هذا المقال نشره الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيسكون في صحيفة «تايم» الأميركية في 22/04/91 وقد ترجمته جريدة السفير البيروتية ونشرته في 29/04/91. وقد رأت «الوعي» اطلاع قرائها عليه. وفيما يلي قول نيكسون:
في لقائنا في الكرملين، أكد لي ميخائيل غورباتشوف أن انعطافه الحالي باتجاه الرجعيين هو مجرد التفاف مؤقت. إلا أن الدليل ساطع أن هذا الرجل يقود الاتحاد السوفياتي إلى الهاوية ففي ظل غياب أي إصلاح جذري راديكالي، سيصبح الاتحاد السوفياتي إمبراطورية معقدة، غير ذات علاقة – وقوة عظمى نووية باقتصاد على نموذج اقتصاد العالم الثالث، عاجزة عن لعب أي دور رئيسي على المسرح العالمي.
وهذه أنباء جيدة بمعنى أنها تعني زوال الخطر السوفياتي، إلا أنها بالأكثر أنباء سيئة، فكما سبق وقلت لغورباتشوف عام 1986 وكررت قولي خلال لقائنا الأخير، فإنه لا يمكن ضمان أمن قوة نووية عظمى لوحدها على حساب «لا أمن» قوة أخرى غيرها وتعريض هذا الأمن للخطر. فإننا بحاجة إلى الاتحاد السوفياتي كشريك دولي يعول عليه لبناء نظام عالمي جديد.
لقد وجدت خلال زيارتي الأخيرة للاتحاد السوفياتي، حالة يأس عارمة لم أواجه مثيلاً لها من قبل. وقد كنت في الماضي قد رأيت شعباً يعيش في الفقر والخوف ولكن مع بعض الأمل بنجاح النظام. أما اليوم، فقد زال الخوف، إلا أن الأمل زال أيضاً معه. لقد فقد النظام الشيوعي الثقة به بشكل كامل وانهار الاقتصاد السوفياتي.
ويبدو غورباتشوف عاجزاً عن إدراك أنه لا يمكن أن يكون هناك منزلة متوسطة بين نظام الهيمنة ونظام السوق الحرة، وأنه لا يمكن قيام مشاريع خاصة من دون وجود ملكية خاصة. فهو عاجز عن قطع الحبل السري بينه وبين الفلسفة الماركسية اللينينية التي غذته طوال حياته.
لقد فاقم تلبد شعور غورباتشوف وتجاهله للمشاعر القومية ورفضه للطموحات الشرعية للجمهوريات السوفياتية، من النزعات الانفصالية التي تمزق البلاد إلى أجزاء.
وفي معالجته الخرقاء لأحداث لتوانيا، لتوانيا واستونيا، جعل غورباتشوف العديد من حلفائه السابقين المؤيدين للإصلاح ينفرون منه ويبعدون عنه. وفي وقت حمله الرجعيون مسؤولية اللجوء إلى قساوة غير كافية لتنفيذ إجراءات قمعية فعلية.
لقد باتت كل الأطراف في بلاده تتهمه بأنه أصبح غير جدير بالثقة، ضعيفاً متردداً وغير حاسم، يكثر الكلام أكثر من الأفعال، وأن أكثر الانتقادات قساوة التي سمعتها عنه كانت من قبل أحد حلفائه السابقين (…).
لقد بات غورباتشوف يفتقد إلى قاعدة سياسية حقيقية، بالإضافة إلى أن التغييرات المفاجئة لتوجهاته أطاحت بما تبقى له من مصداقية، في حين أن الكثير من مقدمي النصح والتوجيه له والمؤيدين للإصلاح – أمثال أدوارد شيفارنادزة والكسندر ياكوفليف، إما تخلو عنه وإما أنه هو الذي تخلى عنهم. باتت المجموعة الصغيرة التي تقدم له النصائح حالياً تتكون بمعظمها من رجال لا يقولون إلا كلمة نعم، ويسمعون ما يريد سماعه أكثر مما يحتاج إلى معرفته، ومن موظفين شيوعيين يحنون إلى الاستقرار الظاهري لأيام المجد الإمبراطوري المصطنع للديكتاتورية السوفياتية السابقة.
لقد أكد لي بعض من مؤيدي غورباتشوف أن تحالفه الحالي مع الرجعيين هو مجرد زواج مصلحة. مهما يكن الأمر، فإن مثل هذه الزيجات غالباً ما تثمر عن نتائج غير مرغوب بها. وإننا أصلاً، بتنا نرى قيوداً منذرة بالسوء على الغلاسنوست، وتدابير بوليسية طارئة كحظر المظاهرات والاضطرابات.
وحصيلة ذلك، أن حركة الديمقراطية التي شهدتها السنوات القليلة الأخيرة هي في ارتداد.
قد يكون لغورباتشوف فخر إنهاء الهاجس السوفياتي لما يسميه «صورة العدو». رغم ذلك، فإنه اليوم يعود إلى العادة القديمة القاضية بتحميل مسؤولية الاخفاقات السوفياتية للخصوم الغربيين و«مثيري المتاعب» المجهولي الأسماء.
يشعر غورباتشوف حالياً أن لا خيار أمامه إلا خيار التماس عون الرجعيين لتحقيق استقرار الوضع ولا سيما وضع حد للانهيار الخطير لاقتصاد بلاده، وذلك قبل اتخاذ أي خطوة جديدة دافعة لتحقيق إصلاحاته، إلا أنه يجب أن يدرك – وأن يدرك سريعاً جداً – أن تحقيق الاستقرار على حساب الحرية هو ثمن باهظ جداً ستكون كلفته وقف التقدم، في حين أن تحقيق الحرية على حساب بعض عدم الاستقرار هو ثمن يستحق دفعه من أجل إنجاز التقدم.
وليس غريباً أن نرى غورباتشوف اليوم أقل نشاطاً وديناميكية وتفاؤلاً مما كان عليه منذ خمس سنوات مضت. إلا أن براعته الفكرية الرائعة ومقدراته الطبيعية كرجل سياسة ما تزال سليمة، وأنه لم يفت بعد الأوان على غورباتشوف الرجعي ليعود غورباتشوف الإصلاحي مرة جديدة.
لقد أظهر غورباتشوف سابقاً أنه قادر على التحول بنسبة 180 درجة فهو رغم كل شيء ما يزال الزعيم نفسه الذي أعلن سابقاً أنه لن يسمح أبداً بأن تتحد ألمانيا الشرقية مع ألمانيا الغربية أو أن تبقى ألمانيا موحدة في حلف الناتو. كذلك أنه الزعيم نفسه الذي أقسم بأنه لن يتخلى أبداً عن سلطة الحزب الشيوعي كسلطة وحيدة في الاتحاد السوفياتي.
إننا نستطيع أن نأمل بأن يرتد غورباتشوف على نفسه مرة جديدة، وفي انتظار ذلك، فسيكون من الخطأ الجسيم للولايات المتحدة أن تعقد آمالها في علاقات جيدة مع الاتحاد السوفياتي على رجل واحد – حتى ولو كان رجلاً استثنائياً غير عادي كغورباتشوف. يجب علينا أن نواجه حقيقة أن سلطة هذا الرجل بدأت بالأفول.
في كل من زياراتي السابقة إلى الاتحاد السوفياتي، لم يكن في فيها محادثات إلا مع الرجل الأول لهذه البلاد ـ نيكيتا خروتشوف عام 1959، ليونيد بريجنيف عام 1072 و1974، وغورباتشوف عام 1986. إلا أنني هذه المرة، أجريت لقاءات ليس فقط مع غورباتشوف، بل أيضاً مع رئيس المخابرات السوفياتية الـ كي.جي.بي. وكل من وزراء الدفاع، الخارجية والداخلية. كما التقيت بوريس يلتسن وغيره من الوجوه البارزة للمعارضة في موسكو كما نظراء هؤلاء في كل من لتوانيا، اوكرونيا وجورجيا.
لقد باتت السلطة مبعثرة مشتتة وبات هناك حالياً – وهو أمر لم يكن أحد ليفكر به منذ فترة قصيرة ماضية – جماهير ودوائر انتخابية ومجموعات متنافسة على السلطة.
لقد رأيت بشكل مباشر مدى قدرة بعض الجمهوريات على تحقيق السيطرة على شؤونها الداخلية والإشراف على هذه الشؤون. فهي – هذه الجمهوريات – تحاول تطوير سياسات خارجية خاصة لها. وهذا صحيح ليس فقط بالنسبة لجمهوريات البلطيق وجورجيا اللتين تسعيان إلى تحقيق الاستقلال التام عن الاتحاد السوفياتي بل أيضاً على أوكرانيا حيث ترفض الحكومة الشيوعية فيها تلقي الأوامر من موسكو.
هذه التطورات تتطلب استجابة أميركية إيجابية واضحة وغير ملتبسة. وربما سيكون الأمر غير موافق للدبلوماسية التقليدية، إلا أنه يجب على الولايات المتحدة أن تبدأ مباشرة بإقامة جسور سياسية واقتصادية وثقافية مع الجمهوريات الجديدة الميالة إلى توكيد نفسها.
وهذا صحيح بشكل خاص بالنسبة لأكبر الجمهوريات السوفياتية: روسيا. ولقد التقيت مع رئيس مجلس السوفيات الأعلى للاتحاد الروسي لأكثر من ساعة، في حضور مترجمه الخاص فقط. وقد كنت أتوقع أن ألاقي فيه شخصاً ضئيل الشأن والأهمية وديماغوجيا (دهماويا) إلا أني سرعان ما أدركت مدى خطأ وعدم صحة ما تتناقله المعلومات الصحفية وتقييمات الدبلوماسيين. فلقد أظهر هذا القائد السوفياتي عزماً فولاذياً وقناعة راسخة. وهو يتمتع بسحر طبيعي يكون صفة مهمة جداً، لسياسي فعال وحازم، وهو وإن كان لا يضاهي غورباتشوف فكراً وحذقاً إلا أنه يبقى شخصاً سياسياً من الوزن الثقيل. (وذا أهمية كبيرة).
فإذا كان غورباتشوف يحتكم إلى العقل، فإن يلتسن يحتكم إلى القلب. وفي حين أن غورباتشوف يبهر سامعيه إلا أن يلتسن يثيرهم ويحركهم. وإذا كان يلتسن كما يدعي بعض منتقديه يسعى إلى السلطة لمصلحته الخاصة، فإنه قد يصبح ديكتاتوراً خطيراً جداً، ولكن ولحسن الحظ فإن هؤلاء المنتقدين على خطأ.
وأني لست استغرب أن يكون الإعلام الأميركي، النازع إلى تغليب الشكل على الجوهر، يفضل غورباتشوف على يلتسن، إلا أنه يجب لتقييم يلتسن، التركيز على ما يناضل من أجله بدلاً من القلق والتشديد بشكل مهووس على أسلوبه الخاص. يلتسن ينكر بشكل كامل الفلسفة الشيوعية، أما غورباتشوف فلا. يلتسن قد يمنح الاستقلال الفوري للبلطيق، غورباتشوف لن يفعل ذلك، يلتسن قد يقطع كل مساعدة سوفياتية عن كوبا، أفغانستان، أنغولا وغير ذلك من دول العالم الثالث الخاسرة، أما غورباتشوف فلن يفعل ذلك. يلتسن يسعى إلى الحكم من خلال الفوز بانتخابات حرة، أما غورباتشوف فلن يجازف بهذا الخطر.
والأكثر أهمية ومغزى، أن مقدمي النصح ليلتسن، وبعضهم ممن عملوا على نصح غورباتشوف، هم أكثر قدرة وكفاءة من الرجعيين الذين ينصحون غورباتشوف اليوم. هؤلاء يشكلون الأمل الأفضل لتحقيق الاصطلاح.
لست أقول هنا أن على الولايات المتحدة التدخل في الشؤون الداخلية السوفياتية والوقوف إلى جانب يلتسن ضد غورباتشوف. فالولايات المتحد يجب أن تستمر في التعامل مع أي شخص يكون مسؤولاً عن السياسة الخارجية للقوة النووية العظمى.
وحالياً، يصادف أن غورباتشوف هو هذا المسؤول وأن ليس هناك في الوقت الحاضر أي بديل عنه.
ولكن، وفي نفس الوقت، يمكننا ويجب علينا أن نعزز اتصالاتنا على كل المستويات مع الإصلاحيين في روسيا وغيرها من الجمهوريات السوفياتية، وقد لن يروق هذا الأمر لغورباتشوف، إلا أنه يجب علينا أن نتذكر أنه بحاجة إلينا أكثر بكثير مما نحن بحاجة إليه.
إن مستقبل العلاقات الأميركية السوفياتية مرتبط عضوياً وأساساً بمصير الإصلاحات داخل الاتحاد السوفياتي. فدعم الإصلاحات هو أمر بالنسبة للمصلحة الوطنية الأميركية، وهو للسخرية، مهم جداً لمصلحة غورباتشوف نفسه. وإذا دعمنا الإصلاحيين فإنهم سيكونون قادرين بشكل أفضل على ممارسة الضغوط على غورباتشوف لحمله على الانحياز مجدداً إلى جانبهم وإنهاء انعطافه الحالي باتجاه الرجعيين، وإعادة البلاد بالتالي إلى طريق الإصلاح.
يجب على غورباتشوف أن يتخلى عن تحالفه الآثم مع الرجعيين. وفي حال تعلق بهم فإنه قد ينفذ موقعه في السلطة إلا أنه سيخسر مكانه في التاريخ. وسيكون من الفاجع أن يلاقي مصير العديد من الإصلاحيين في الماضي: فأولئك الذين يزرعون بذور الإصلاح نادراً ما يحصدون ثمرات جهودهم¨