تجربة البنوك الإسلامية
1990/04/07م
المقالات
2,829 زيارة
بعد هدم دولة الخلافة الإسلامية، قام كثير من المسلمين على شكل حركات، يتلمسون سبيل النهوض بالأمة الإسلامية من جديد، خصوصاً بعد المحن والأزمات الصعبة التي مرت بها الأمة الإسلامية. وقد حاول الكثير منهم حل المشاكل المعقدة والمتفاقمة في الأمة. ولكن، قليل من هذه الحركات قد توصلت إلى الطريق الصحيح الموصل إلى النهضة. وبالتالي رأينا كثيراً منها تسلك طرقاً في العمل مختلفة ومتنوعة، وتفتقر إلى الوعي على حقيقة المشكلة بالدرجة الأولى، وإلى الوعي على العلاج الصحيح بالدرجة الثانية.
فبدل أن تدرك أن المشكلة الحقيقية والأساسية تكمن في التخلف الفكري لدى الأمة، أي ضعف فهم المسلمين للإسلام وضعف ثقتهم بأحكامه ومعالجاته، ثم تأثر المسلمين بالأفكار والثقافة الحضارة الغربية، مما أدى إلى زوال الخلافة وقيام أنظمة تحكم بالكفر، بدل أن تدرك هذه الحركات واقع المشكلة على هذا النحو، ظنت أن المشكلة تكمن في ما تعاني منه الأمة من المشاكل الجانبية، والتي هي في حقيقة الأمر إفرازات للمشكلة الأساسية. فبعضهم اعتبر المشكلة أخلاقية، وبعضهم اعتبرها اقتصادية. وبعضهم اعتبر المشكلة في نقص التشريع أو تنقص المتعلمين والمثقفين وما إلى هنالك.
لذلك، بدل أن تقوم الحركات بالعمل على إعادة البنيان الفكري للأمة والعمل على إعادة الحكم بما أنزل الله، رأينا انصراف كثير من جهودها إلى أعمال تهدف إلى معالجة مشاكل وأزمات جانبية ما هي إلا إفرازات لأنظمة الكفر التي تحكم المجتمع وتسوسه. فكان أعمالاً ترقيعية للأنظمة الراهنة، بمعنى أن السلطات تفرز المشاكل والأزمات، ثم تأتي جهود هذه الحركات لتعالج هذه المشاكل والأزمات، فيقعون، من حيث يدرون أو لا يدرون، في المساهمة بإطالة عمر الأنظمة القائمة. والخطير في الأمر فوق ذلك، أن هذه الأعمال التي تأخذ الصفة الإسلامية لن تؤدي إلى النتائج المرجوة، بل على العكس من ذلك، فإنه بسبب فساد الأنظمة القائمة، وعدم انسجامها مع الإسلام وأحكامه، سيكتب لها الفشل وتؤدي إلى نتائج سلبية، مما يؤدي إلى ظهور المعالجات الإسلامية في حالة من العجز، ويفتح المجال أمام أعداء الإسلام ليطعنوا فيه من خلال هذه التجارب الفاشلة.
وقد وصل الحال ببعض الجهات إلى أن تعلن عزمها على تطبيق بعض الأنظمة الإسلامية ضمن تركيبة المجتمع المحكوم بالكفر، في الوقت الذي لا يمكن لهذه الأنظمة أن تطبيق إلا من خلال الدولة الإسلامية.
وفي هذا المقال سنتكلم عن أحد نماذج هذه التجارب، وهو قيام بعض الجهات بمشاريع اقتصادية، معلنة عزمها على وضع النظام الاقتصادي الإسلامي موضع التنفيذ، ومن أهم الأمثلة على هذه المشاريع قيام ما يسمى بالبنوك الإسلامية.
لن أتكلم هنا عن مدى التزام هذه المشاريع بالإسلام أو مدى توافقها مع الشريعة، حيث تكلم العديد في هذه المسألة ورأى البعض أن قسماً من هذه البنوك. في كثير من نواحيها لا تتفق مع الحكم الشرعي.
ولكن الذي يجدر التنويه إليه هو أن الإسلام قد شرع لنا نظاماً اقتصادياً كاملاً وجعل الطريقة لتنفيذه هي الدولة الإسلامية، إذ تتعلق أغلب أحكامه بالسلطان، ولا يمكن تطبيقها إلا به، علاوة على أنه لا يستطيع الأفراد أن يطبقوا من هذه الأحكام إلا الأحكام الفردية التي أناط الشارع تنفيذها بالفرد، وهي جزء صغير من النظام الاقتصادي، حتى أن هذه الأحكام الفردية ذاتها، لا تطبق بشكل كامل إلا بوجود السلطة الإسلامية.
فمهمة جبي الأموال، مثلاً، من زكاة وعشور وخراج وجزية وغيرها، وتوزيع الملكية العامة على الأمة، وكفالة الحاجات الأساسية للرعية، وتوزيع الغنائم ومنع المعاملات الفاسدة والعقود الباطلة والسلع المحرمة وغير ذلك، كله من اختصاص الدولة.
لذلك من السفه والجهل أن يقال أن الاقتصاد الإسلامي يمكن أن يوضع موضع التنفيذ دون وجود دولة إسلامية. وأن غاية ما يمكن إنجازه هو مشاريع مالية توافق أحكام الشرع، يحقق أصحابها من ورائها مكاسب فردية أو تبرعات خيرية، أما أن يقال أن هذه المشاريع ستعالج الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع، فهو قول عجيب مثير للدهشة لشدة سطحيته.
فإن الأنظمة الإسلامية، ومنها النظام الاقتصادي، لا يؤدي أثرها في الواقع إلا إذا طبقت بشكل كامل بالطريقة التي حددها الشرع أي من خلال الدولة. إن أنظمة الإسلام تشكل مع بعضها البعض وحدة متكاملة. بحيث لو أُسيء أو قُصر في تطبيق بعضها، انعكس ذلك على كثير من الأنظمة الأخرى، فما بالك والحالة التي نعيشها حيث تتحكم الأنظمة الرأسمالية بمعظم علاقات المجتمع، فكيف ستعالج المشاريع الاقتصادية «الإسلامية» المشاكل الاقتصادية في الوقت الذي تطبق الدولة فيه أنظمة الاقتصاد الرأسمالي على البلاد؟ وفي الوقت الذي تسير فيه كل المعاملات والعقود الاقتصادية بحسب الأنظمة الرأسمالية؟ إن أي مشروع من هذه المشاريع سيصطدم بعقبات ضخمة لا يملك تخطيها، هذه العقبات هي من إفراز التركيبة الرأسمالية المتحكمة باقتصاد البلاد، بل وبسلوك المجتمع ومفاهيم الناس. حتى أن هذه المشاريع ذاتها ستكون مقيدة بما تقتضيه الأنظمة القائمة، وستكون مطالبة بالتزامات معينة تجاهها.
لقد كان الشهيد «سيد قطب» رحمه الله تعالى واعياً على هذه الحقيقة الشرعية. فإننا نرى في إحدى كتاباته:
«إذا أريد للإسلام أن يعمل، فلا بد للإسلام أن يحكم… والذين يتحدثون في الإسلام وانتفاء حاجته إلى الحكم، أو عن إمكان تحققه في الحياة دون تحكيمه في الحياة.. إنما يلقون حديثاً فيه من التفاهة والقزامة ما لا يرتفع إلى شرف المنافسة واحزام الجدل، إنهم لا يدلون بهذا على جهلهم لطبيعة هذا الدين من أساسها، ولا بعدهم عن الإلمام بحقائقه البسيطة التي لا يلام على جهلها المبتدئون، بل يدلون على جهل بكل مقومات الطبيعة البشرية، ولعل العوامل المؤثرة في تكوين المجتمعات. وكل الثقافات الضرورية لاستقبال الحياة. بله الحكم على الحياة… لا بد للإسلام أن يحكم ليحقق وجوده، وليحقق ذلك المجتمع الكامل العادل الذي رسمنا الكثير من خطوطه، وما كان شيء من ذلك ليتحقق والإسلام بعيد عن الحكم في الحياة» [معركة الإسلام والرأسمالية].
إن مثل هذا الكلام يكفي لأن يقنع أصحاب هذه الأفكار بسقم هذه المشاريع، ويغني عن تجربتها التي ستهدر كثيراً من الوقت والجهود الذهنية والبدنية، إلا أن أصحابها أبوا إلا تجربتها على أرض الواقع، وها هو الواقع العمل يبين فشلها وينطق بها. ولن أقول كلاماً من عندي، حول نتائج هذه المشاريع، بل سأنقل ما قاله أحد روادها، من اعتراف واضح وصريح بأن هذه المشاريع لم تؤدِ إلى النتائج المرجوة. وهو الأمين العام للاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية. الدكتور «أحمد عبد العزيز النجار».
ففي إحدى المحاضرات التي ألقاها والتي نشرتها مجلة «العالم» في العدد (306). يتكلم عن الهدف الذي من أجله قامت البنوك الإسلامية وهو «تحقيق مقاصد العدل والقسط واعمار الأرض».
ويبدأ الدكتور النجار بتعداد التحديات التي أدت إلى عجز البنوك الإسلامية عن أداء وظيفتها، فيعدد تحديات أربعة.
«أولاً: مغايرة الواقع العملي المسيطر على حياة المجتمع المعاصر، مع فلسفة الفكر الإسلامي الذي تستند إليه البنوك الإسلامية. فالبنوك الإسلامية منذ نشأتها وجدت نفسها مضطرة للتعايش في عملها مع إجراءات ومفاهيم ونظم غير إسلامية في مجالات هامة كالنظم المحاسبية والضرائبية وقوانين الشركات وإجراءات التعامل التجاري والمالي محلياً ودولياً».
ويتابع الدكتور النجار «ومن هنا كانت البنوك الإسلامية مضطرة لبدء النشاط في ظروف غير مؤاتية، من حيث النظام الاقتصادي العالمي، وبالتبعية للنظام المصرفي العالمي الذي يعمل على أسس مغايرة.. إلا أن التحدي يكمن في البحث عن المبادئ الشرعية والوسائل الشرعية، التي يمكن فيها وبها استثمار الأموال بطريقة مجزية وسليمة».
ثم ينتقل الدكتور النجار إلى التحدي الثاني فيقول: «ثاني هذه التحديات يكمن في أن المتعاملين مع البنوك الإسلامية، سواء كانوا مودعين أو مستثمرين لا يزالون أسرى المفاهيم الربوية من حيث الحرص على الربح العاجل وضمان سلامة استرداد الأموال المودعة دون مشقة أو مخاطرة، مما يلقي عبئاً جسيماً على إدارة البنوك الإسلامية، لتتمكن من الوفاء بتطلعات المتعاملين معها، الأمر الذي يحول دون استكمال البنوك الإسلامية لمعالم نظامها في وقت قصير، ولا شك أن عقلية المتعاملين مع البنوك الإسلامية متأثرة بالفكر الرأسمالي السائد والذي تعمل في إطاره ومفاهيمه البنوك التقليدية الأخرى. وضغوط هذه العقلية السائدة، تدفع إدارة البنوك الإسلامية إلى التركيز على مجالات عمل وأنشطة تتناقض مع التنمية، كما تدفع البنوك الإسلامية إلى بذل جهود شاقة لمحاولة تبرير هذه الأنشطة من الوجهة الشرعية».
«ثالث هذه التحديات، يتمثل في موقف المتعاطفين والحاقدين على حد سواء، فالمتعاطفون يودون أن يروا مجد الإسلام وعظمته قد تحققت منذ اليوم الأول لقيام البنوك الإسلامية.. ولعل ذلك يرجع إلى كثافة وحجم الشعارات التي رفعها رجال الاقتصاد الإسلامي، الأمر الذي ساعد على إيجاد تصور مبالغ فيه فيما ستحققه هذه البنوك في المجتمع ولصالح الأفراد والجماعات… فإذا صادف هؤلاء المتحمسون قصوراً في ناحية من نواحي العمل أصيبوا بخيبة أمل وصبوا جام غضبهم على البنوك الإسلامية والقائمين عليها واتهموهم بالخيانة وعدم الحرص على مصير مؤسسة الاقتصاد الإسلامي».
ثم ينتقل إلى التحدي الرابع فيقول: «ورابع هذه التحديات يتمثل في الموقف السلبي للسلطات النقدية المهتمة بشؤون المال والمصارف، حيث اقتصر دور معظمهم على إجراءات الترخيص، وخضوع البنوك الإسلامية لنفس القواعد ونظم المراقبة التي تخضع لها المؤسسات المغايرة… ومما تسبب في حرمان البنوك الإسلامية من الدعم والمساندة التي تتمتع بها الأجهزة المصرفية الأخرى من خلال علاقاتها بالسلطات النقدية».
ولعلنا لا نستطع أن نضيف الشيء الكثير من كلام الدكتور النجار، بعد أن شرح ميدانياً الملابسات والظروف التي مرت بها تجربة البنوك الإسلامية، وحيث أن كلامه يثبت ما نقول من أن الأنظمة الإسلامية لا يمكن أن تطبق في المجتمع وتعالجه معالجة صحيحة إلا من خلال دولة الإسلامية تطبقها تطبيقاً كاملاً ودفعة واحدة.
وأن كل هذه المشاريع لا تعود بالربح على أصحابها إن التزمت الحكم الشرعي، وها هو الدكتور النجار يصرح بحقيقة هذه البنوك فيقول: أنه يتحرك كثيراً حين يطلق عليها تسمية «البنوك الإسلامية» ويفضل تسميتها «البنوك اللاربوية»، لأنها قامت بالوظيفة السلبية أي عدم التعامل بالربا، ولكنها لم تقم حتى الآن بقدر ملموس من الوظائف الإيجابية كمؤسسة تنموية إنتاجية إسلامية، وقال: «إنه من الظلم للإسلام العظيم أن نشير إلى هذه البنوك ونزعم أنها هي التطبيق الإسلامي الصحيح».
ورغم فشل هذه البنوك في تحقيق الهدف المنشود من إنشائها، فإن الدكتور النجار يعود فيقول: «إنها مجرد محاولة ما زالت على بداية الطريق وأمامها سنوات طويلة جداً حتى تستحق تسمية «إسلامية» وبشرط أن تقبل النقد وتعمل بالنصيحة».
إلا أننا نقول، إن هذه البنوك لن تتعدى الدور الذي قامت به حتى الآن، لأن التحديات التي تكلم عنها الدكتور النجار قائمة طالما أن أنظمة الكفر قائمة، وهذا الدور حدده الدكتور النجار نفسه حيث حدد وظيفة البنك الإسلامية قائلا: «تتمثل هذه الوظيفة في قيامه كوسيط مالي بين أصحاب المال، والمشتغلين بالأموال، والربط بينهما على أساس المشاركة». فما دام عمل البنك كله هو عبارة عن إبرام عقود الشركات فلماذا يعطى هذا الدور الكبير وتعلق عليه أهداف جليلة، ويعتبر تطبيقاً للاقتصاد الإسلامي؟
وبعد ذلك نقول: أن المشكلة الاقتصادية التي يعاني منها مجتمعنا ليست المشكلة الوحيدة، فهي إحدى المشاكل الكثيرة التي نتجت عن المشكلة الأساسية، وهي غياب الحكم بما أنزل الله، لذلك يجب التوجه إلى حل كل هذه المشكلات عن طريق الدولة التي جعلها الله سبحانه وتعالى طريقة لتطبيق الأنظمة، سواء الاقتصادية أو غيرها.
لقد آن للامة الإسلامية، وللحركيين الإسلاميين أن يدركوا قضية الأمة الأساسية والمصيرية، وأن يترفعوا عن الانشغال بالترهات والألهيات والدوامات التي لا يزيد الانشغال بها إلا تصعيداً للمشاكل والهاءً عن الهدف الصحيح، المتجسد في استئناف الحياة الإسلامية عن طريق إقامة الخلافة الإسلامية الراشدة.
]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...[.
1990-04-07