حكومة أميركا تتظاهر أنها عاجزة. كثير من أهل الخبرة الأميركيين يقولون بأن الإدارة الأميركية عاجزة فعلاً لأن الكونغرس يدعم إسرائيل ولا يسمح لحكومته أن تضغط على إسرائيل. كثير من المراقبين الحياديين يقولون هذا أيضاً. فما مدى صحة ذلك؟
بيكر، وزير خارجية الولايات المتحدة، قال للوفد الفلسطيني في القدس بأن أميركا لا تستطيع تنفيذ قرارات مجلس الأمن على إسرائيل كما نفذتها على العراق، ذلك لأن الكونغرس الذي سمح للإدارة الأميركية بنقل القوات الأميركية إلى الخليج واستخدامها ضد العراق لا يسمح بنقلها واستخدامها ضد إسرائيل. وقال للوفد أيضاً بأن حكومته لا تستطيع إيقاف دفع المال لإسرائيل ما دام الكونغرس قرره. ولا تستطيع منع إسرائيل من بناء المستوطنات في الضفة أو القطاع لأنها لا تملك وسيلة للمنع غير القوة، والكونغرس لا يسمح باستعمالها. ولا تستطيع إجبار إسرائيل على أي شيء. فلا تستطيع ممارسة ضغط عسكري ولا اقتصادي، وكل ما تستطيعه هو ممارسة بعض ضغوط سياسية في بعض الظروف. وأظهر بيكر حسن نيته تجاه الفلسطينيين وأظهر أمام الوفد امتعاضه من إسرائيل التي تستقبله كل مرة ببناء مزيد من المستوطنات في الضفة الغربية.
بعض خبراء السياسة الأميركية يقولون بأن بوش لن يستطيع إلزام إسرائيل بشيء لا ترضاه، لأنه إن حاول فسيصطدم بالكونغرس الذي تتعاطف غالبيته مع إسرائيل.
وهناك قناعة عند كثير من المراقبين والسياسيين بأن الصهيونية العالمية هي التي تسخر الولايات المتحدة وتضغط عليها وليس العكس.
وبما أن أميركا الآن هي الدولة العملاقة الوحيدة في العالم، وهي شرطي العالم، والموجه للعالم صار من الضروري لكل متتبع للسياسة الدولية أن يعرف من الذي يصنع القرار في أميركا، وهل الإدارة عاجزة حقيقة إلى هذا الحد أمام (اللوبي) اليهودي في الكونغرس.
نحن لا نصدق أن هذا كله عجز. نحن نفهم أن هذا سياسة من الإدارة الأميركية، وتتذرع بالعجز من أجل أن لا تتهم أنها تكيل بمكيالين.
لو كانت الإدارة الأميركية جادة في إخراج إسرائيل من الضفة والقطاع أو من الجولان لاستطاعت ذلك. فمثلاً تستطيع الإدارة الأميركية أن توجه عملاءها من حكام العرب (سراً) أن يقفوا موقفاً موحداً ومتشدداً ضد مصالح أميركا، مما يخلق أداة ضغط تؤثر في أميركا أكثر من تأثير الضغط اليهودي. ومن المعلوم أن مصالح أميركا عند العرب أكبر من مصالحها عند اليهود. وقد سبق لأميركا أن وجهت دول البترول ومنها السعودية لرفع الأسعار سنة 1974، وارتفع البترول. ولكن الإدارة الأميركية لم توجه حكام العرب ليقوموا بأي عمل ضاغط لتستخدمه لإقناع الكونغرس والرأي العام الأميركي ومن ثم لتستخدمه للضغط على إسرائيل. صدرت قرارات من هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ضد إسرائيل من أجل الانسحاب من الضفة والقطاع والجولان، ولكنها لم تنفذ، وكان بإمكان الحكومة الأميركية توجيه حكام العرب. ولكنها لم تفعل، مع العلم أن ترك إسرائيل تبني المستوطنات، وتستجلب المهاجرين وتوجد واقعاً جديداً على الأرض، ربع قرنٍ حتى الآن، ولا ندري إلى متى ستسمر، إن تركها تفعل ذلك يدل أن سياستها هي كذلك.
وقد اختلت إسرائيل سنة 1978 الشريط الحدودي في جنوب لبنان، وصدر قرار 425 بخروج إسرائيل ولكنها لم تخرج حتى الآن. وسنة 1982 احتلت إسرائيل لبنان حتى بيروت، وعند انسحابها حاولت توسيع الشريط الذي تحتله في جنوب لبنان، ولكن لاحظنا أن العمليات الانتحارية والاستشهادية قامت ضد إسرائيل من مختلف الأحزاب والتنظيمات، وصار الإعلام الرسمي يتبنى هذه العمليات ويغذيها، ولم تستطع إسرائيل أن تتحمل هذا الاستنزاف فانسحبت إلى الشريط (وأضاف مدينة جزين). وحين انسحبت إلى الشريط توقفت العمليات العسكرية ضدها. ونحن نفهم من هذا أن أميركا هي التي كانت تسمح لإسرائيل بالبقاء في الشريط (وفي حزيران) وأن أميركا هي التي لم تسمح لها بتوسيع الشريط واستطاعت إجبارها (عن طريق إثارة الأعمال العسكرية) على العودة إليه. أي أن أميركا ليست عاجزة عندما تقصد.
وحين ضرب العراق إسرائيل بصواريخ سكود كانت إسرائيل مصممة على الرد ولكن أميركا استطاعت لجمها عن طريق إمدادها بالأموال وبصواريخ باتريوت. أي أن أميركا تستطيع أن تجبر إسرائيل حينما تكون جادة. [علينا أن نلاحظ هنا أن استراتيجية الإنجليز كانت مرتكزة بالدرجة الأولى على جر إسرائيل إلى المعركة، لأن الإنجليز كانوا يتوقعون انجرار إسرائيل وكانوا يتوقعون تمرد كثير من ألوية الجيوش العربية التي وضعها حكامها في خندق أميركا وإسرائيل. ولهذا وقفت أميركا بكل جدية ضد تدخل إسرائيل مما فوّت على الإنجليز استراتيجيتهم].
وهناك أمر آخر يدل بوضوح على السياسة المراوغة المخادعة عند أميركا. ذلك هو هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل. إن الإدارة الأميركية قد سعت بكل جدية ومن دون ضغط الكونغرس من أجل هجرة اليهود إلى فلسطين. هناك من فهم أن غرض أميركا من هجرة اليهود الكثيفة إلى فلسطين هي إرباك حكومة إسرائيل في مشاكل إسكانهم مما يدفعها إلى الارتماء على أقدام أميركا طالبة المساعدة. وهذا الفهم ليس خطأ ولكنه ليس الغرض الوحيد، بل هناك غرض آخر عند أميركا وهو الأهم، ذلك الغرض هو زيادة عدد اليهود في فلسطين من أجل تقوية دولة إسرائيل سكانياً، فاستراتيجية أميركا هي أن إسرائيل وجدت لتبقى. وأميركا حين تزعم أنها ضد بناء المستوطنات في الضفة ولو كانت فعلاً تريد استرجاع الضفة من إسرائيل لكانت أجّلت موضوع تهجير اليهود إلى إسرائيل إلى ما بعد انسحابها من الضفة. أما وإنّ أميركا ضغطت بكل ثقلها على روسيا وغيرها من الدول من أجل تهجير اليهود إلى فلسطين [إلى فلسطين وحدها دون غيرها] قبل انسحاب إسرائيل من الضفة والقطاع والجولان ووعدتها بتقديم المال لإسكانهم [رشتهم بـ 13 مليار دولار أثناء حرب الخليج] فإن هذا يدل بوضوح تام على أن أميركا تريد من إسرائيل بناء المستوطنات وإسكان اليهود في الضفة والجولان، رغم مزاعمها الكاذبة.
وما نسمعه الآن من تصريحات أميركية بشأن الجولان يكشف نوايا أميركا المبيتة نحو الجولان. أميركا ساكتة عن احتلال إسرائيل للجولان وساكتة عن بناء المستوطنات وإسكان اليهود فيها. أميركا قالت بأنها لا تعترف بضم إسرائيل للجولان، وهي لم تقل بأنها يجب أن تعاد إلى سوريا، بل قالت بأن مصير يتقرر في المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وسوريا. المفاوضات – على فرض بدئها – ليس من المتوقع [إذا استمرت الأمور كما هي] أن تصل إلى نتيجة قبل عشر سنوات وفي هذه الأثناء تكيف إسرائيل من بناء المستوطنات في الجولان، وتكون النتيجة المبيتة عند أميركا أن تقول لسوريا وإسرائيل: لا بد من وضع قوات متعددة الجنسية أو أميركية لتفصل بينكما ريثما تتوصلان إلى تفاهم. فتضع أميركا يدها على الجولان وتتخذ منها قاعدة عسكرية متقدمة في المنطقة. ومن المعلوم أن أميركا تبحث عن المواقع الاستراتيجية في العالم لتتخذ منها قواعد مزودة بما يلزم لاستقبال قوات التدخل السريع عن الحاجة، فإذا حطت أميركا رحالها في الجولان فإنها تستطيع منها أن تسيطر على سوريا والأردن وفلسطين ولبنان وحتى على تركيا.
إذاً فإن الإدارة الأميركية ستتظاهر بالعجز أمام إسرائيل في الجولان كما تتظاهر بالعجز أمامها في الضفة وفي تنفيذ قرارات مجلس الأمن¨