الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
1989/08/06م
المقالات
3,806 زيارة
كانت بَيْعة العقبة الثانية (أي بيعة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم) في أوسط أيام التشريق أي في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة. وكانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بعد ذلك بحوالي ثلاثة أشهر، فقد قدم المدينة يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول.
وقد وضع الصحابة رضوان الله عليهم بدء التاريخ الهجري من أول شهر محرم، أي هو يسبق الهجرة بحوالي سبعين يوماً، ذلك لأنهم راعوْا بدء السنة التي حصلت فيها الهجرة وهي تبدأ ببدء شهر محرم.
وقد رأت «الوعي» أن تتحدث في عدد شهر محرم هذا عن أحكام الهجرة.
هل انقطعت الهجرة بعد فتح مكة، أو أن الهجرة باقية ما بقي قتال العدو؟
وما هو حكم الهجرة في أيامنا هذه، ومن أين تكون، وإلى أين؟
الهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا @ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً @ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا[ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا برئ من ككل مسلم يقيم بين مشركين، قالوا يا رسول الله ولم؟ قال لا تتراءى ناراهما» فالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية لم تنقطع. وأما ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: «لا هجرة بعد فتح مكة» وقوله: «لا هجرة بعد الفتح» وقوله: «قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونيَّة» وما رُوي أن صفوان بن أمية لما أسلم قيل له لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما جاء بك أبا وهب ؟ قال: قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر قال: ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة وقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونيِّة وإذا استنفرتم فانفروا». فإن ذلك كله نفي للهجرة بعد فتح مكة. إلاّ أن هذا النفي معلل بعلة شرعية تستنبط من الحديث نفسه، إذ قوله: «بعد فتح مكة» جاء على وجه يتضمن العلية، نظير قوله عليه السلام: «لا تنبذوا التمر والزبيب جميعاً» رواه ابن حبان فقوله: «جميعاً» جاء على وجه يتضمن العلية فكان علة النهي عن الانتباذ. فهو يعني أن فتح مكة هو علة نفي الهجرة. وهذا يعني أن هذه العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً ولا تختص بمكة بل فتح أي بلد، بدليل الرواية الأخرى «لا هجرة بعد الفتح». ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن عائشة، وسئلت هن الهجرة فقالت: «لا هجرة اليوم كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن. فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث يشاء» مما يدل على أن الهجرة كانت من المسلم قبل الفتح فراراً بدينه مخافة أن يفتن، ونفيت بعد الفتح لأنه صار قادراً على إظهار دينه والقيام بأحكام الإسلام. فيكون الفتح الذي يترتب عليه ذلك هو علة نفي الهجرة وليس فتح مكة وحدها. وعلى فإن ذلك يراد به لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح. وقوله عليه السلام لصفوان قد انقطعت يعني من مكة بعد أن فتحت، لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار ومن دار الكفر، فإذا فتح البلد وصار دار إسلام لم يبق بلد الكفار ولا دار كفر فلا تبقى فيه هجرة، وكذلك كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة. ويؤيد ذلك ما روى أحمد من طريق معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلق الشمس من المغرب» وروى أحمد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد» وفي رواية أخرى عنه «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» فدل ذلك على أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية لم تنقطع. أما حكم الهجرة فإنها تكون بالنسبة للقادر عليها فرضاً في بعض الحالات ومندوباً في الحالات الأخرى. أما الذي لم يقدر عليها فإن الله عفا عنه وهو غير مطالب بها، وذلك لعجزه عن الهجرة إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف، كالنساء والولدان وشبههم كما جاء في ختام آية الهجرة.
فمن كان قادراً على الهجرة ولم يستطع إظهار دينه، ولا القيام بأحكام الإسلام المطلوبة منه فإن الهجرة فرض عليه، لما ورد في آية الهجرة قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[ فالإخبار هنا يعني الأمر، وهو من صيغ الطلب، كأنه قال هاجروا فيها، والطلب هنا في هذه الآية اقترن بالتأكيد واقترن بالوعيد الشديد على ترك الهجرة فهو طلب جاز، مما يدل على أن الهجرة في هذه الحالة فرض على المسلم يأثم إذا لم يهاجر. أما من كان قادراً على الهجرة ولكنه يستطيع إظهار دينه، والقيام بأحكام الشرع المطلوبة منه فإن الهجرة في هذه الحال مندوبة وليست فرضاً. أما كونها مندوبة فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُرغب في الهجرة من مكة قبل الفتح حيث كانت دار كفر، وقد جاءت آيات صريحة في ذلك قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ وقال: ]الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ[ وقال: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ( وقال: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ[ وهذا كله صريح في طلب الهجرة. وأما كونها ليست فرضاً فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقر من بقي في مكة من المسلمين. فقد رُوي أن نُعيم النحَّام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له أقم عندنا وأنت على دينك، ونحن نمنعك عمن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا. وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قومك كانوا خيراً لك من قومي لي. قومي أخرجوني وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك فقال: يا رسول الله بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله.
وهذا كله في دار الكفر أي دار الحرب من حيث هي بغض النظر عن كون سكانها مسلمين أو كفاراً، لأن الدار لا يختلف حكمها بالسكان، بل يختلف بالنظام الذي تحكم به، وبالأمان الذي يأمن أهلها به. وعلى ذلك لا فرق بين أندونيسيا والقفقاس، ولا بين الصومال واليونان.
إلاّ أن الذي يستطيع إظهار دينه والقيام بأحكام الشرع المطلوبة إذا كان يملك القدرة على تحويل دار الكفر التي يسكنها إلى دار إسلام، فإنه يحرم عليه في هذه الحال أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، سواء أكان يملك القدرة بذاته أم بتكتله مع المسلمين الذين في بلاده، أم بالاستعانة بمسلمين من خارج بلاده، أم بالتعاون مع الدولة الإسلامية، أم بأية وسيلة من الوسائل، فإنه يجب عليه أن يعمل لجعل دار الكفر دار إسلام، وتحرم عليه حينئذ الهجرة منها. والدليل على ذلك أن البلاد التي يعيش فيها إن كان يسكنها كفار وتحكم بالكفر، فقد وجب على المسلمين قتال أهلها حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ويحكموا بالإسلام، ووجب عليه هو أيضاً، بوصفه مسلماً من المسلمين وباعتباره ممن يليهم الكفار وممن هو أقرب إلى العدو. وإن كان يسكنها مسلمون، ويحكمون بغير الإسلام، أي بنظام الكفر، فقد وجب على المسلمين قتال حكامها حتى يحكموا بالإسلام، ووجب عليه هو باعتباره واحداً من هؤلاء المسلمين الذين يُحكمون بالكفر، فهو على أي حال قد وجب عليه القتال والاستعداد للقتال إن كان قادراً عليه. والمسلم الذي يعيش في دار الكفر لا تخرج حالة عن هاتين الحالتين، فهو إما ممن وجب عليه جهاد الكفار الذين يلونه، وإما ممن وجب عليه قتال الحاكم الذي يحكم بالكفر، وفي الحالتين يعتبر خروجه من دار الكفر التي تحكم بغير الإسلام، أي بالكفر، فراراً من الجهاد من مكان وجب عليه فيه، أو فراراً من مقاتلة من يحكم بالكفر، وكلاهما إثم عند الله كبير، ولذلك لا يجوز لمن كان قادراً على تحويل دار الكفر إلى دار إسلام أن يهاجر منها ما دام يملك القدرة على تحويلها إلى دار إسلام، وتستوي في ذلك تركيا وأسبانيا ومصر وألبانيا بلا فرق بينها ما دامت تحكم بنظام كفر.
من كتاب «الشخصية الاسلامية» ج2
للامام تقي الدين النبهاني
1989-08-06