وارين كوهن
وشهد شاهد من أهلها
هذه الترجمة لمقالة صدرت في مجلة وورلد كريستشن منيتور 10/1990 تبيّن مدى التضليل الأميركي في الإفراج عن الوثائق. وممّا لا شك فيه أن المخفي أعظم. فهل أدرك المسلمون طبيعة هذه الدول الكبرى؟ وهل أدرك الساسة الذين يترامون على أعتاب الدول الكبرى هذه الحقائق؟
ترجمة وتقديم أياد هلال
مع أن الرئيس جورج بوش والقادة الأميركيين الآخرين صرحوا بأن الحرب الباردة قد انتهت، إلا أن الحكومة الأميركية ما تزال تنكر حق الشعب الأميركي في تفسير حيادي لدور الحكومة في أحداث جرت قبل 30 عاماً. وفي الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له يهتك فيه أكثر أسرارهم إثارة (بما في ذلك دعم العلميات الإرهابية، مجازر ستالين في ذبح 15000 بولندي بالإضافة إلى جرائمه ضد شعبه) فإن الولايات المتحدة تنشر أموراً مزورة بشكل واضح حول نشاطاتها في جواتيمالا وإيران وجنوب شرق آسيا في فترة الخمسينات. في الواقع أن معظم ما تم نشره من الوثائق التاريخية التابعة لوزارة الخارجية مسلسلاً تحت عنوان «العلاقات الخارجية للولايات المتحدة» يؤدي إلى تزوير وتشويه الدور الأميركي عبر القارات.
لقد حظيت الفضيحة الأخيرة باهتمام قومي اثر استقالتي كرئيس اللجنة لسنين عديدة علماء مرموقين ودبلوماسيين سابقين حائزين على شهادة أمنية، ومع ذلك فإن اللجنة قد منعت من حقها التقليدي في مراجعة المواد التي استثنتها وزارة الخارجية من النشر، ودون إمكانية الرجوع إلى هذه المواد فإن اللجنة لا تستطيع أن تقرر هل هذه المواد المنشورة تعبر حقاً عن نشاطات حكومتنا أم لا. لذا لقد أصررنا على وجوب اطلاعنا على المواد المستثناة قبل إعطاء رأينا.
وفي سبتمبر 1989 بعد سنتين من المحادثات توصلت مع الموظف المسؤول في وزارة الخارجية إلى اتفاقية حول الإجراءات التي نستطيع بموجبها الحكم على مدى تكامل سجلات الوثائق. وفي ديسمبر من ذلك العام وفي اجتماع قرر فيه الجميع أن الجزء الخاص بإيران 1952 – 1954 والذي تم نشره في أوائل عام 1989 فإنه لا يمثل الدور الحقيقي للولايات المتحدة في عملية الإطاحة برئيس الوزراء محمد مصدق وإعادة الشاه… لقد خرقت الوزارة اتفاقها مع اللجنة. وفي اللحظة التي تكون فيها الحاجة إلى المعلومات حاجة ماسة، فإن وزارة الخارجية تعمد إلى اللف والدوران والتراجع والتعميم ومنع الأميركيين من حقهم في الوصول إلى هذه المعلومات رغم أن عمر أي من الوثائق المطلوبة أكثر من 30 سنة.
إن سلسلة «العلاقات الخارجية الأميركية» قد بدأ نشرها منذ عام 1861م ومنذ ذلك العام وحتى سنة 1920 فإن هذا المسلسل قد قدم صورة متكاملة وحظي بثقة فائقة. فالعلماء من مختلف الأقطار في العالم اعتمدوا على ما ننشره لتصحيح ما تنشره حتى حكوماتهم أو للحصول على معلومات لم تكن متوفرة مطلقاً إذ لا يوجد عالم معتبر من الصين أو الاتحاد السوفياتي يستطيع الكتابة عن الحرب الباردة دون الرجوع إلى هذه المنشورات.
إن «العلاقات الخارجية» كانت مثالاً حياً لكيفية قدرة الحكومة الديمقراطية على إعلام شعبها عن ماضيهم وتزويد الشعب بالمعلومات اللازمة لفهم دور بلدهم في المشاكل الدولية. لقد أعطت شاهداً على أن الولايات المتحدة قد قامت بالقليل القليل مما يستحي منه لا ويوجد ما يبرر الخوف من كشفه وهي بذلك تشكل مصدراً هائلاً للعلماء والصحفيين والدبلوماسيين والناس العاديين الذين يريدون فقط معرفة ماذا جرى حقيقة.
إن المؤرخين التابعين لوزارة الخارجية الذين يقومون بتجميع هذه السجلات في هذه الأيام هم أشخاص جيدون وقديرون وملتزمون بتقديم سجل موثوق مثلهم في مثل أي موظف سبق له شغل مثل هذا المنصب من قبل. ولكن عارهم الحالي ليس مسؤوليهم ولكن العار هو عار موظفي الأقسام الأخرى في وزارة الخارجية والوكالات الأميركية الأخرى وبشكل خاص المخابرات المركزية.
إن المشكلة في وزارة الخارجية تكمن في بعض الموظفين والموظفات لحماية الأسرار وحفظها. مجموعة تظن أن قيمتها الذاتية تعتمد على مدى قدرتهم على إحاطة عملهم بهالة من الغموض كما يفعلون الآن.
إن هذه المجموعة من حافظي الأسرار تختبئ وراء حجة الأمن القومي بحيث تظهر هذه المجموعة أن موظف لجنة التوثيق وموظفي الأقسام الأخرى المتعاونين مع اللجنة من وزارة الخارجية يبدو وكأنهم يراهنون ويساومون على الأمن القومي وكأن مجموعة «حفظ الأسرار» وحدها هي الجديرة بالحكم على ما يجب أن يعلمه الأميركيون!
ولحسن الحظ فإن معظم موظفي «الخدمات الخارجية» بمن فيهم الموظفون المنوط بهم مسؤولية الإفراج عن الوثائق السرية القديمة هم متعقلون ولكن قليلاً من ألعاب البيروقراطية تستطيع خلق مثل هذه المأساة!
إن المشكلة المفروضة من قبل المخابرات المركزية هي أكثر خطورة. قبل سنة 1970 كانت وزارة الخارجية الإدارة الرئيسية في السياسة الخارجية. وما يصدر عنها كان يعكس دور الأمة في شؤون العالم. حتى خلال الأربعينات، ومع هذا فإن الرئيس روزفلت وهوبكنـز قد تصرفا دون إعلام وزارة الخارجية بشكل كامل. ولكن مؤرخي وزارة الخارجية قد قاموا بجهد عظيم للحصول على وثائق البيت الأبيض لتغطية وثائق تلك الفترة. وفي الخمسينات أصبحت المخابرات لاعباً رئيساً وفي بعض الأوقات كانت هي اللاعب الرئيس كما هي الحال في إيران وجواتيمالا وربما أماكن أخرى لم نعلهم ولا نعلم عنها حتى الآن. لكن مع هذا فإن المخابرات المركزية رفضت تزويدنا بالوثائق اللازمة لفهم دورها. فإذا كانت المخابرات المركزية الإدارة الرئيسية في سياسة أميركا الخارجية تجاه أي قطر معين وفي الوقت نفسه لا يوجد شيء مدون عن دور المخابرات المركزية في سياستنا في ذلك القطر وفي تلك السنة، فإن المسلسل الخاص بوثائقنا عن ذلك القطر يصبح غير مكتمل وعديم الفائدة ومزوراً. وبعبارة أخرى يجب أن يحتوي المنشور على وثائق المخابرات المركزية!!
لقد رفضت إدارة المخابرات المركزية تزويدنا بعملياتهم السرية بناء على تعليل معروف وهو أن هذا الأمر يهدد الأمن القومي ويهدد عملاء الوكالة إن ما نتحدث عنه ليس 5 أو 10 أو 15 سنة، حيث قد يكون هذا التعليل مقبولاً. لكن العلاقات الخارجية «تنشر وئائق نشاطات مضى عليها أكثر من 30 عاماً (من الضروري لفت النظر إلى أن المخابرات المركزية لا تذكر في وثائقها مصادر معلوماتها أو أسماء عملائها).
وفي حوادث عديدة قام بعض مديري وعملاء المخابرات المركزية بنشر قصصهم المفضلة. وكان يتم إعلام الأشخاص المستهدفين بعمليات الوكالة فالإيرانيون مثلاً يعلمون من أرجع الشاه للعرش وأسرار قصف لاوس لم تكن سراً على اللاوسيين. لكن الأميركيين فقط هم الذين يجهلون كل هذا أو لا يزال حقهم في المعرفة مرفوضاً. وفوق هذا كيف يصدق إنسان في التسعينات حيث انتهت الحرب الباردة أن الأمن القومي سوف يهدد بنشر وثائق الخمسينات! يجب أن يتوفر في النظام الديمقراطي في وقت ما للناس الفرصة لمراجعة نشاطات وكالاتهم وفترة 30 سنة ليست قليلة.
أن حلاً جزئياً لهذا الاغتصاب للجنة العلاقات الخارجية يبدو ممكن الحدوث. لقد وافقت لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس على مشروع قانون يعتني بإعادة تصنيف وثائق وزارة الخارجية بشكل أتوماتيكي. إن جعل إعادة التصنيف أوتوماتيكياً بعد فترة ليست أقل من 25 سنة أمر ضروري للحيلولة دون جعل إعادة التصنيف هذه تعتمد على سرعة عمل الموظفين أو مدى توفر المال اللازم لتعيينهم أو للآراء الشخصية لمثل هؤلاء الموظفين الذين يتولون إعادة التصنيف أو للإجراءات البيروقراطية التي قد تلجأ إلى التقليل ما أمكن من الإفراج عن هذه الوثائق. وإذا أصبح مشروع القانون هذا قانوناً ساري المفعول فإنها تجعل من الصعب على أحد من وزارة الخارجية منع الجمهور من الوثائق. كذلك فإن إجراء بعض التغييرات على اللجنة الاستشارية التي تتولى العملية من شأنه التأكيد على أن الوثائق المعلنة هي فعلاً تعكس إجراءات الحكومة المركزية.
إننا مع هذا نحتاج إلى المزيد: يجب على «الخدمات الخارجية» الالتزام بإطلاع الجمهور على أعمالها. إنني لا أدعو إلى «الدبلوماسية المفتوحة» ذلك لأن الدبلوماسية يجب أن تظل سرية ولكن بعضاً مما يجري تنفيذه لا كله يحتاج إلى 24 – 30 سنة قبل نشره. إن على وزارة الخارجية أن تلتزم ذاتياً بهذا بحيث تعاقب كل من يتلف أو يخفي أية وثيقة، حيث سيظل يوجد أناس بيروقراطيين مستعدون لإخفاء الحقيقة أو إعاقة إظهارها. وبخاصة إذا كان هنالك مقابل ما لحفظ الأسرار!
ويجب علينا أيضاً على الحصول على الوثائق بسرعة أكبر. في الستينات. كانت بعض الوثائق من المفترض أن يفرج عنها بعد 20 سنة ولكن جاء ريغان وأمر بزيادة المدة إلى 30 سنة ولكن في الواقع علينا أن ننتظر 35 سنة. أو أكثر لقد كانت وزارة الخارجية البريطانية تفرج عن الوثائق بعد 50 سنة ولكن الآن يجري الإفراج عنها في بريطانيا بعد 30 سنة. واليوم فإن رؤية وتحليل أفعال الحكومة الأميركية تتم من خلال مكتب الأرشيف البريطاني حقاً ينبغي على الولايات المتحدة القيام بأفضل مما هو عليه الآن.
إن أهم أمر هو عدم السماح للمخابرات المركزية بإعفاء نفسها من الإفراج الأتوماتيكي عن الوثائق. حيث يتعين إظهار وثائق الوكالة إذا كان لها دور في السياسة الخارجية. وكذلك الشيء نفسه ينطبق على رئيس مجلس الأمن القومي. حيث أنه في المجتمع الديمقراطي يجب أن تكون كل وكالة خاضعة للمراجعة. وإذا كان أمر من الأمور الراهنة ينبغي الإبقاء عليه سراً فإن مراجعة الكونغرس له تبدو هامة. (لقد حاربت… الإدارات السابقة للمخابرات هذه المراجعة بحجة أن هذا يجعل من المستحيل على وكالة المخابرات المركزية القيام بعملها بشكل فعال مما يهدد الأمة بالخطر. وفي الحقيقة لا يوجد ما يدل على ضعف قدرة الدولة على جمع الأسرار أو على القيام بالعمليات السرية).
دعنا نترك للجمهور الحكم على العمليات التي قامت قبل 25 – 30 سنة. إذ لا يجوز لنا أن نحصر معلوماتنا عن نشاطات المخابرات المركزية في إيران وجواتيمالا وجنوب شرق آسيا بما يريده لنا مسؤولو المخابرات.
إن الشعب الأميركي جدير بمعرفة شاملة وصحيحة لدور حكومته في العالم. أن إيقاف التشريع ريثما ينظر فيه أمام الشيوخ خلال هذا العام أمر جيد وخطوة صحيحة في الاتجاه الصحيح. أن إقرار هذا التشريع أمر هام. وبمقدار ما يزداد حرص وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي على إخفاء الوثائق، بمقدار ما تزداد أهمية حصول الناس على هذه الوثائق! وفي خلال الخمسين سنة الماضية لم يكن هناك ما يبرر إخفاء مثل هذه الوثائق. وبالتأكيد فإن المصالح القومية لا يمكن أن تخدم بنشر الأكاذيب أو نشر مصنف الحقيقة.
· وارن كوهين الرئيس السابق للجنة الاستشارية لتوثيق التاريخ الدبلوماسي (من 1988 – 1990). وهو أستاذ مشهور للتاريخ في جامعة الولاية في متشغان. والآن هو زميل في مركز دور ولسون لعلماء القانون الدولي.