سيد قطب وفكرة التحرير
1990/02/07م
المقالات
2,449 زيارة
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ـ ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد ـ وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين…!
إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد والكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور أو بتعبير آخر مرادف الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور.
ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ومصدر السلطات فيه هم البشر هو تأليه للبشر بجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم. فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد ـ إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض أو بالتعبير القرآني الكريم: ]وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ[. ]إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[.
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم ـ هم رجال الدين ـ كما كان الأمر في سلطان الكنيسة. ولا رجال ينطقون باسم الآلهة كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة.
وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية… كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان لأن المتسلطين على رقاب العباد، والمغتصبين لسلطان الله في الأرض. لا يسلمون في سلطاتهم بمجرد التبليغ والبيان وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض. وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال.
إن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً… إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً… إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله وحده بلا شريك… ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان… ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل متكافئة لكل جوانب.
والواقع الإنساني، أمس واليوم وغداً، يواجه هذا الدين ـ بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان الله ـ بعقبات اعتقادية تصورية. وعقبات مادية واقعية، وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد.
وإذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى ـ وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشبكة وهما معاً ـ البيان والحركة يواجهان الواقع البشري بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته ـ وهما معاً لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض والإنسان كله في الأرض كلها…
إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي، وليس رسالة خاصة بالعرب!… إن موضوعه هو الإنسان ومجاله هو الأرض… كل الأرض. إن الله سبحانه ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم ـ إن الله هو: ]رَبِّ الْعَالَمِينَ[ وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره…
وبهذا يكون الدين كله لله أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله إن مدلول الدين أشمل من مدلول العقيدة… إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة هو في الإسلام يعتمد على العقيدة ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة.
والذي يدرك طبية هذا الدين ـ على النحو المتقدم يدرك معها حتمية الانطلاق الحركة للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان ـ ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية… إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الإنسان في الأرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير (الإنسان)… نوع الإنسان… في (الأرض)… كل الأرض ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان، إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية وهم مطلقوا السراح من جميع تلك المؤثرات… فهنا: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[ أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله وهو طليق من هذه الأغلال.
إن الجهاد ضرورة للدعوة إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً…
إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام وعلى مدى طويل من تاريخه. إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي من ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملابسات تذهب وتجيء ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود.
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة… والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة. هذا هدف أولي لا بد منه ولكن ليس الهدف الأخير. إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ويؤمن قاعدة الانطلاق… الانطلاق لتحرير (الإنسان) ولإزالة العقبات التي تمنع الإنسان ذاته من الانطلاق.
وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم لأنه كان مكفولاً للدعوة في مكة حرية البلاغ… وربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد… وربما كان ذلك أيضاً لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثراً وأنفذ… وربما كان ذلك أيضاً اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت… وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين… سيكونون من جند الإسلام المخلص… وربما كان ذلك أيضاً لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع… وربما كان ذلك أيضاً لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة…الخ.
أما في المدينة… والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية: ]فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ[. ]وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ[. ]قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[.
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس…
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك. وهذه وحدها تكفي… ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة! لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية هو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية قبل المعركة ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: “الله ابتعثنا لنخرج من شار من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام… فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر“.
وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمذهب الإلهي تقوم في وجه عقبات مادية من سلطة الدولة ونظام المجتمع وأوضاع البيئة وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة كي يخلو له وجه الأفراد من الناس يخاطب ضمائرهم وأفكارهم بعد أن يحررها من الأغلال المادية ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار…
حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له، لأن مجرد وجوده في صورة إعلاناً عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية لأن الحاكمية فيه لله وحده… إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله القائمة على قاعدة العبودية للعباد أن تحاول سحقه، دفاعاً عن وجودها ذاته ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه… ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة… إن من طبيعة الوجود الإسلامية ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء لإنقاذ الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية تاركاً الإنسان نوع الإنسان في الأرض كل الأرض للشر والفساد والعبودية لغير الله.
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها، ولم يمدَّ إليها دعوته وإعلانه التحريري العام، ولكن الإسلام لا يهادنها إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين.
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء. فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن ولكنه منهج إله ونظام عالم، ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية الإنسان في الاختيار، وحسبه أن لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة المفسدة للفطرة المقيدة لحرية الاختيار.
ومن حق الإسلام أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده… ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين وتحرير الناس أجمعين… وعبادة الله وحده لا تتحقق ـ في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي ـ إلا في ظل النظام الإسلامي. فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم: حاكمهم ومحكومهم، أسودهم وأبيضهم، قاصيهم ودانيهم، فقيرهم وغنيهم، تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء.
مقتطفات من موضوع (الجهاد في سبيل الله) من كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب رحمه الله
1990-02-07