بين فهم الواقع وفهم النصوص 2- علاج المجتمع
1990/02/07م
المقالات
2,768 زيارة
بقلم: محمد أبو وائل
إن وصف الواقع المحسوس لا يحتاج إلى أدلة شرعية، وإنما يتطلب جمع المعلومات التي تتعلق بهذا الواقع ودراستها دراسة عميقة شاملة من أجل الخروج بتعريف جامع مانع لهذا الواقع، لأن التعريف ف لم يكن جامعاً مانعاً لا يكون صحيحاً. والمقصود بكونه جامعاً أي أن يجمع كل فرد من أفراد هذا الواقع تحته، وبكونه مانعاً أي يمنع أي فردٍ مخالف لهذا الواقع من الدخول فيه، ولا يكون التعريف صحيحاً إلا إذا استوفى هذين الشرطين معاً.
فمثلاً إذا أردنا أن نعرف ما يسمى بـ (المظاهرة) فإنه لا يكفي أن نقول: هي مجموعة من الناس تمشي في الشارع، لأنه هذا التعريف وإن جمع تحته كل المظاهرات ولكنه ليس تعريفاً مانعاً لأنه لم يمنع أفراداً أخرى تختلف عن واقع المظاهرة من الدخول فيه، ففريق كرة قدم يمشي في الشارع يدخل تحت وصف مجموعة من الناس تمشي في الشارع، ومع ذلك فإنَّ واقعه يختلف عن واقع المظاهرة، فيكون تعريف المظاهرة بأنها مجموعة من الناس تمشي في الشارع ليس تعريفاً مانعاً وبالتالي ليس تعريفاً صحيحاً. وكذلك إذا عرّفناها بأنها: (مجموعة من الناس تمشي في الشارع وتنادي بصوت مرتفع بمطالب معينة) أيضاً لا يكون التعريف صحيحاً لأنه ليس جامعاً فقد تكون هناك مجموعة من الناس تمشي في الشارع بشكل صامت ولكنها تحمل لافتات بمطالبها فهذه تكون مظاهرة في واقعها ولكن التعريف السابق لا يجمعها فلا يكون تعريفاً صحيحاً. والتعريف الصحيح هو: (المظاهرة هي مجموعة من الناس تجمعت وانطلقت في الشارع مطالبة بمطالب معينة) فهذا التعريف يجمع تحته كل ما يمكن أن يسمى مظاهرة، ويمنع أي واقع مخالفٍ لواقع المظاهرة من الدخول تحته.
وما نريد أن نخلص إليه هو أن وصف الواقع لا يحتاج إلى أدلة شرعية بل يحتاج إلى جمع للمعلومات التي تتعلق بهذا الواقع ودراستها دراسة عميقة شاملة من أجل الخروج بتعريف صحيح لهذا الواقع. لكننا حين نريد أن نعيِّن موقفنا من هذا الواقع، لا بد حينئذ من البحث عن الدليل الشرعي، ولا يجوز للعقل أن يتدخل إطلاقاً في تعيين الموقف، وإنما تقتصر مهمته على فهم النص الذي له وحده الحق في تعيين الموقف. والشرع قد عيَّن للإنسان موقفه من كل واقع يصادفه قال تعالى: ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد». فلا يجوز للعقل أن يتدخل في تعيين الموقف مهما كانت الظروف والأحوال، لأن المسلم يقيد سلوكه كله بشرع الله، وسلوكه هو موقفه من الأشياء والأفعال وليس وصفه لها ومعرفته بها، فمثلاً أن تعرف أن البيرة نافعةٌ لعلاج مرضى الرمل لا يحتاج هذا إلى أدلة شرعية وإنما يحتاج إلى فهم تركيب مادة البيرة وإلى فهم واقع مرضى الرمل، ولكن أن تعيَّنَ موقفك من مادة البيرة هل تتناولها أم لا، فهنا لا يجوز للعقل أن يتدخل إطلاقاً بل الشرع وحده هو الذي يعيِّن لك الموقف (وطبعاً حرم الشرع تناول البيرة).
لذلك كان لزاماً على المجتهد أن يفهم الواقع فهماً عميقاً شاملاً، لأنه بدون هذا الفهم يستحيل عليه أن يستنبط حكماً شرعياً صحيحاً. فالذي يعرِّف الكولونيا مثلاً بأنها مادةٌ من مواد العطور فإن تعريفه، وإن كان جامعاً، ولكنه ليس مانعاً، لأنه لم يمنع العطور الأخرى التي تختلف عن الكولونيا ـ من حيث أن الكولونيا مادة مُسْكرة ـ من الدخول تحت هذا التعريف، وبالتالي فإنه سيفتي بأنها مباحة لأن التعطر مباح (ضمن حدود الشرع) فيكون قد أخطأ في الحكم لأنه أخطأ في تعريف الواقع. فالواقع ليس هو العطر، وليس السؤال ما حكم التعطر، بل الواقع هو مادة الكولونيا والسؤال هو ما حكم استعمالها؟ فحين يُعَرَّف مادة الكولونيا التعريف الصحيح بأنها مثلاً مادة عطورية تحتوي على المادة الكحولية فإنه سيدرك أن استعمال الكحول حرام وبالتالي أن استعمال الكولونيا حرام.
ولنأتِ الآن إلى مسألة إصلاح المجتمع أو معالجة المجتمع بالإسلام، فإن هذه المسألة تحتاج إلى عدة تعاريف، وقبل أن نبدأ برسم الخطوط العريضة لمعالجة هذه المسألة نحب أن ننبه بعض الذين اضطلعوا بهذه المسؤولية ولكنهم أخطأوا الطريق، حتى لا تبقى جهودهم مبعثرة هشة. ونقصد بهم أولئك الذين اعتمدوا في علمهم قاعدة: (اصلح الفرد يصلح المجتمع). سواء كانوا حركاتٍ أو أفراداً.
لِنَرَ أولاً كيف استنبطت هذه القاعدة: قلنا أن استنباط أي حكم شرعي يحتاج أولاً إلى فهم الواقع فهماً عميقاً شاملاً، أي إلى تعريفه تعريفاً جامعاً مانعاً، فما هو تعريف المجتمع لدى من يقول: (اصلح الفرد يصلح المجتمع)؟!!
إنهم عرفوا المجتمع بأنه (مجموعة أفراد)، فلذلك اعتبروا أن علاجه يكون بعلاج هؤلاء الأفراد، وصاروا يبحثون عن حكم الشرع في معالجة الأفراد، من أجل هذا عمدوا إلى إقامة الجمعيات الخيرية والمدارس وركزوا عملهم حول الأحكام الفريدة كالأخلاق والعبادات وحتى إن تحدثوا بالأحكام الجماعية كأحكام السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع فإنهم يتحدثون بها أو يكتبون من أجل بناء الفرد وزيادة ثقافته وليس من أجل تربية الجماعة أو المجتمع.
وهكذا وُجدتْ قاعدة (اصلح الفرد يصلح المجتمع)، لأنها هي العلاج الذي ينطبق على واقع الأفراد، وبالتالي على واقع المجتمع عند من عرفه بأنه مجموعة أفراد.
فلنبدأ بتعريفهم للمجتمع، فإن وجدناه تعريفاً صحيحاً، أي جامعاً مانعاً، ننتقل إلى الأدلة الشرعية على علاجه، وإن كان فهمهم للمجتمع فهماً مغلوطاً لا شك أن حكمهم الذي استنبطوه لعلاجه سيكون مغلوطاً، لأنه سيكون حكماً لواقع مخالف لواقع المجتمع، وبالتالي ليس حكماً لواقع المجتمع. إنهم عَرَّفوا المجتمع بأنه مجموعة أفراد، فهل هذا التعريف جامع مانع؟؟ إن ركاب طائرة أو نزلاء فندق لا يماثل واقعهم واقع المجتمع، ولكنهم ينطبق عليهم تعريف (مجموعة أفراد)، فيكون تعريف المجتمع بأنه مجموعة أفراد ليس تعريفاً مانعاً لأنه لم يمنع أفراداً آخرين يخالف واقعهم واقع المجتمع من الدخول تحت تعريف المجتمع، فيكون الحكم الذي استنبط لعلاج (مجموعة أفراد) لا ينطبق على واقع المجتمع لأن واقع المجتمع غير واقع (مجموعة أفراد) فقاعدة: (اصلح الفرد يصلح المجتمع) لا تنطبق على واقع المجتمع.
وواقع المجتمع هو كما قلنا شخصية معنوية تتركب من: مجموعة من الناس تربطهم أفكار جماعية واحدة ومشاعر جماعية واحدة ينبثق عنها نظام يعطي للمجتمع طابعاً مميزاً. هذا هو التعريف الجامع المانع، وهذا هو الواقع الذي يجب استنباط الحكم الشرعي في معالجته.
وحين ننظر في الشرع نجده قد جعل المجتمعات تنقسم إلى صنفين لا ثالث لهما وجعل لكل صنف أحكاماً خاصة: الصنف الأول: المجتمع في دار الإسلام، وهي الدار التي تطبق فيها أنظمة الإسلام ويكون أمانها بأمان الإسلام، والصنف الثاني في دار الكفر، وهي الدار التي تطبق فيها أنظمة الكفر أو يكون أمانها بغير أمان الإسلام. ولا علاقة لعدد المسلمين في البلاد، [راجع كتاب الشخصية الإسلامية ج2 صفحة 214 للإمام النبهاني، وكتاب في ظلال القرآن ج2 صفحة 873 للشهيد سيد قطب].
فإذا أردنا أن نستنبط الحكم الشرعي أو الأحكام الشرعية لمعالجة المجتمع، فعلينا أولاً أن نحدد واقع المجتمع تحديداً منضبطاً وإلى أن صنف ينتمي. والحقيقة المرة أن بلاد المسلمين تنتمي إلى الصنف الثاني، فالتعريف الثاني هو الذي ينطبق على واقعها، أي أنها دار كفر لأنها لا تحكم بالإسلام. إلى هنا نكون قد وصلنا إلى تعريف الواقع تعريفاً منضبطاً، وهذا التعريف منوط بالعقل، فمن حق العقل أن يحكم بصحته أو فساده، وحين نزنُه بميزان العقل نجده تعريفاً جامعاً مانعاً فنحكم بصحته، ولا يقال هنا: أين الدليل الشرعي؟ لأن المسألة هنا مسالة وصف الواقع أو تعريفه (وهو ما يسمى لدى علماء أصول الفقه بمناط الحكم). ولكنا حين ننتقل إلى معالجة الواقع من أجل تحويل المجتمع من دار كفر إلى دار إسلام، حينئذ لا يجوز للعقل أن يتدخل إطلاقاً، لأن المسألة أصبحت لتعيين الموقف تجاه هذا الواقع، والذي يعين موقف المسلم تجاه كل الوقائع هو الشرع وحده وينحصر دور العقل في فهم النص الشرعي، فما هو الحكم أو الأحكام التي شرعها الشارع تجاه هذا الواقع المحدد؟ أي ما هي الأحكام الشرعية لتحويل دار الكفر إلى دار إسلام حين لا يكون هناك دار إسلام إطلاقاً؟ وإنما قلنا (حين لا يكون هنا دار إسلام إطلاقاً) من أجل تحديد الواقع تحديداً صحيحاً لأن أحكام تحويل دار الكفر إلى دار إسلام حين لا يوجد على ظهر الكرة الأرضية دار إسلام إطلاقاً تختلف عنها حين يكون هناك بقعة في الأرض تعتبر دار إسلام، ففي الحالة الأولى تكون المسألة مسألة إيجاد دار إسلام على ظهر الأرض، وفي الحالة الثانية تكون المسألة مسألة ضم دار الكفر إلى دار الإسلام، والحكم الشرعي يختلف من واقع لآخر، لذلك كان لزاماً على المجتهد أن يدقق ينعم النظر في الوقائع حتى يميِّز بينها ولا يختلط عليه واقعٌ آخر فتختلط أحكام الوقائع ببعضها، والواقع الذي يراد معالجته الآن هو تحويل دار كفر إلى دار إسلام حين لا يكون على ظهر الأرض دار إسلام إطلاقاً، أي المسألة هي إيجاد دار الإسلام على ارض الواقع.
إن الشرع قد شرع أحكاماً لهذه المسألة تستنبط من أدلتها التفصيلية، ولا يجوز أن تخلط بها أحكام أخرى، فلكل حكم واقعه. وبعد أن حددنا الواقع تحديداً منضبطاً نجد أن الموقف الذي يجب اتخاذه من أجل تحويل بلاد المسلمين إلى دار إسلام يستنبط من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، لأن واقع المرحلة المكية مماثل تماماً للواقع الذي نريد معالجته، فمكة كانت دار كفر يراد تحويلها إلى دار إسلام، وبلاد المسلمين اليوم دار كفر يراد تحويلها إلى دار إسلام، صحيح أن هناك اختلافاً بين أهل مكة الكفار وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أفراد الأمة اليوم، ولكن هذا الاختلاف لا علاقة له بمسألة قلب المجتمع، وإنما يراعى هذا الاختلاف في معالجة الأفراد. وكذلك لا بد أن يُلاحظ اختلاف المفاهيم الجماعية واختلاف النظام، ولكن هذا لا يغيِّر شيئاً من طريقة الدعوة، فكما عمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نقض الأسس والمفاهيم الفاسدة التي يقوم عليها المجتمع ننقض اليوم المفاهيم الجماعية الفاسدة، وكما كان صلى الله عليه وسلم يبث الأفكار الجماعية الصحيحة ويحاول تجميع الرأي العام حولها، نبث اليوم المفاهيم الإسلامية الصافية ونحاول تجميع الرأي العام حولها، وكما واجه الرسول صلى الله عليه وسلم رموز الفساد: أبا جهل وأبا لهب وغيرها نواجه اليوم رموز الفساد حكام الأمة الجورة، وكما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم النصرة من أهل القوة المنعة نطلب اليوم النصرة من أهل القوة المنعة، أي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه عبادة الأصنام وينقضها، وينقض تطفيف المكيال ووأد البنات وغيرها من الأفكار الجماعية التي أفرزت مجتمع مكة ننقض اليوم الثقافة الأجنبية وأفكار الوطنية والاشتراكية والقومية والديمقراطية وأفكار (خذ وطالب) و(يجب أن نكون واقعيين) و(حيث تكون المصلحة يكون الشرع) و(لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان) وغيرها من الأفكار الفاسدة التي سممت المجتمع وأفرزت هذه الحالة التي وصلت إليها الأمة، ونسعى إلى إيجاد رأي عام حول أفكار الإسلام السياسية الصافية على أنقاض الأفكار السياسية الفاسدة. فطريقة تغيير المجتمع اليوم هي نفسها التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي إيجاد رأي عام من أفكار الإسلام الصحيحة ضد أفكار المجتمع الفاسدة ثم قلب النظام المتحكم في المجتمع، بغض النظر عن الاختلاف في تفاصيل تلك الأفكار، فلنفرض مثلاً أن كتلة أو حزباً قام يعمل لتغيير المجتمع وأراد أن يتبع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في التغيير، فإنه يجب عليه أن ينقض أفكار المجتمع الذي يريد تغييره وليس أفكار مجتمع آخر فلا يقول للأمة اليوم لا تعبدوا الأصنام ولا تسجدوا لهبل أو لمناة واحذروا من وأد البنات لأن هذه الأفكار غير موجودة في الأمة، فعليه أن ينقض الأفكار الموجودة في الأمة التي يريد تغييرها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نقض الأفكار الموجودة في مجتمع مكة.
فلذلك علينا أن نأخذ الأحكام الشرعية التي تتعلق بمقومات المجتمع وطريقة تغييره، ولا يجوز أن نخلط بها أحكاماً أخرى تنطبق على وقائع أخرى، فلا نخلط مثلاً أحكام الصلاة بأحكام العمل لإقامة الخلافة، فإن لكل حكم واقعاً يختلف عن واقع الآخر، فهل يعني هذا أن لا نصلي حتى تقوم الخلافة أو لا نجاهد حتى تقوم الخلافة؟؟ معاذ الله أن يقول مسلم هذا الكلام. ولكن ما نقصد قوله أن لا نعتبر أن جهادنا هو الصلاة أو أن صلاتنا هي العمل لإقامة الخلافة! فإن الشرع قد جعل لكل واقع حكماً شرعياً مختلفاً عن حكم الواقع الآخر، فحين يؤذِّن الظهر تصبح صلاة الظهر واجبة علينا وحين يحتل العدو الكافر بلاد المسلمين يصبح إخراجهم واجباً على المسلمين، وحين تصبح بلاد المسلمين دار كفر يصبح تحويلها إلى دار إسلام واجباً على جميع المسلمين، فلكل واقع حكمه الشرعي ولا يجوز للإنسان أن يخلط بين هذه الأحكام أو أن يحكّم عقله فيها.
وحين نُعرِّف المجتمع بأنه أفراد وأفكار جماعية ومشاعر جماعية ونظام، نجد أن هذا التعريف تنطبق عليه أحكام طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في التغيير، فنجده صلى الله عليه وسلم قد أنشأ كتلة يعدها ويبنيها سراً ـ رغم أن دعوته كانت علنية ـ حتى أصبحت قادرة على تحدي الرأي العام، وعلى مواجهة الأفكار والمشاعر الجماعية من أجل تحويلها إلى أفكار ومشاعر الإسلام، فبدأت مرحلة التفاعل مع المجتمع، وكان عمل الكتلة سياسياً، أي كانت تبث أفكار الإسلام في المجتمع بالطريق السياسي أي بمكافحة الرأي العالم والنظام الحاكم وليس بوداعة الدعوة الفردية أو بالتميّع والمشاركة والتعايش، وإنما كانت دعوة سياسية مبدئية واضحة حاسمة، حتى بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حداً أدنى من القاعدة التي يمكن أن يقوم عليها نظام الإسلام، فمدََّ يده لاستلام الحكم وقلب المجتمع وتحويله إلى دار إسلام، وراح يطلب النصرة من أهل القوة القادرين على إيصاله إلى الحكم، وظل يلح على طلب النصرة دون يتنازل عن شيء من دعوته أو يقبل بنظام كفر ولو للحظة واحدة أو يشارك في نظام كفر، وحتى حين عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة ووافقوا على نصرته شرط أن يكون لهم الأمر من بعده رفض ذلك رفضاً قاطعاً. واستمر عليه الصلاة والسلام على طلب النصرة ولكن دون أن يوقف الدعوة الفكرية السياسية وتكوين الرأي العام، حتى آمن به نفر من الخزرج، فنقلوا الدعوة إلى المدينة، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير يثقفهم بالإسلام ويدعو إليه في مجتمع المدينة حتى فشا الإسلام فيها. وظل مصعب يدعو ويثقف الناس بالإسلام حتى أسلم على يديه سيدا بني عبد الأشهل أسيد بن حضير وسعد بن معاذ فلم يبق في دار بني عبد الأشهل كافراً، وهكذا هاجر مسلمو مكة إلى المدينة ثم هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام فيها دولة الخلافة.
إذاً لا بد لمن يريد استئناف حياة إسلامية، عن طريق إقامة الخلافة أن يكون عمله سياسياً يكافح الأفكار الفاسدة ويبث أفكار الإسلام بالطريق السياسي ويغيِّر على الحكام ويعمل على قلب النظام دون أن يتميَّع في تشكيلاته وأجهزته، ودون أن يقبل بالعيش المشترك أو بنظام وسط بين الإسلام والكفر، وعليه قبل كل شيء أن يفهم الواقع فهماً صحيحاً: واقع المجتمع ومقوماته، وواقع الأمة ومكوناتها وواقع الحكام وارتباطاتهم، علاقة هؤلاء الحكام بأمتهم وعلاقة الأمة بهم، وواقع ما يجري حوله من سياسية محلية ودولية وأثر ذلك في الأمة، وواقع التكتلات الحزبية والحركات الجماعية وكيفية نشأتها ومدى قدرتها على التأثير، كل هذا عن طريق أعمال عقله وتعمقه في التفكير، ومن ثم بعد ذلك يتصرف تجاه هذه الوقائع بما يأمره الشرع به دون أن يدخل عقله في تعيين موقفه، ودون أن يجعل الواقع مصدراً لتصرفاته، لأن مصدر التصرفات الوحيد هو الشرع، فله وحده حق تعيين مواقف الإنسان من أي واقع وفي أي ظرف من الظروف، فلا يقل مثلاً أن الواقع في لبنان يفرض عليَّ أن أطالب بنظام علماني يلغي الامتيازات الطائفية، لأن الواقع ليس مصدراً لتعيين المواقف ولا يجوز تعيين أي موقف من خلاله، وإنما يتخذ هذا الواقع من أجل فهم ماهيته فقط، ومن ثم جعل الشرع وحده يعيِّن الموقف تجاهه. والواقع أن النظام العلماني، مهما تزيَّن وتزخرف، هو نظام كفر، والشرع قد حرم على المسلم المطالبة بنظام كفر، بل أوجب عليه محاربته والصدع بالعداء له، فلذلك يحرم على المسلم أن يطالب بنظام علماني ولو كان فيه إلغاء للامتيازات الطائفية، بل حتى لو كان نظاماً يعطي الامتياز والأفضلية للمسلمين.
هذه خطوط عريضة حول مسألة علاج المجتمع يمكن اعتبارها ركائز في التفكير، وأساساً ينطلق منه المفكر إلى باقي التفاصيل، والله نسأل أن يسدد فكرنا ويثبت خطانا ويجعل دربنا سوياً على صراط مستقيم
(*) ملاحظة: وقع سهواً في العدد الماضي. فكتب العنوان (بين فهم الواقع وفهم الناس) والصحيح (… وفهم النص) فاقتضى التنويه.
1990-02-07