رسالة الشيخ سفر الحوالي إلى علماء السعودية (4)
1991/11/06م
المقالات
4,268 زيارة
بعد احتلال العراق للكويت (02/08/90) حصلت ارتباكات عند علماء السعودية. حكومتهم تطلب منهم اصدار الفتاوى بالاستعانة بالجيوش الأجنبية (الأميركية)، وهم يروْن أن هذا حرام. وقد حضعت أكثرية العلماء لأوامر الملك. ولكن نفراً من هؤلاء العلماء التزموا بالشرع وخضعوا لأوامر الله وليس لأوامر الملك التي يتلقاها من بوش.
من هؤلاء النفر فضيلة الشيخ سفر عبد الرحمن الحوالي الذي صار يلقي الخطب محذراً الناس والحكام والعلماء من المكائد الفظيعة. ولكن جاء تحذير من الحكومة بأن يلزم جانب الصمت. فقام فضيلته بكتابة رسالة مطولة (115 صفحة) وقدمها إلى العلماء (قبل 15/10/90) يبيّن لهم فيها واقع الخطر المحدق. انه لا يشرح لهم الأحكام الشرعية لأنهم يعرفونها، ولكنه يشرح لهم الواقع، أي مناط الأحكام الشرعية، ويبيّن لهم أن الأمير ليس استعانة من السعودية بأميركا وحلفائها بل هو احتلال أميركي للسعودية والخليج شاءت السعودية أم لم تشأ.
وكان المفروض أن تبقى هذه الرسالة ـ النصيحة متداولة بشكل سري بين العلماء بناء على أمر الحكومة. ولكن شاءت حكمة الله أن تنتشر هذه الرسالة وأن يتداولها الشباب والطلاب والأساتذة بشكل كبير.
ولما رأت «الوعي» أن هذه الرسالة قيّمة جداً وتلقي الضوء بشكل واع وواضح على واقع ما جرى وما يجري نحو الخليج والنفط والإسلام والعالم، لما رأت «الوعي» ما في الرسالة من خير رأت أن تنشر بعض الفصول منها خدمة للإسلام والمسلمين.
وفيما يلي كلام فضيلة الشيخ سفر ـ حفظه الله ـ:
بعض ما نُشِر عن احتلال الكويت
1- نشرت مجلة «المجلة» السعودية في عددها (14 ـ 20) ربيع الأول 1411هـ. عن مايلز كوبلاند رجل المخابرات الأميركية المشهور في المنطقة ومؤلف كتاب «لعبة الأمم» وغيره، قولاً حول محضر اجتماع صدام حسين بسفيرة أميركا أبريل غلاسبي في 25/07/90، يقول كوبلاند: «أن النص الذي نشر في هذه الصحف كمحضر للاجتماع غير كامل وأن النص الكامل موجود لدى وزارة الخارجية الأميركية وقد اطعل هو على نسخة عنه، والذي حصل فيه أن غلاسبي أبلغت صدام أن حكومتها على علم بخطته لغزو الكويت وحذرته من عواقف مثل هذا العمل بالنسبة إليه شخصياً وإلى النظام في بغداد وإلى البلد ككل. ونفى صدام من جهته وجود أي خطة لغزو الكويت. لكنه أضاف أنه «حتى لو حصل مثل ذلك فنحن مهيأون تماماً لردود الفعل الدولية التي تتجاوز الصراخ وحملات الغضب في الصحف الغربية. وسيصوت مجلس الأمن على قرار بفرض حظر على العراق ونحن قادرون على تجاهل ذلك مثلما تجاهلت إسرائيل قرارات مماثلة في السابق وستصوتون على عقوبات اقتصادية وما شابه ذلك. ومع الوقت سيهدأ كل هذا الضجيج وسيقى العراقيون في الكويت». ويروي كوبلاند أن ابريل غلاسبي لم تواجه صدام وأنها كانت مرنة معه خلال اللقاء حتى عندما هددها بنيته مواجهة الاجماع الدولي ضده ومن هنا كان الانطباع لدى العراقيين الذين حاولوا تسريبه إلى الصحف الأجنبية وإلى عدد من الدبلوماسيين للإيحاء أنه كانت هناك لا مبالاة أميركية حيال النوايا العراقية».
2- نشرت جريدة السياسة الكويتية الصادرة بجدة في 7 ربيع الآخر 1411هـ بعنوان رئيسي كبير تقريراً عن الملف الأوروبي للقضية المسمى «جذور الصراع المقبل في الشرق الأوسط» وبالرغم مما في التقرير من أسماء وعبارات يمكن اعتبارها مقحمة أو موجهة توجيهاً خاصاً فإننا ننقل رواية الملف للقاء السفيرة وهي رواية تدل على معرفة صدام والغرب بتصميم خارطة جديدة للمنطقة وتؤيد ما سبق:
يقول الملف:
(بعد استماعه لفحوى الرسالة الأميركية قال صدام حسين للسفيرة: أنا لست معنياً بالسعودية ودول الخليج الأخرى ولست معنياً أيضاً بأية خارجة لتسوية جديدة في المنطقة.. ولكنني معنى بـ «ضرورة وضع حد للنزاع التاريخي بين العراق والكويت».
وعقبت السفيرة الأميركية قائلة: أن الرسالة التي أبلغت إيصالها لك أن حكومتي لا تقبل تنفيذ مثل هذا المخطط الذي اتفقتم عليه مع الأردن واسرائيل واليمن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ويقول تقرير الملف أن الرئيس صدام حسين يبدو أنه فهم تعقيب السفيرة الأميركية بما يعني أن واشنطن يمكن أن تغض الطرف عن هجوم عراقي على الكويت. وفي الوقت نفسه يبدوا أن واشنطن أرادت عبر هذه الرسالة أن تدع الأمور تمضي كما قد يتصورها صدام. حتى إذا ما ابتلع «الطعم» كان قد تورط بالفعل فيما تريد واشنطن. ذلك أن الإدارة الأميركية في هذا الوقت كانت توصلت إلى قناعة بأن النظام العراقي أوشك على الدخول في «المنظومة النووية» بشكل يخل بالميزان العسكري الاستراتيجي في المنطقة. ويخرق في نفس الوقت أساسيات النظام الدولية الجديد الذي اتفقت عليه واشنطن وموسكو بعد انهائهما لفصول الحرب الباردة. ولهذا فإن واشنطن بدا أنها تستعجل اقدام صدام حسين على مغامرة من هذا النوع، تستوجب الضرورات بعدها، أن توجه إليه ضربة عسكرية تقضي على البنية التحتية لكيان العراق وتدمر آلته العسكرية).
ومن المهم هنا أن الجريدة نفسها نشرت ص3 تحليلاً عن نوايا صدام المبيتة أشارت في ص3 تحليلاً عن نوايا صدام المبيتة أشارت إلى الخطاب الذي ألقاه في فبراير 1990 رجب 1410 وفيه تحدث صدام بوضوح عن: «أفول نجم قوة الاتحاد السوفياتي كما أن الرئيس العراقي تكهن بأن الولايات المتحدة سوف تتمتع في السنوات الخمس المقبلة بحرية الحركة في الشرق الأوسط. وتوقع أن تستخدم واشنطن هذه الحرية لإيذاؤ العرب. مشيراً في هذا الصدد إلى المساعدات الأميركية للمهاجرين السوفيات إلى إسرائيل واستمرار وجود القطع البحرية الأميركية في الخليج على الرغم من انتهاء الحرب الإيرانية العراقية». ويستنتج صدام حسين من ذلك الآتي:
«أن الدولة التي ستتمتع بالنفوذ الأعظم على منطقة الخليج العربي ونفطه سوف تحافظ من خلال ذلك على قوتها العظمى من دون وجود قوة مماثلة تقف في وجهها. وهذا يعني أنه إذا لم يع شعب الخليج وسائر العرب ذلك فإن رغبات الولايات المتحدة سوف تتحكم في الخليج العربي. وبالتالي فإن أسعار النفط سوف تثبت عند مستويات تفيد المصالح الأميركية وتتجاهل مصالح الآخرين».
ويخلص الرئيس العراقي بعد ذلك إلى «الدعوة لاستخدام أموال النفط التي يستثمرها العرب في الغرب لفرض تغييرات في السياسة الأميركية. وربما يجب سحب هذه الأموال واعادة استثمارها في الاتحاد السوفياتي وبلدان الكتلة الشرقية في أوروبا. ويرى أنه لا مكان في صفوف العرب الطيبين لأصحاب القلوب الضعيفة الذين يجادلون في أن الولايات المتحدة كدولة عظمى تمثل عنصراً حاسماً وما على الآخرين سوى الخضوع لها».
3- نشرت جريدة الأهرام بتاريخ 19 ـ 21 ثلاثة مقالات متوالية للأستاذ سلامة أحمد سلامية المقال الثاني منها بعنوان: «مخطط أميركي» والثالث: «الوقوع في المصيدة» يقول:
«يعتقد أصحاب الرأي القائل بأن غزو العراق للكويت تم بتخطيط أميركي مسبق.. فإن لم يكن بتخطيط فعلى الأقل بعلم مسبق ـ وذلك طبقاً لشواهد وأدلة سردناها أمس ـ أن أميركا كانت بحاجة إلى ظروف وملابسات استثنائية غير عادية تبرر لها العودة إلى فرض نوع من الوجود العسكري في منطقة الخليج. أما لماذا تحتاج أميركا إلى وجود عسكري في الخليج. فلأن مخططي الاستراتيجية الأميركية يرون أن خط الدفاع الرئيسي عن مصالح أميركا والغرب قد تزحزح من أوروبا إلى منطقة الخليج.. وذلك في ضوء التطورات الدولةي الأخيرة بعد أن انهار النظام الماركسي في أوروبا الشرقية. وتم التوصل إلى معاهدات واتفاقيات للحد من الأسلحة الاستراتيجية، ووضعت ضمانات تكفل عدم الاعتداء وعدم نشوب حرب بين أميركا والاتحاد السوفياتي.ز وبعد أن دخل الاتجاه السوفياتي نفسه تحت جناح النظام الاقتصادي الغربي واشتدت حاجته إليه واصبح التعاون بين الوتين العظميين أكثر من أي تناقض أو تضارب بينهما. وهكذا لم يبق أمام أميركا والغرب بعد أن اختفى التهديد الايدلوجي والعسكري من جانب السوفيات إلا أن يتركز الاهتمام على مصادر التهديد الأخرى سواء كانت في صورة تهديدات للمصالح الاقتصادية ومصدر الطاقة كما هو الحال في منطقة الخليج، أو في صورة حروب ومنازعات تأتي من الصراعات والمشاكل الإقليمية المزمنة كما هو الحال في مشكلة الصراع العربي الاسرائيلي، أو في صورة انفجارات وثورات تأتي من دول العالم الثالث والشعوب الفقيرة كما هو الحال في التناقض الشديد بين الشمال والجنوب. ويرى أصحاب هذا الرأي أن التطورات التي أعقبت توقف الحرب العراقية الإيرانية وبروز العراق بما ليدها من أسحلة وقوات مدربة كقوة اقليمية مسيطرة في منطقة الخليج بدأت تثير مخاوف مخططي السياسة الأميركية منذ عدة شهور. وكان تركها تنمو بدون تحجيمها معناه أن تتحول إلى قوة عالمية قد لا تحترم قواعد اللعبة في المنطقة. ومذ وقت طويل قامت السياسة الأميركية على مبدأ أساسي هو الحيلولة دون أن تتعاظم قوة احدى دول الخليج إلى درجة تمكنها من السيطرة على منابع البترول والتحكم في أسعاره وأسواقه.. ولكن هل معنى ذلك أن أميركا هي التي دعت صدام إلى غزو الكويت؟».
«إن النظرية التي تقول أن أميركا عرفت ولم تبلغ أو أنها قرأت بعض المؤشرات ولم تتحرك لوقف عدوان صدام حسين ضد الكيت.. قد تكون صحيحة في بعض جوانبها ولكن هذا لا يعني أن أميركا قد خططت بالاشتراك مع الرئيس العراقي لغزو الكويت أو أن الأهداف الأميركية والأهداف العراقية قد التقت عند نقطة واحدة أو أن صدام عميل أميركي ينفذ عن علم واقتناع خطة شيطانية كبرى، مثل هذه الاستنتاجات قد تبدو من نسج الخيال.ز ولكنها من دفع بعض القيادات التي يستولي عليها الغرور وجنون العظمة إلى ارتكاب أخطاء قاتلة والوقوع في مصيدة لا فكاك منها والسير في الطريق الذي رسمته له دون أن يدري.. عن طريق امداده بمعلومات موثقة ولكنها خاطئة ومسايرته في خطط وتدبيرات تدفعه إلى مزيد من الشطط وسوء التقدير تقترب به من الهاوية دون أن يدري».
4- وأخيراً نذكر مقالة للسفير الأميركي السابق في السعودية جميس اكينز نشرتها صحيفة لوس انجلوس تايمز بعنوان: «الآن ومع تواجد القوات الأميركية حول حقول النفط، هل ندع الفرصة تفوتنا؟ بدت هذه الفكرة جنونية في عام 1975م ولكن احياءها يمكن أن يكون في تجاوز الترحاب الذي تلقيناه من الملك فهد».
يقول: «في شهر يناير من عام 1975م نشرت صحيفة كومنتري يصدرها المحافظون الجدد مقالة تقترح غزو المملكة العربية السعودية وذلك كحل لمشكلة الغرب الأزلية، ولمشاكل الولايات المتحدة الأميركية الاقتصادية، وتلت تلك المقالة العديد من المقالات الثائرة والتي اقترحت الاستيلاء على حقول النفط في شبه الجزيرة العربية بداية بالكويت وانتهاء بدبي (الإمارات) ومن ثم استغلال النفط إلى آخره وفي غضون خمسين عاماً أو ما شابه ذلك تعود الممتلكات لمالكيها الأصليين». (أي بغد استنزاف النفط كله) ثم يقول: «وبالرغم من ذلك، فهناك البعض في حكومة بوش والذين سوف يشيرون إلى أن الوقت ملائم الآن أكثر مما كان الحال في عام 1975م وذلك على الأقل على مستوى احتلال عسكري لحقول النفط السعودية».
ويقول: «إنني لست المراقب الوحيد الذي يملك دراية واسعة في هذا الميدان ولديه القناعة بأن صدام حسين لم يكن ينوي مهاجمة المملكة العربية السعودية في أوائل الشهر الماضي، إن ذلك أمر غير منطقي.. ومع ذلك فلقد قام وزير الدفاع الأميركي ديك تشيني بإقناع الملك فهد بأن حدوث مثل ذلك الهجوم على المملكة العربية السعودية أمر وشيك الوقوع، ولدرجة أنه استطاع أن يقنع المملكة العربية السعودية بالتخلي عن سياسة معارضة وجود قوات عسكرية أميركية. إنني أشك في أن الملك فهد كان يتصور وجود 100,00 من الجنود الأميركيين، ربما ضعف هذا العدد، متواجدين على أرض المملكة العربية السعودية ولمدة غير محدودة».
ولقد اتسعت مظلة الحماية الأميركية منذ ذلك الحين لتشمل دولة الامارات العربية المتحدة.
وإذا لم يتم التخلص من صدام حسين، فإنه سيمثل خطراً محتملاً على المملكة العربية السعودية، وخطراً مؤكداً على أسرة آل سعود، وذلك إذا ما انسحبت القوات الأميركية من المنطقة، لذلك فمن المحتمل أن يكون وجود القوات الأميركية في المنطقة أمراً مرغوباً فيه ولفترة غير محدودة، وسواء كان ذلك الوضع مرضياً للجيش وللشعب السعودي فإن ذلك يظل أمراً آخر.
«إن هؤلاء الذين عملوا والذين يعملون حالياً في الحكومة الأميركية ومن ضمنهم كيسنجر ـ الذي كان جاداً في موضوع احتلال آبار النفط في عام 1975م لا بد أنهم يرون الآن عدم ترك هذه المصادر الغير العادية بعد أن أصحبت تحت سيطرتنا».
ثم يقول: «وهناك خطة أكثر خيالية تتمثل في تدويل جميع الدول العربية المنتجة للنفط، وبذاك يمكن تصحيح أحد الأخطاء الآلهية والمتمثلة في وضع هذه الثروة الثمينة في مكان لا تستحقة»!!.
نصائح واقتراحات
الآن وبعد أن استعرضنا القضية من بداياتها وبجذورها وخططها وارهاصاتها واخراجها، أتظل المسألة مسألة استعانة كما فهم المشايخ والاخوان الأفاضل أصحاب الرأي الأول؟
وإذا قال قائل ـ على ضوؤ ما سبق ـ أن استدعاء الحشود الغربية أو اقرارها كان تهيئة لعدو مترصد يتحين الفرصة لدخول المنطقة ويتهلف لذلك ولم يخف عداوته وشراهته وأطماعه أفيكون مخطئاً؟
(هذا بغض النظر عن كون السبب المباشر عدواً آخر لا جدال فيه!).
ودفعاً للبس أقول: أن بيان هذه الحقيقة الجلية لا يعني بالضرورة اتهام المستدعي أو الموافق بالتوطؤ مع الأعداء، فأنا أقول جازماً إنه لا يوجد حكومة في العالم تريد أن يكون للقوى الدولية الكبرى تدخل في شؤونها أو وجود في أرضها لأن ذلك يعني المزاحمة على السيادة، حتى الحكومات التي أقيمت بمعونة القوى الكبرى وتخطيطها تسعى متى ما استطاعت إلى الاستقلال عنها والتخلص من وصايتها أو تتشوف إلى الانفراد بالزعامة فكيف بغيرها من الحكومات؟
وهذا الملك حسين صنع الإنجليز عرشه بأيديهم وحموه وأعانوه أكثر من مرة على مناوئيه ومع ذلك لا يحب أن يسمع من أحد قوله أن الانجليز مشكورون على هذا الإحسان والإعانة!!
ولهذا أسفُ جداً لما قاله بعض المشايخ من كلام كهذا ظانين أنهم يدافعون عن الحكومة (ووصل الحال إلى أن بعضهم قال: لا تدعوا على الأميركان، بل البعض دعا لهم).
وهؤلاء المشايخ نسوا وأنسوا الأمة المخاطر المحدقة وأظهروا الحكومة بمظهر الراضي المطمئن لما فعل، ولا أحسب هذا إلا ظناً منهم لم يبنوه على سماع ويقين، وعلى كل حال فأنتم أولى الناس وأجدرهم بمعرفة الحقيقة نصاً ومباشرة وإن كان الجواب ما اعتقده فالواجب تنبيه هؤلاء إلى خطر وخطأ ما يقولون!!
وأعود لأقول: ليس في بيان الحقيقة اتهام لهذا أو ذاك وإنما هو تجربة كبرى وأزمة عظيمة لا بد من دراستها بتجرد، وكل منا راع وكل راع مسؤول عن رعيته وكلّنا على ثغرة، واللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قبله.
إن الأمر أكبر من أن يكون اتهاماً يلقى على عاتق جهة ما وتنتهي القضية، كما هو أكبر من أن يكون خلافاً فقهياً يقال فيه أخطأ فلان وأصاب فلان، وأن الاكتفاء بالفتوى أو ابداء الرأي تأييداً أو مخالفة تقصير بالغ وتخل عن الواجب، فالأمة الآن بين فكي هلاك ومضيعة أحدهما صدام صديق الأمس الذي أعاننا على إيران والآخر دول الصليب وحواشيها صديقةاليوم التي نطمع أن تعيينا على صدام ولا نأمنها إلا كما أمنا صداماً من قبل!
وأنه لما يؤلمني ويؤرقني ليل نهار أن تتحول القضية إلى جدل فقهي بعيد عن الواقع ويصدرها بعض الناس على أنها خلاف بين هيئة كبار العلماء وفلان وفلان!!
ونتناسى المصيبة ونتغافل عن الكارثة التي لا يجوز أن نختلف في مسؤوليتنا تجاهها؟ ولهذا فإنني أطالب أطراف القضية الخلافية بالكف عن ذلك الجدل العقيم والانصراف للعمل الدؤوب للمرحلة الراهنة وقد بدأت بنفسي وأعلنت عن موافقتي لما رود في فتواكم بشرط تقييدها بالضوابط الذي ذكرنا (بعضكم كما جاء في محاضرات فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين) وسكت عن رأيي الخاص الذي فيه تفصيل لا يتسع له المقام أعني من الناحية العملية المجرد أما من جهة الواقع فالمناط مختلف جداً وعلينا معرفته ومدارسته والخروج بما يبرئ الذمة ويسقط المؤاخذة ويدفع عذاب الله عنا.
إن الأمر الآن والله جد خطير ويجب على كل فرد من هذه الأمة أن يتجرد لله وأن ينسى مركزه ومنصبه ويستعد لقبول الحق أياً كان قائله.
فنحن كركاب سفينة يهددها الغرق ولن يقتصر الهلاك على بعض دون بعض (والتعتيم والتخدير أو السكوت والتناسي جناية على الجميع) يجب أن ندرس المشكلة أبعادها ومخلفاتها بكل وضوح وصدق ونستعرض احتمالات الموقف ونصنع لكل احتمال حله المأخذو من مصدر الهدى والنجاة: كتاب الله وسنة رسوله r وسيرة الخلفاء الراشدين.
ولخطورة القضية وتشعبها ولضرورة تكامل الحل وتحقيق مبدأ الشورى فيه أرى لأنه لا بد من أن نفرغ لكل جانب منها مؤهلين مخلصين يدرسون ما يوكل إليهم دراسة متأنية موثقة عميقة، ومن ذلك مثلاً:
1- تخصيص مجموعة من المؤهلين ويكون من بينهم قادة عسكريون لدراسة مشكلة الضعف المخيف الذي فوجئنا به في جيشنا أهو حق أم باطل ولماذا؟ وكتابة صورة صادقة مستفيضة عنه.
2- تخصيص مجموعة أخرى مماثلة لدراسة أفضل وسيلة لاستقلالنا بالدفاع عن أنفسنا، وهي خطوة للمرحلة الواجبة التي هي جهاد الطلب بإذن الله!!
«أرى أنه يجب عليكم يا أصحاب الفضيلة وأنتم السلطة العلمية في البلد أن تنصحوا السلطة التنفيذية بأنه لا خطر على النظام من قوة الجيش فإنه ليس بقوة الجيش يقوى احتمال غدره بالقيادة السياسة بل بحسب التربية والمنهج فإذا كان جيشاً جهادياً وحكومته راشدة جهادية فلا يمكن أن ينتقض عليها!!
وأنه لا يجوز شرعاً كما لا يصح عقلاً وسياسة أن يكون البديل عن جيش مسلم من أبناء البلاد المخلصين جموعاً متنافرة لحكومات متآمرة!!».
وأنها لحقيقة مؤسفة أن نقول أن ما يسمى التطوع لا يعدو أن يكون امتصاصاً للمطالبة وتفريغاً لشحنة التأثر إذ كان المتوقع أن تتحول مدننا وقرانا وحجرنا إلى معسكرات دائمة (وأسوأ من ذلك أن يفتح باب التطوع للنساء الذي استغله الهدامون في الداخل والخارج ليغموسنا في غضب الله واستحقاق عقابه أكثر فأكثر نعوذ بالله من الخذلان).
3- ومما يجب وضعه في الحساب كيف يكون التصرف حالما تظهر هذه الحشود غدرها وخيانتها، وماذا نفعل لو قررت ـ لا قدر الله ـ تقسيم البلاد أو تدويلها أو تغيير نظامها السياسي والاجتماعي أو فعل أي شيء في جعبتها الملأى بالحقد والتآمر؟ أنبكي حينئذ ونقول صدق من حذرنا!
إن احتلال الكويت ـ تلك القشة التي قصمت ظهر البعير ـ سنتهي بشكل ما، وحينها ستلتفت هذه القوى لتصحيح وضعنا نحن كما ألمحوا مراراً وصرحوا، فماذا أعددنا لذلك؟ وهذا الإعداد لن يكلفنا ولن يضيرنا فإن كفى الله المؤمنين القتال فللَّه الحمد والشكر، ولنا منه الأجر إن شاء الله.
وإن كانت الأخرى كان الجوبا حاضراً والرد سريعاً.
4- يجب أن ندرس وبكل صراحة ووضوح أن بلادنا قد تكون في أي لحظة ميداناً لحرب مدمرة لم تشهد الدنيا لها نظيراً حرب كيماوية وبيولوجية وربما نووية ونرى هل تستحق إعادة حكومة ابن صباح التي لا تحكم بما أنزل الله كل هذا؟
5- تخصيص مجموعة أخرى ـ بينهم اقتصاديون وخبراء تخطيط مؤمنون (لا علمانيين) لدراسة أثر هذه الأزمة على مستقبل التنمية في بلادنا والإفادة من ذلك لسحب الودائع المخزونة في بنوك الغرب، وحث الأمة على الترشيد وترك الإسراف والتبذير اللذين لا يزالان كما كانا قبل الأزمة التي نخشى أن تطول فتستنفذ كل شيء!
إن صداماً نهب ثروات الكويت غصباً وعلانية ونحن سوف تستنفذ هذه المشكلة ثرواتنا رضا وطواعية وسوف تتعطل حتماً مسيرة التنمية أو تقل بشكل حاد إلا إذا تداركنا الأمر بإذن الله، فمثلنا في هذه الحال كمثل رجل اقتحم الذئب زربية جاره وأخذ يعبث فيها فخاف الرجل أن يقتحم زريبته فاستدعى الذئاب والأسود والنمور وسائر الوحوش وأسكنها زريبته وأخذ يطعمها من غنمه ويه لن تخرج إلا إذا خرج الذئب من زريبة جاره وجاره قد هرب والذئب لن يخرج. ولو أنه اشترى ببعض غنمه بندقية لحرس غنمه بنفسه!!
6- لم لا يضع علماؤنا الأجلاء مبادة سلام تخفف مصيبة الكويتيين وتضمن شيئاً من حفظ ماء الوجه كما يقولون لطاغية العراق وتضمن رحيل جيوش الصليب عن بلادنا؟ وعلى الجملة أترك الرأي فيها لكم.
أصحاب الفضيلة:
إن لم تدرسوا أنتم وتشكلوا اللجان للدراسة وتتابعوا النتائج فمن يقوم بهذا الواجب إذن؟ ومن ينصح للأمة لا سيما وأن غيركم إذا نصحوا احتجوا عليه بسكوتكم؟
أما قول بعض الناس: إن هذا ليس من شؤون العلماء، فعجب والله أيما عجب! ومن شؤون من هي إذن؟
أنتركها للروبيضات من الصحفيين والمتملقين من الشعراء وعُمْي البصيرة من العلمانيين؟ أهؤلاء من شأنهم يومياً أن يسوّدوا الصحف ويملأوا الأجواء بالاقتراحات والحلول وأنتم أصدرتم التأييد وسكتم!!
كل الأطراف تتكلم عن الأزمة حتى (الفنانين والفنانات) والساكتون أو المُسْكَتون هم أهل العمل والدعوة، إلاّ من أيّد الواقع كما هو دون الإشارة إلى أخطاء الماضي أو واجبات المستقبل.
فتداركوا ـ وفقكم الله ـ هذه الأمة وتداركوا سمعتكم وسمعة دعوة التوحيد التي نالها ضرر بالغ في كل مكان بسبب هذا الموقف ولا تحقروا أنفسكم عن عمل عظيم يرفعكم الله في الدنيا والآخر، فأنتم علماء خير الأمم، وعلى منهج السلف تسيرون ولله الحمد، والغرب نفسه ينظر إليكم وإلى هذه البلاد نظرة خاصة للغاية ويحسب لكم مالاً تظنونه في أنفسكم من المكانة والتأثير. وأذكر هنا مثالاً على ذلك ما أورده (جوزيف سيسكو) مساعد وزير الخارجية الأميركي سابقاً وعضو «الهيئة الكونية» اليهودية [هي لجنة للعالم الغربي وتوابعه أسسها (ديفيد روكفلر) كبير المرابين في العالم سنة 1973 ومن أهم مؤسساتها شركة (بيكتل كورب) التي يتخرج منها كبار الساسة الأميركيين ومنهم واينبرغر وزير الدفاع السابق، ومنها تخرج بوش أيضاً وبيكر. (انظر الفكر الاستراتيجي 3/72. 1982)] ضمن أهداف التسوية الأميركية في الشرق الأوسط (الهدف الثاني ونصه):
«يجب أن تكون تسوية شاملة تقلل من احتمال قيام الغليان داخل العربية السعودية نفسها» الفكر الاستراتيجي 3/79.
فقد خص هذه البلاد دون غيرها من دول المنطقة.
وفي مقابلة له في قناة (CNN) تعليقاً على دعوة صدام للجهاد «نحن لا نخاف من جيوش صدام وإنما نخشى من الأصوليين في الجزيرة العربية والجزائر ومصر».
ليست استعانة بأميركا بل أميركا تفرض سيطرتها
وإنني إذ أقدم هذه الرسالة لتكون إن شئتم ورقة عمل لدراسة أسباب الأزمة وطبيعتها لأضعُ أيضاً بعض العناصر المهمة بين يديكم وقد وردتني في تساؤلات من كثير من المخلصين وعلى ضوئها وعلى ضوء ما تعلمونه من شروط الفقهاء لجواز الاستعانة بالكفار (مثل أن يؤمن غدرهم وأن يكون حكم الإسلام هو الظاهر عليهم وأن نستطيع مقاومة الفريقين لو اتفقا علينا. أو أن تقتصر الاستعانة على الخدمة ويكونون للمسلمين كالكلاب..) نستطيع الوصول إلى الحقيقة التي تبرأ بها الذمة إن شاء الله.
1- هل من الاستعانة أن يكون المستعان به جيوشاً غفيرة ورايات كثيرة لدول عظمى طامعة تتحين الفرصة لاقتحام المنطقة منذ سنين ويصبح عددهم ثمانية أضعاف الجيش المستعين، أما العدة والآلة فلا نسبة بين الفريقين فيها!!
2- هل من الاستعانة أن يصبح زعيم الجيوش المتحالفة (بوش) وهو صاحب الأمر والنهي في القضية سلماً إن أراد وحرباً إن شاء وأن يرفض التنازل مطلقاً مع رضى صاحب القضية (ابن صباح) به وكذا غيره من حكام المنطقة وربما قبل الصلح مطلقاً مع صدام؟
3- كيف نُوَفّق بين تقييد الضرورة زماناً ومكاناً وكمّاً وكيفاً وبين الواقع؟ فمن جهة الزمن لا تحديد لهم ولا يحدده إلا هم. والناس يعلمون أن الأميركا يستأجرون المجمعات السكنية وغيرها بعقود طويلة هذا مع قولهم أن الحرب قد تنشب قريباً. ومن جهة المكان هل تركوا مطاراً أو قاعدة عسكرية لم ينزلوها؟ ومن جهة الكم يسمع الناس كلهم أنهم كل يوم في ازدياد ألوفاً مؤلفة والأميركان وحدهم سيزيدون عن 400,000؟
ومن جهة الكيف هم أصحاب القضية وبيدهم زمام الموقف فلا يقال لهم كيف بل لا ندري أيقبلون أن يستعينوا بالجيوش العربية ولو في بعض الأمور أم لا؟
4- هل من الاستعانة أن يكون الجندي المسلم شبه أعزل والجندي الكافر المستعان به مدججاً بأحدث الأسلحة من رأسه إلى أخمص قدميه ويحسب الرصاصات على المسلم كلما دخل أو خرج؟
5- هل من الاستعانة أن يتحقق ما خطط له الأميركا منذ عشر سنوات وهو أن يكون للقوات السعودية والأميركية قيادة مشتركة ونظام اتصالات موحد ونظام انذار مبكر موحد بحيث أصبحتا وكأنهم شخصية معنوية واحدة؟
6- هل من الاستعانة أن تقوم الجيوش المستعان بها بعمل المتاريس والاستحكامات على المنشآت البترولية وشبهها ويبنون قواعد عسكرية داخل المدن ولسان حالهم يقول إنما نحرسها من أهلها؟
7- هل من الاستعانة ما صرحت به بعض دول الحلفاء الكبرى كفرنسا وروسيا من أنها لن تدخل الحرب إلا بمواققة مجلس الأمن الدولي أي دون نظر إلى رغبة دول المنطقة ورأيها؟
8- هل من الاستعانة أن يصرح المستعان بأن مهمته هي تغيير البلد المسلم المستعين لتصبح حياته على النمط الغربي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وخاصة ما يتعلق بالمرأة؟
واسمعوا إن شئتم اذاعة صوت أميركا واقرأوا صحفها كل يوم تقريباً؟
9- هل من الاستعانة أن تأتي إلى بلادنا جيوش لم نطلب نحن مجيئها وعونها وإنما طلبتها أميركا حتى أن الدولة التي تتلكأ تؤنبها أميركا والدولة التي تريد سحب جيوشها أو تبديلها تستأذن أميركا؟
10- هل من الاستعانة أن يكون من أغراض نزول القوات المستعان بها في أرض الإسلام حماية أمن دولة اليهود كما صرح بذلك زعماء أميركا (وللعلم نقول أن القائد العام لجيوش التحالف نورمان شوار سكوف يهودي)؟
11- هل من الاستعانة أن تطالعنا صحافة الدولة المستعان بها كل يوم بانتقاص هذه البلاد وتحقيرها والسخرية من دينها وشعبها وعلمائها وحكامها وهو ما لم تكن تفعله بهذه الكثرة من قبل (ومن ذلك ما نشرت التايم في 3 سبتمبر الماضي من أنهم علقوا شعاراً على أحد الخطوط السريعة في أميركا يقول: خذوا بترولهم واضربوا أدبارهم؟).
12- أيعقل أن يكون موقفنا أمام صدام أضعف من موقف اخواننا المجاهدين الأفغان أمام الروس ونحن أثرى بلد في العالم وشعبنا معدن الشجاعة في الدنيا وأرضنا قارّة؟ هذا وصدام لم يهاجمنا بل هو يردد أنه لم يفكر في ذلك أما الروس فقد ملكوا البلاد كلها بالفعل وحاربوا بأسلحة الدمار المحرمة دولياً بكل أنواعها ـ ما عدا النووي منها وكان مصيرهم ما يعلمه العالم كله؟
13- لقد استطاع المجرم صدام بناء أسوار هائلة من الرمال والحواجز والألغام تجعل اختراق الدبابات الأميركية المتطورة صعباً للغاية. أكان يعجزنا أن نفعل مثله لنصد به دباباته؟ أما سلاح الجو فأستطيع الجزم بتفوق جيشنا فيه.
14- ألم تستسلم عشرات من الدبابات العراقية للمملكة، ولولا الحواجز لتدفق المزيد؟ فلو كنا صادقين مع الله، معادين لأعداء الله، فاضحين لحزب البعث، مواسين لأخواننا المسلمين في العراق فيما يعانونه لاطمأنوا لنا، ولما كان دخولهم حدودنا لو أمر به صدام إلا استسلاماً لنا، بل ربما حولناهم إلى فاتحين للعراق محررين له من الكفر البعثي؟
15- وأخيراً نسأل: أليس وقوع ما حذر منه الناصحون وأخبر به الصادقون كما حذروا وأخبروا دليلاً على أن الرائد لا يكذب أهل فلماذا لا يتاح لهم فرصة المزيد من النصح والتحذير؟
الخاتمة
أصحاب الفضيلة:
كان موضوع هذه الرسالة كما رأيتم بيان الواقع لا بيان الحكم الشرعي الذي اختارُه وأرجحة فيه ـ مع أن كل ناظر منصف يعلم أنني متبع في رأيي للراجح من كلام الأئمة السابقين والقول الوحيد لمشايخنا المتأخرين ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في تابه «نقد القومية العربية» وفضيلة الشيخ صالح الفوزان في كتابه «الولاء والبراء» فضلاً عن فتاوي علماء الدعوة رحمهم الله أجمعين.
وكل علمائنا المعاصرين فيما أعلم يحرمون استقدام الكفار إلى جزيرة العرب عمالاً مستأجرين فكيف إذا كانوا حماة مستكبرين؟ ولا ريب عند كل مسمل أن الله تعالى إنما بعث محمداً r ليحارب المشركين لا ليحارب بهم، وأمره أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه، وهذا هو الأصل القطعي في المسألة، وكل نص جزئي يخالفه فلدينا جوابه ولله الحمد. ومع ذلك فقد كررتُ القول وما زلت أقول بالفرق بين الفتوى من الناحية الفقهية الخالصة أي حكم الاستعانة بالمشركين أياً كان القول فيها وبين تنزيلها على الواقع، أعني تجويز استقدام نصف مليون صليبي ويهودي إلى جزيرة العرب وهو ما نخشى ـ عياذاً بالله ـ أن يتحول إلى استكانة لأعداء الله لا استعانة بهم، وقد بدت بوادر ذلك تلوح. فقد يتفق من يقول بجواز الاتسعانة المشروطة ومن يقول بالتحريم مطلقاً ومن يجيز ذلك للضرورة على أن الواقع ليس استعانة أصلاً وذلك بناءاً على معرفة الحال وتبين مناط الحكم وهو ما أرجو أن تكون الرسالة قد أعطت صورة وافية عنه. والأمر إليكم بعد ذلك.
أما ما لا أعفي علماءنا منه بحال فهو بيان السبب الحقيقي في هذه المصيبة كما بيّن الله في كتباه وجرت به سنته في خلقه قديماً وحديثاً وهو أن ما أصابنا لم يكن إلا بما كسبت أيدينا واقترفنا من ذنوب وعصيان وخروج عن شرع الله ومجاهرة بما حرم الله ومالاة لأعداء الله وتهاون في حق الله وتقصير في دعوة الله، اشترك في الأمر الحاكم والمحكوم والعالم والجاهل والصغير والكبير والذكر والأنثى على تفاوت فيما بينهم إلا من رحم الله ممن هم قائمون بالحق عرضة للبلاء غرض للسهام من عالم وداعية وناصح.
ولقد ظهر الكفر والإلحاد في صحفنا وفشا المنكر في نوادينا ودعي إلى الزنا في اداعتنا وتلفزيوننا واستبحنا الربا حتى أن بنوك دول الكفر لا تبعد عن بيت الله الحرام إلا خطوات معدودات. أما التحاكم إلى الشرع ـ تلك الدعوة القديمة ـ فالحق أنه لم يبق للشريعة عندنا إلا ما يسميه أحصاب الطاغوت الوضعي الأحوال الشخصية وبعض الحدود التي غرضها ضبط الأمن (ومنذ أشهر لم نسمع شيئاً منها أقيم) ومع ذلك وضعنا الأغلال الثقيلة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصفدنا الدعوة الموعظة بالقيود المحكمة وهذا من استحكام الخذلان وشدة الهوان ]وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ[.
وهكذا جنينا ثمرة الصراع الذي استغرق تاريخَنا المعاصرَ كله بين مبدأين متناقضين هما:
1- مبدأ دولة العقيدة التي تجعل الجهاد غايتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفتها.
2- ومبدأ دولة الرفاهية التي تجعل الشهوات الدنيوية غايتها والتغريب وسيلتها.
وحين انحازت فلسفة التنمية وخططها إلى الأخير منهما ومل يبق للأول إلا شعارات اعلامية وهياكل تقليدية تتآكل مع الزمن كان لا بد أن تقع السنة الربانية «سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم» ووقعت النازلة فارتجف منا كل قلب وذهل كل لب بعد أن كنا منصورين بالرعب. واستيقظنا فإذا جيشنا الذي كان أيام سيادة المبدأ الأول (قبل سبعين سنة) أكثر من 400,000 مجاهد وعجزت أمهر الاستخبارات العالمية عن اختراقه لا يتجاوز اليوم خمس ذلك العدد وبينهم كثير من متبعي الشهوات ومضيعي الصلوات□
1991-11-06