دون أن تحصل على الإذن بذلك من موظفي الصندوق» ويمضي هذا المعلق إلى القول في حديثه عن موظفي الصندوق: «هذه هي الرسالة الهادفة التي يرفعها هؤلاء الزهاد على ألويتهم ولكنهم يخلفون وراءهم الانقلابات والبطالة والجمود والتعاسة والجوع والظلم، وندرٍ أن عرف تاريخ العالم مؤسسة ألحقت ضرراً بالغاً باسم فعل الخير كهذه المؤسسة» ويقول أيضاً: «إن صندوق النقد الدولي لم يتخذ أبداً في تاريخه أي قرار مهم يناقض رغبات الولايات المتحدة».
هذا وقد نصت اتفاقية بريتون وودز على إبقاء سعر الصرف في حدود 1% من السعر الذي يحدده صندوق النقد الدولي، وقد كان على الدول أن تحافظ على هذا السعر عن طريق موازنة العرض والطلب على علمتها في أسواق الصرف، وقد لعب الدولار دوراً رئيسياً في عمليات الصرف الدولية وأصبح هو العملة العالمية التي تشكل جزءاً هاماً من احتياطي البنوك المركزية في مختلف دول العالم، وقد ساعد على ذلك أن الخزينة الأميركية كانت تتعهد بتحويل الدولار إلى ذهب بسعر ثابت قدره 35 دولاراً للأونصة.
حين شعر الأميركان بتدهور مركزهم التنافسي في أواخر الستينات وأوائل السبعينات بدأوا بالعدول عن نظام سعر الصرف الثابت الذي حددته اتفاقية بريتون وودز فأوقف نيكسون تحويل الدولار إلى ذهب في أغسطس سنة 1971 وجرى تبني (FLOATING RATES) نظام تعويم سعر الصرف عام 1973. والنظام الجديد سمح لأميركا أن تشن حرباً نقدية حامية الوطيس لضرب عملات منافسيها التجاريين، فقد أخرجت أميركا إلى أسواق تبادل العملات الخارجية بلايين الدولارات وهو ما يسمى باليورودولار، وقد قدرت قيمتها بما يزيد عن 400 بليون دولار، فكان أن صدّرت أميركا إلى الخارج التضخم المالي الهائل. لكن الحرب النقدية وصلت ذروتها في السنة الأولى من إدارة كارتر فبدأ سعر الدولار بالهبوط مقابل المارك والين والفرنك السويسري إلى درجة أثارت القلق في هذه البلدان إذ أن ارتفاع قيمة تلك العملات أمام الدولار يعني زيادة أسعار صادراتها من المنتجات الصناعية بالنسبة للمنتجات الأميركية، وقد رافق حرب الدولار هذه ضغط أميركي على اليابان وألمانيا بشكل خاص لتزيد من معدلات النمو عندها حتى تزيد وارداتها، ومن ضمنها الواردات من أميركا حتى يتقلص الفائض التجاري لهذه الدول، ورغم هبوط الدولار إلا أنه لم يفقد مركزه كعملة عالمية وذلك لعدم وجود بديل عنه يمكن أن يتوفر بالكميات الكبيرة التي تتطلبها عمليات التجارة الدولية، فقد كان الدولار يشكل 90% من احتياطي البنوك المركزية في العالم، وبعد هبوطه أخذت هذه البنوك تستبدل بالدولار عملات قوية أخرى كالين والمارك، ولعدم توفر هذه العملات بالكميات المطلوبة فقد بقي الدولار يشكل 80% من احتياطي البنوك المركزية، وقد مكنت السيولة الهائلة من اليورودولار أميركا من التلاعب بالعملات الأخرى بسهولة وذلك لأن حجم احتياطي البنوك المركزية في العالم الغربي خارج أميركا 220 بليون دولار في حين أن حجم اليورودولارات يفوق ذلك بكثير، وللتدليل على ذلك تكفي الإشارة إلى أن البنك المركزي الياباني قد أنفق في آخر أسبوع من شهر تموز من العام الماضي ما قيمته بليون دولار للتخفيف من كميات الدولار التي يطرحها المضاربون في بورصة الأوراق المالية في طوكيو لوقف ارتفاع قيمة الين دون جدوى. وقد عمدت ألمانيا إلى إقامة ما يسمى بنظام النقد الأوروبي للوقوف في وجه حرب الدولار، وقد كان من ضمن تعليق المسؤولين الأميركان على هذا النظام أنه قد يعوق ارتفاع قيمة العملات القوية أمام الدولار بالشكل المطلوب مما يدل على أن أميركا قد قصدت تخفيض قيمة الدولار لضرب عملات منافسيها التجاريين.
ب- فرض السيطرة السياسية على موارد المواد الأولية:
تهتم الولايات المتحدة بالمواد الأولية اللازمة للصناعات العسكرية منها وغير العسكرية اهتماماً بالغاً، وهذه المواد تشمل مصادر الطاقة كالنفط واليورانيوم وبقية المعادن، أما النفط فإن تصريحات المسؤولين الأميركان الأخيرة عن النفط في منطقة الخليج وإرسالهم حاملة الطائرات يدل على رغبتهم العارمة في السيطرة على منابع النفط. وهناك ما يسميه الجيولوجيون «أفريقيا العليا» HIGH AFRICA وهي منطقة غنية بالمعادن تمتد من إقليم الترانسفال في جنوب أفريقيا مروراً بشابا في زائير إلى أنجولا وهذه المنطقة تحتوي على معادن الكروم، والمنغنيز، والفاناديوم، والبلاتين، ويعتبر الكروم ضرورياً لصناعة دروع الدبابات بشكل خاص.
بالنسبة لمنابع النفط في الخليج فإن الأميركان أظهروا اهتمامهم به واعتبروه من مصالحهم الحيوية التي يقاتلون من أجلها، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية حاولت الشركات الأميركية الضغط على شركات النفط البريطانية التي كانت تحتكر النفط الإيراني لإعطائها حصة فيه فلم تفلح وعندها لجأ الأميركان إلى إثارة المتاعب السياسية في إيران، يقول سلوين لويد في مذكراته أن مليونيراً أميركياً ممن يعمل في حقل النفط يدعى MCGHEE اتصل بالإيرانيين بعد الحرب وأخبرهم أن الأميركان سيعطونهم صفقة أحسن من الإنجليز مقابل إعطاء الامتياز للأميركان وحرضهم على الاضطرابات التي أدت إلى حوادث عبدان، وجاء مصدق إلى الحكم بدعم من الأميركان، فإن سلوين لويد يقول في مذكراته أن وزير الخارجية الأميركية آنذاك اتشيسون قد طلب منه ألا يثير الإنجليز المتاعب لمصدق لأنه إذا ذهب فسيأتي من هو شر منه، إلا أن مصدق عاد وقلب ظهر المجن للأميركان فقلبوه بالتعاون مع الإنجليز وأعادوا الشاه إلا أنهم في مقابل ذلك حصلوا على 60% من نفط إيران بينما بقي للإنجليز 40% منه، وهكذا كان النفط هو الدافع لإثارة الاضطرابات السياسية في إيران في ذلك الوقت.
أما بالنسبة لأفريقيا فنكتفي بعرض أمثلة على الصراع الدائر بين الدول الاستعمارية على السيطرة على المناطق الغنية بالموارد الأولية، وفي هذا المجال نقتطف من إفادة قدمها جيرالد بندر من دائرة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس أمام اللجنة الفرعية للعلاقات الدولة بمجلس النواب الأميركي في عام 1978 والإفادة تتعلق بأنجولا. تعرض بندر لحركات التحرير في أنجولا فقال أن هناك حركة تحرير إقليم كابندا والتي تدعمها فرنسا وهي تعتبر شركة غلف للزيت الأميركية عدوة لها وفي حالة انتصارها فإنها ستمنع الأميركان من الوصول إلى حقول النفط لصالح شركات النفط الفرنسية، أما عن حركة FNLA فقال أن الولايات المتحدة قد أيدتها لمدة 17 سنة، ومن المستحيل أن تجد أميركياً مسؤولاً كان أم صحفياً أم أكاديمياً يعرف هذه الحركة، ويقول في حقها كلمة ثناء من جهة التنظيم أو القيادة، أما حركة UNITA فهي حركة عرقية موجهة ضد البيض وقيادتها مشكوك فيها، وفي مقابل ذلك مدح بندر حركة MPLA التي تسلمت حكم أنجولا وقال أنها غير عنصرية بشكل لا يقبل الشك وأثنى عليها من ناحية التنظيم والإدارة وخص بالثناء قائدها نيتو ووصفه بأنه غير عنصري وقد أثبت ذلك فعلاً بعد تسلمه لحكم أنجولا وقال أن أحسن أمل لأنجولا حرة هو زعامة نيتو وأن الهستيريا الموجهة ضد حكمه لا مبرر لها. إذا أضفنا إلى هذه الشهادة من خبير بشؤون أنجولا أنه منذ نجحت حركة نتيو فإن شركة غالف الأميركية تخرج من حقول النفط في كابندا في أنجولا ما قيمته بليون دولار سنوياً وحقول النفط هذه تحميها القوات الكوبية، مما جعل أندرو يونغ ممثل أميركا في الأمم المتحدة يثني إلى الوجود الكوبي في أفريقيا. هذا كله يدل على أن هذه الحركة رغم ادعائها للماركسية تخدم المصالح الأميركية وما تأييد أميركا غير الجدي لحركات التحرير الأخرى إلا تغطية وذر للرماد في العيون لإخفاء تأييدها الفعلي لنيتو وحركته.
أما في روديسيا وجنوب أفريقيا فإن المشكلة الظاهرية هي إعطاء الحكم للأغلبية السود الذي يؤيده كل من إنجلترا وأميركا ولكنه ثبت أن شركة النفط البريطانية كانت قد أعلنت حظراً نفطياً على روديسيا، والحكومة البريطانية تملك أغلبية أسهم شركة النفط التي كانت تخالف قرار الحظر، وثبت أن ذلك كان يجري بعلم عدد من رؤساء الوزارات بمن فيهم ويلسون وهيث مما يدل على أن عداء الإنجليز لحكومة سميث ما هو إلا تمثيل ، وكل ما يريده الإنجليز هو نقل الحكم إلى جماعة من السود ممن تختارهم هي، فقد سئل رئيس وزراء بريطانيا السابق هارولد ويلسون عن رأيه في العلاقات الأميركية الإنجليزية، فقال إنها ستتحسن كثيراً ول أزيح اندروا يونغ من منصبه لأن يونغ يؤيد روبرت موغابي عضو اللجنة الوطنية الروديسية الماركسي ويصر على إشراكه في أية تسوية. وكان يونغ قد صرح بأن الإنجليز عنصريون ويريدون ترك روديسيا دون حل كما تركوا فلسطين من قبل. وقد أظهرت الصحف البريطانية عداءها لموغابي هذا هوي تؤيد جوشوا نكومو عضو الجبهة الآخر الذي سبق أن اجتمع سراً مع سميث فقالت عنه الصحف الأميركية أنه قد كشف عن ولائه لسميث وهكذا يجري الصراع بين أميركا وبريطانيا للسيطرة على أفريقيا تحت ستار حقوق الإنسان وحكم الأغلبية.
جـ- القواعد الصناعية الأجنبية:
كانت الدول الاستعمارية في السابق تقيم لها قواعد عسكرية لحماية مصالحها وفي هذا العصر حين أصبح الاستعمار العسكري غير مقبول ازدادت أهمية السيطرة الاقتصادية سواء عن طريق جيوش الدولار أو عن طريق إقامة القواعد الصناعية الأجنبية لاستخدامها في حرب التسلط والسيطرة، وعليه فإن الشركات متعددة الجنسية أخذت تقيم لها صناعات في دول موالية تتوفر فيها الأيدي العاملة الرخيصة ومن بين هذه الدول التي أقيمت عليها قواعد صناعية أجنبية كوريا وهونغ كونغ وتايوان والبرازيل فأقيمت في هذه الدول صناعات السيارات والمنسوجات وصناعة السفن وأخذت هذه القواعد الصناعية تقلق الأوروبيين واليابانيين حيث تغرق الأسواق بالمنتجات بأسعار يصعب منافستها ولا شك أن هذا العمل يخدم مصلحة أميركا التي تهدف إلى إعادة تحجيم كل من اليابان وألمانيا الغربية.
والذي يدل على أن هذه القواعد الصناعية الأجنبية ليست ناتجة عن تطور صناعي في البلدان التي تؤويها هو أن هذه البلدان لا زالت متأخرة من الناحية العلمية والتقنية، والتقدم الصناعي لا ينفصل عن التقدم العلمي والتقني بل هو مؤشر من مؤشراته ولا شك أم من يعرف الشركات الكورية التي تعمل في هذه المنطقة من العالم يلمس حقيقة هذا الدور الذي تقوم به هذه الشركات.
هذه هي حالة الصراع والتنافس بين دول العالم الصناعي فهل نتوقع منها أن تساعدنا على التصنيع، هل تساعدنا على تحويل بلادنا من أسواق لمنتجاتها إلى دول تنافسها على الأسواق؟ وإذا كان الأمر كذلك فماذا تعني هذه الدول بنقل التكنولوجيا إلى الدول النامية؟
3- معنى نقل التكنولوجيا (TRANSFEER OF TECHNOLOGY):-
يهتم العلم بمعرفة المادة، مم تتكون وما هي خصائصها، أما التكنولوجيا فهي تهدف إلى تشكيل هذه المادة في أشكاله لخدمة الإنسان وزيادة رفاهيته، فمعرفة خصائص المواد شبه العازلة (SEMI CONDUCTORS) أدى إلى تركيب الترانزستور، وجهاز الراديو هو ربط لعدة ترانزستورات ومقاومات ومفردات إليكترونية أخرى. والمفردات أيضاً يمكن ربطها بشكل آخر لينتج عنها رادار أو كمبيوتر أو خلافة. والعملية الهندسية المتعلقة بإيجاد الأنظمة التكنولوجية يمكن تقسيمها إلى أربع عمليات هي:
1- التصميم. DESIGN
2- التصنيع. MANUFACTURING
3- التشغيل. OPERATION
4- الصيانة. MAINTENANCE
وكل عملية من العمليات السابقة تتطلب مستوى من التكنولوجيا والمعرفة يختلف باختلاف الناتج الصناعي وفي البلاد غير الصناعية حيث يتم استيراد الأنظمة التكنولوجية من الخارج يتطلب تشغيل الأجهزة ـ وهو أدنى العمليات الهندسية تعقيداً ـ تدريباً وتعليماً يعتمد في درجته على درجة تعقيد هذه الأجهزة، فالطيار مثلاً سواء أكان يقود طائرة مدنية أو عسكرية يحتاج إلى تدريب مطول ولذلك فإن الطيار يكلف دولته كثيراً من الجهد والمال حتى يتقن قيادة الطائرات الحديثة وكذلك الأمر بالنسبة لمحطات توليد القوى الكهربائية الحرارية منها أو النووية ومحطات الاتصال بالأقمار الصناعية فهي تحتاج في تشغيلها إلى أناس على درجة كبيرة من التدريب والتعليم، والكمبيوتر يحتاج إلى من يشغله ويفهم لغاته حتى يتمكن الناس من استخدامه.
حين تتحدث الدول الصناعة الراقية عن نقل التكنولوجيا فإنها تعني إيجاد الأوضاع والظروف في الدول المتخلفة التي تمكنها من استخدام المنتجات الصناعية الحديثة، فإن المكان الذي لا توجد فيه كهرباء لا يمكن أن تباع فيه الثلاجات الكهربائية حتى لو كان فيها من يستطيع شراء الثلاجة لذلك لا بد من تعميم مرفق الكهرباء في الدول المتخلفة ولو بقروض من الدول الصناعية لأن البلد الذي تعم فيه الكهرباء يصبح سوقاً للكثير من المنتجات الصناعية كالثلاجة والمكيف وغيرها وكذلك الحال بالنسبة لسائر المنتجات فلا بد والحالة هذه من إيجاد المتعلمين كالمهندسين والفنيين والأطباء وغيرهم لتشغيل واستخدام الأجهزة الصناعة التي تنتجها الدول المتقدمة، وهذه الدول ليست معنية بالطبع بأن تجعل الدول المتخلفة تستوعب التكنولوجيا إلى حد يمكنها من إقامة الصناعات بحيث تؤمن احتياجاتها فتتحول من أسواق استهلاكية لهذه الدول إلى منافس جديد على الأسواق الأخرى. والأهم من ذلك أن تصنيع الدول بحيث يؤمن احتياجاتها سيمكنها من التحرر من النفوذ الأجنبي، وهذا أهم ما في الأمر فإن الدولة الصناعية التي تزود دولة أخرى متخلفة بالأجهزة الصناعية سواء العسكرية منها كالدبابات والطائرات والصواريخ أو غير العسكرية كالمولدات والمفاعلات وغيرها تصبح ذات نفوذ في الدولة الثانية شاءت أم أبت فقد زودت بعض الدول الغربية بنغلادش بطائرات هليوكوبتر لتوزيع مواد الإغاثة أيام المجاعة التي أصابتها عقب انفصالها عن باكستان، وقد تعطلت معظم هذه الطائرات وتعطل بعضها لعدم وجود قطعة غيار واحد ثمنها نصف جنيه إسترليني. والحرب الحديثة تأكل الدبابات والطائرات بالمئات يومياً، فالدولة التي لا تملك المصانع تعتمد اعتماداً مصيرياً على استمرار الدولة الصناعية بتزويدها بالمعدات العسكرية ساعة الحرج، وهذه مسألة حياة أو موت كما أثبتت ذلك حرب أكتوبر 1973، فإن إسرائيل فقد من الدبابات والطائرات ما حمل أميركا على إقامة جسر جوي لتزويد إسرائيل بمعدات من مخزون الجيش الأميركي، ولولا ذلك لما تمكنت إسرائيل من الاستمرار في الحرب. وها هي إيران تقرر إعادة استدعاء الخبراء الأميركان لصيانة الطائرات الإيرانية والحفاظ عليها من أن تتحول إلى حديد خردة.
من ذلك يتبين الزيف في ما يسمى بنقل التكنولوجيا، إذ أن طريق القوة هو إقامة الصناعات الثقيلة التي تمكن البلاد من تحقيق الاكتفاء الذاتي والتخلص من النفوذ الأجنبي وصرف النظر عن الاكتفاء بالصناعات الاستهلاكية أو المشاريع التي يقصد منها إبقاء البلاد زراعية وصرفها عن التصنيع الحقيقي كمشاريع إقامة السدود، وتشمل الصناعات الثقيلة ما يلي:
1- صناعة الحديد والصلب.
2- صناعة المحركات وتشمل محركات الطائرات والسفن والدبابات والجرارات والسيارات والصواريخ.
3- صناعة هياكل الطائرات والسفن والعربات.
4- الصناعات البتروكيماوية.
5- الصناعات الإلكترونية.
6- الصناعات النووية بما في ذلك الأسلحة.
7- صناعة الفضاء.
4- متطلبات إقامة الصناعات الثقيلة:-
إن إقامة الصناعات الثقيلة أمر أساسي لتحويل أي بلد من حالة الاعتماد على الدول الصناعة الأخرى إلى حالة التصنيع الذي يمكنه من تأمين حاجاته ويجعله بلداً مصدراً للمفتوحات الصناعية لا سوقاً لغيره، وهذا الأمر شاق وطريقه محفوف بالمخاطر والمشاكل، فهذه الصناعات حلقات مترابطة ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض، فهي تحتاج إلى جهود جبارة وقوى بشرية مدربة على نطاق واسع كما تحتاج إلى المواد الأولية، غير أن أهم ما في الأمر أن هذا التصنيع هو بحد ذاته ثورة على النفوذ الأجنبي وتحد له، وهو يخالف كل نظريات التنمية التي يعدها الغرب للدول المتخلفة والتي يسايره فيها المثقفون الذين وقعوا تحت تأثير سحره، وهذه النظريات تقول بالتدرج وتهدف إلى إبقاء الدول المتخلفة أسواقً للدول الصناعية موردة للمواد الأولية، وقد سبق وأشرنا إلى استخدام أميركا للمؤسسات التي لها طابع دولي كأدوات لبسط السيطرة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة كاليونسكو واليونيسيف ووكالة التنمية وغيرها، وكلها تعمل على إبعاد الدول المتخلفة عن الطريق الصحيح للتصنيع كما تعلم على إهدار طاقة هذه الدول ومواردها فيما لا طائل تحته.
وحيث أن التصنيع الحقيقي معناه الثورة على النفوذ الأجنبي فهو لذلك أمر سياسي لا يمكن أن يقام به إلا على أساس فكري عقائدي تتبناه قيادة سياسية واعية قادرة على كسب ثقة جمهور الناس بالفكر الذي تريد حتى تستطيع أن توجه طاقاتهم لتحقيق الأهداف الصعبة كالتصنيع. والقاعدة الذهبية التي يجب العض عليها بالنواجذ هي الاعتماد على النفس مهما كانت الصعاب، ورغم أنه لا يمكن أن تستغني عن المعرفة والإنجازات العملية الأجنبية إلا أنه يجب إقامة أسوار عالية لمنع النفوذ الأجنبي من إيجاد طريقة إلى هذه العملية وذلك يستلزم فيما يستلزم إبعاد الشركات الأجنبية والأجانب عامة لأن ذلك من سائل تسريب النفوذ الأجنبي إلى البلاد فإقامة الصناعات يتم عن طريق أبناء البلاد فقط.
وحيث أن التصنيع الحقيقي معناه الثورة على النفوذ الأجنبي فهو لذلك أمر سياسي لا يمكن أن يقام به إلا على أساس فكري عقائدي تتبناه قيادة سياسية واعية قادرة على كسب ثقة جمهور الناس بالفكر الذي تريد حتى تستطيع أن توجه طاقاتهم لتحقيق الأهداف الصعبة كالتصنيع. والقاعدة الذهبية التي يجب العض عليها بالنواجذ هي الاعتماد على النفس مهما كانت الصعاب، ورغم أنه لا يمكن أن نستغني عن المعرفة والإنجازات العملية الأجنبية إلا أنه يجب إقامة أسوار عالية لمنع النفوذ الأجنبي من إيجاد طريقه إلى هذه العملية وذلك يستلزم فيما يستلزمه إبعاد الشركات الأجنبية والأجانب عامة لأن ذلك من وسائل تسريب النفوذ الأجنبي إلى البلاد فإقامة الصناعات يتم عن طريق أبناء البلاد فقط.
وقد يتهيأ للبعض استحالة القيام بهذه المهمة إذا ما اعتمدنا مبدأ الاعتماد على النفس، وهذا ما يروج له الغرب والمضبوعين بثقافته، لكننا نقول أن ذلك ممكن، فقد قامت روسيا في مطلق هذا القرن بتحويل بلادها من بلاد زراعية مخلّفة إلى بلاد صناعية تقف في مقدمة الدول الصناعية الراقية، ورغم أننا لا نؤمن بالنظام السياسي في روسيا إلا أنه استطاع أن يحقق التصنيع على الشكل الذي ذكرناه من الاعتماد على النفس، وهذا هو محل استشهادنا بتجربته. وقد اشتهر عن لينين قوله حين طلب منه شراء تراكتورات: لن نستعمل التراكتورات حتى ننتجها نحن وحينئذ نستعملها. وقد كان ماو في الصين يتبع نفس الطريق الذي اتبعه لينين وستالين من الاعتماد على النفس وإغلاق أبواب الصين أمام النفوذ الأجنبي، ورغم أن الصين على عهد ماو حققت بعض النجاح في هذا المضمار إلا أنها أخفقت في تحقيق التصنيع وهذا الفشل يمكن إرجاعه إلى أن الشيوعية قد فقدت زخمها وظهر بطلانها ومناقضتها لفطرة الإنسان فلم تصبح عقيدة جمهرة الناس في الصين فعجزت القيادة عن تحريك الجماهير نحو أهدافها.
ومن الأمور التي تزيد المخاطر والمصاعب في وجه تحقيق التصنيع ما يلي:
1- إن عملية التصنيع بإقامة الصناعات الثقيلة أمر يحتاج تحقيقه إلى سنوات طويلة قد تصل إلى عقدين من الزمن على أحسن الظروف، وفي هذه الفترة الانتقالية ستكون الدولة التي تسير في هذا الطريق عرضة للمؤامرات السياسية من الداخل والخارج لا سيما وأنها ستبقى أضعف من الدول المتقدمة إلى أن تحقق التصنيع وذلك يلقي على كاهل القيادة السياسية عبئاً كبيراً للمحافظة على السير وضمان استمراره.
2- إن المقصود من عملية التصنيع هو اللحاق بمصاف الدول الصناعية المتقدمة وهذه الدول ليست في حالة جمود بل هي في حالة تقدم مستمر في مستواها التكنولوجي، فمن يريد اللحاق بها عليه أن يطارد هدفاً متحركاً والهوة بيننا وبينهم آخذة في التوسع فسرعة تطور الإنجازات التكنولوجية مذهلة.
3- إن سيطرة الدول المتقدمة على نظام النقد الدولي وعلى الاقتصاد العالمي يحتم على الدول الراغبة في التصنيع أن تقيم جزيرة نقدية واقتصادية مغلقة، وهذا لا يعني عدم الاشتراك في التجارة الدولية بل يعني العمل على أساس الوصول إلى الاكتفاء الذاتي لتقليل اعتماد الدولة على الخارج وخاصة في الحاجات الأساسية، وأما بالنسبة للتمويل فإنه يجب الحذر كل الحذر من المساعدات والقروض الأجنبية سواء من المؤسسات التي تتستر تحت اسم دولي أو تلك التي تعود إلى الدول الكبرى أو البنوك الخاصة، وهذه القروض والمساعدات تعطي عادة للسيطرة على الدول المدينة وإفقارها، ولعل تركيا ومصر أكبر شاهد على ذلك، فإن هذه الدول اقترضت بلايين الدولارات منذ عشرات السنين ووضعها الاقتصادي يزداد سوءاً، فتركيا الآن على حافة الإفلاس وكذلك مصر ولا ينتظر أن يكون مصير المساعدات التي ستقدم في المستقبل أفضل من مصير المساعدات السابقة. وعليه فإن على الدولة الراغبة في التصنيع مهمة شاقة في شق طريقها بالاعتماد على النفس بالتمويل الذاتي وعدم الدخول في شباك الدول الاستعمارية التي تسيطر على نظام النقد الدولي.
4- أن البلد الذي يبدأ في التصنيع من الصفر سوف يعاني من مشكلة قلة الخبرات والأيدي العاملة المدربة أو بتعبير آخر مشكلة قوى بشرية، وفي هذا المجال فإن للخبرة أهميتها ورغم أن هذه المشكلة لا يستهان بها وتستحق الدراسة والتخطيط لمواجهتها إلا أنها أقل شأناً من المشاكل السابقة لا سيما وأن أبناء الدول النامية يشكلون قسماً غير ضئيل من القوى العاملة في الدول الأوروبية وأميركا ويمكن الاستعانة بهم.
5- العالم الإسلامي:-
منذ الانقلاب الصناعي في أوروبا والعالمُ الإسلاميُ ومنه العالم العربي يتعرض لهجمات ضارية من الغرب، وبسقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة تمكن الغرب من إخضاع العالم الإسلامي كله لنفوذه وأبعد الإسلام عن الحياة السياسية وبقي منه العبادات وأحكام أخرى قليلة، لكن المسلمين رغم هزيمتهم لم يستكينوا للغرب، وبعد الحرب العالمية الثانية هبت على العالم الإسلامي موجة من التحرر بلغت ذروتها في الخمسينات وأوائل الستينات من هذا القرن، إلا أن الغرب في القضاء على هذه الموجة وإجهاضها عن طريق الثورات المزيفة وأبطال التحرير المزيفين فتهيأ للناس أنهم تحرروا وها نحن في أواخر السبعينات نشهد أن العالم الإسلامي ما زال يرزح تحت وطأة النفوذ الغربي، وإذا ما استعرضنا أكثر الحركات الرسمية ادعاء للثورية لوجدنا أنها تطلب بما لو طالبت به في الخمسينات لوصمت بالخيانة ولا يمكن أن يصح أن حاكماً كالسادات استطاع وحده أن يعيد مصر إلى التبعية التي هي عليها الآن لأميركا لو أنها كانت قد تحررت فعلاً من النفوذ الأجنبي قبل وصله للحكم، فالسادات كان جزءاً من الحكم السابق وامتداداً له في التبعية لأميركا. ورغم أننا نعيش فترة ركود وسبات واستسلام لا يكاد يصدق إلا أننا لا نزال نأمل الخير في هذه الأمة ونرى أنه لا بد لها أن تتحرر وذلك عن طريق الإسلام، وعن طريق الإسلام وحده، لكن ذلك لا يعني إطلاقاً أن نغفل المشاكل والقضايا التي تسببت في إخراج الإسلام من الحياة السياسية، فلا بد من مواجهة هذه المشاكل والقضايا على صعيد فكري، وذلك يتطلب اجتهاداً جديداً فلا يكفي الوقوف عند التراث الفكري بل يجب تنميته بفهم الوقائع والأحداث الجديدة من جهة، أي فهم العالم بالتطورات الكثيرة والكبيرة التي طرأت عليه في هذا القرن والذي سبقه وفهم أصول الإسلام لبناء فكر سياسي وتشريعي حي مبني على الإسلام. ويخطئ من يتصور أننا نستطيع بتراثنا الفقهي وحده أن نجابه مشاكل هذا العصر، بل لا بد من التفكير الأصيل الراقي الذي يمكن من الاجتهاد لحل المشاكل الحديثة على أساس إسلامي صاف يعود إلى الكتاب والسنة.
إن أية قيادة سياسية إسلامية واعية لا بد أن تنطلق من العالم العربي ذلك أن العربية لغة الإسلام ولا يمكن فصل الإسلام عنها ولا يمكن الاجتهاد لمواجهة المشاكل المستجدة إلا بها غير أن بناء دولة على أساس الإسلام أمر يتطلب رؤية سياسية نفاذة لتصور المشاكل الضخمة التي يقتضي التغلب عليها ومن ضمن هذه المشاكل مشكلة التصنيع التي سبق أن بيّنا أنها مشكلة سياسية أكثر من كونها مسألة تكنولوجيا ومعرفة. وإذا كان التصنيع ضرورة من ضرورات التحرر من النفوذ الأجنبي، هذا التحرر الذي يستوجبه الإسلام، فإن التصنيع أيضاً يستلزم الوحدة بين المسلمين في كيان واحد حتى يتوفر في هذا الكيان القوى البشرية اللازمة للتصنيع والمتوفرة في بلدان كمصر وتركيا وهناك المواد الأولية والمتوفرة في بلدان أخرى، وعلى ذلك فإن فوق كون الوحدة فرضاً شرعياً فإنها ضرورة من ضرورات التصنيع الذي لا يمكن التحرر بدونه.
وينبغي ألا يغيب عن الأذهان أن تكون الصناعة الحربية رأس الحربة في التصنيع فإنه بدون القوة العسكرية لا يكون للدول أي وزن سياسي وهذا واضح في حالة ألمانيا الغربية واليابان فإنها على تقدمها الاقتصادي واعتبارها من عمالقة الدول اقتصادياً إلا أن وزنها السياسي دون ذلك بكثير لحرمانها من القوة العسكرية.
6- أحكام الصناعة في الإسلام:-
يبيح الإسلام أخذ العلم والتكنولوجيا من أي مصدر كان شريطة ألا يعارض العقيدة الإسلامية أو يضعفها كنظريات داروين. ويدل على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأبير النخل حيث قال: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» وقد أرسل رسول الله كذلك من يتعلم صناعة السلاح في اليمن. فالعلم الذي يبحث في تركيب المادة كالفيزياء والكيمياء عالمي ولا شيء في أخذه من الكفار الغربيين أو الشيوعيين وكذلك التكنولوجيا المتعلقة بصناعة البتروكيماويات وصناعة السفن والصواريخ وغيرها فهي أيضاً عالمية.
أما المسألة التشريعية الرئيسية التي تتعلق بالصناعة فهي مسألة الملكية فمتى يكون المصنع ملكية فردية ومتى يكون ملكية عامة والجواب على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عن ابن عمر: «لعنت الخمر على عشرة وجوه: لعنت الخمرة بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها…» إلى آخر الحديث. فالصناعة من حيث هي مباحة، فقد استصنع رسول الله المنبر واستصنع خاماً. وجاء الرسول وحرم صناعة عصر الخمر، وتحريمها هنا لأنها عصر ينتج خمراً فأعطى العصر حكم ما يجزي عصره وهذا يعني إعطاء الصناعة حكم ما تنتجه. وهذا ليس خاصاً بالخمر بل عام في كل محرم فصناعة الحشيش والأفيون والهيروين وما شاكلها حرام لأن هذه الأشياء حرام وصناعة التماثيل حرم لأن التمثال حرام وهكذا… وهذا دليل على أن الصناعة تأخذ حكم ما تنتج وعلى ذلك فإنه يستنبط من الحديث قاعدة «الصناعة تأخذ حكم ما تنتجه» وهذا الاستنباط واضح فيه وجه الاستدلال كل الوضوح وبناء على هذه القاعدة الشرعية تكون صناعة الأشياء المحرمة حراماً وتكون صناعة الأشياء الداخلة في الملكية العامة كاستخراج النفط مثلاً من الملكية العامة، بمعنى أن الأفراد لا يملكون المباشرة في صنع شيء يدخل في الملكية العامة ليكون ملكية فردية لهم تسلب عنه خاصية كونه ملكية عامة كاستخراج الحديد مثلاً. والملكية العامة محددة في الشرع بالنصوص الشرعية ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار» وكذلك المعادن التي لا تنقطع فقد وردت أحاديث تدل على أنها من الملكية العامة. وما عدا ذلك فهو من الملكية الفردية كمصانع السيارات والحلويات ومحالج القطه ومصانع النسيج والأحذية وما شاكل. إلا أن الدولة يمكنها أن تتملك كالأفراد لا سيما وأن عليها أن تقيم بعض أنواع المصانع ولو كانت ملكية فردية وخاصة إذا كانت مما يصعب على الأفراد إقامته ابتداء ومما له أهمية استراتيجية فلا تكتمل قوة الدولة وتحررها من النفوذ الأجنبي إلا بإقامته حسب القاعدة الشرعية المشهور «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
خاتمة:
إن نقل التكنولوجيا الذي يجري الحديث عنه أوساط الغرب يراد به تمهيد الطريق أمام المنتجات الصناعية للدول الاستعمارية وإبقاء الشعوب سوقاً استهلاكية لإبعادها عن التصنيع وإبقائها تحت السيطرة والنفوذ الأجنبي فإن التكنولوجيا الخاصة بطائرة الفانتوم أو الميج أو تلك التي تعود إلى محطات توليد الكهرباء أو الكمبيوتر لا تنتقل مع هذه المنتجات من البلد المنتج إلى البلد المستورد الذي يستخدم هذه المنتجات حتى تستهلك أو تظهر منتجات أخرى حديثة تؤدي إلى ترك القديمة بالإضافة إلى أن دوام تشغيل هذه المنتجات يتطلب صيانتها وتوفير قطع الغيار لها، وهذا يبقي الدول المستوردة معتمدة على الدول المنتجة، وعليه لا بد من التصنيع بإقامة الصناعات الثقيلة وذلك كجزء من الثورة ضد التبعية تلك الثورة السياسية التي لا يمكن أن تتم في العالم الإسلام إلا على أساس الإسلام كقيادة فكرية.
1990-05-07