أبحاث إسلامية الإمام الجويني: نافذة على علم الكلام
1989/01/05م
المقالات
4,441 زيارة
بقلم: أحمد فضل
بعد قراءتي لكتاب «إمام الحرمين» للمؤلف الدكتور محمد الزحيلي، انقل بعض المقتطفات الواردة في الفصل الثالث منه «إمام الحرمين وعلم الكلام»، لنستفيد منها عدة عبر ونستخلص بعض الحقائق من خلالها، ومما يجوز التنبيه إليه، أن إمام الحرمين «الجويني» كان من كبار علماء الكلام. وكان ينسب إلى الأشاعرة على أغلب الأقوال، وإن نفى بعضهم ذلك، لأسباب ستمرّ لاحقاً، وكان يعتبر من كبار أئمة أهل السنة والجماعة.
يقول المؤلف أثناء تعريف بكتاب «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد»، الذي يعتبر من أهم كتب إمام الحرمين في أصول الدين وعلم الكلام:
«وبدأ إمام الحرمين كتابه في مسائل الكلام بإثبات حدوث العالم للتدرج بالقارئ إلى وجود المحدِث، وهو الله تعالى، مع شرح المصطلحات الكلامية، ثم انتقل إلى الكلام عن الله تعالى وصفاته، مبتدئاً بالصفات الواجبة لله تعالى، كالقدم وقيامه بنفسه، ومخالفته للحوادث، ما يستحيل على الله تعالى. بأنه ليس جسماً، وهنا يرد إمام الحرمين على دعة التجسيم والتشبيه، ثم يرد على النصارى، ويتعرض خلال ذلك لمسألة الاستواء على العرش، ويفسره بمعنى القهر والغلبة والعلو…» ص 101.
«وانتقل لشرح معاني أسماء الله الحسنى، وعرض بعض الصفات التي وردت في القرآن الكريم، كاليدين والعينين والوجه، واختار قول المتأخرين، أن الصحيح حملها على التأويل، بالقدرة والبصر والوجود، وناقش أقوال المخالفين…» ص 101.
ويقول المؤلف في تعريفه بكتاب «العقيدة النظامية» لإمام الحرمين:
«بيّن الشيخ الكوثري رحمه الله في المقدمة ـ أي مقدمة كتاب «العقيدة النظامية» ـ فضل علم أصول الدين وعلم الكلام وشرفه وجدواه لأن معلومه يتعلق بالإيمان واليقين، وصون عقائد المسلمين من الشكوك، مبيناً منهج السلف فيه «الاقتصاد في المعقول والاقتصار على ما في الكتاب والسنة من الأدلة جرياً مع حاجة الزمن»، ولما استفحل شر الفتن، واتسعت الفتوحات وكثر الاتصال بأرباب الأديان والنحل وصنوف أهل الأهواء والملل، أوجب ذلك الرد على أهوائهم «بطرق عقلية يعترفون بها، ويخضعون لأحكامها» وهو ما فعله الخلف في هذا العلم، وليس ذلك تطوراً في عقيدة الإسلام أصلاً في صميمها، لكنه تطور في طريق الدفاع عنها، ثم بيّن الكوثري مكانه إمام الحرمين في هذا المضمار، وأن له القدْحُ المعلّى فيه، وأن مؤلفاته همزة وصل بين منهجي السلف والخلف» ص 107.
«ويحتوي كتاب العقيدة النظامية ـ وهو أهم كتب إمام الحرمين في علم الكلام ـ على تمهيد من نقطتين: القول فيما تجب معرفته في قاعدة الدين، وباب في حدوث العلام، ثم يبين إمام الحرمين خطة الكتاب بعنوان: «فصل في ترتيب تراجم العقائد» وحصره في ثلاثة أبواب. باب العلم بأحكام الإله، فأثبت العلم بالمصانع، ثم تكلم عما يستحيل على الله تعالى، وفيما يجب له من الصفات، وفيما يجز في أحكام الله تعالى. والباب الثاني في مناط التكليف من صفات العباد. والباب الثالث في النبوات التي بها تتصل الأوامر التكليفية بالعباد، وبها ترتبط الأمور السمعية والغيبيات في الحشر والنشر والوعد والوعيد المشعرين بالثواب والعقاب، وغير ذلك مما أنبأ به المرسلون، وأخبر به الصادقون» ص 109.
ويقول المؤلف في بسط آراء إمام الحرمين في علم الكلام:
«وبالغ ـ أي الإمام ـ في دراسة علم الكلام وصنف الكتب الكثيرة فيه، وخاض المناظرات الدائمة في حياته، وكان يقول: «لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وخضت في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد والآن رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز» ص 113. ونلفت نظر القراء إلى خطأ هذه العبارة، فإن دين العجائز يكون غالباً بالتقليد حيث لا يجوز التقليد. ثم يقول المؤلف بعد ذلك:
«وكان الأشاعرة يحملون لواء الدفاع عن الإسلام وعقائد المسلمين في ذلك العصر، ويمثلون مذهب أهل السنة والجماعة، وتوسطوا في الأسلوب والوسائل بين تطرف المعتزلة، وبين أهل الظاهر وكثير من العلماء الذي آثروا السلامة في الصراع الفكري، والتزموا جادّة النصوص والأدلة النقلية ورفضوا الخوض في الجدال والمناظرة، بينما حمل الأشاعرة واجب الدعوة، وتصدوا لشطط المعتزلة، ووقفوا في وجه الفلسفات الوافدة، والانحرافات المتعمدة، والشبه المنتشرة، وانخرط إمام الحرمين في مدرسة الأشاعرة، وسار في كتبه وتدريسه على طريقه الأشعرية في علم الكلام…» ص 114.
«ولم يكن إمام الحرمين مجرد ناقل لآراء المذهب الأشعري، بل تمتع بشخصية مستقلة، واجتهادات كثيرة، وكان يحلل الآراء وينقدها، ليقبل ما يراه حقاً، ويرفض ما يراه باطلاً، مما يعتبر تجديداً في المذهب، لا تقليداً فيه، وقد أحكم طريقة الجدل الهادف، متعمداً على استخدام العقل في فهم النصوص القرآنية. فأخذ يستنبط من هذه النصوص ـ بعد تحليلها وفهمها ـ المقدمات مرتباً الواحدة تلو الأخرى، واعتبرت كتبه بداية عصر جديد في علم الكلام من ناحية الأسلوب والعرض والتحليل والاستنباط والجمع بين المنقول والمعقول، والاعتماد على النصوص النقلية والحجج العقلية، مما أوصله إلى آراء مستقلة، واجتهادات فريدة، وأقوال مبتكرة، وهو ما دعاه لمخالفة بعض الآراء والأقوال في مذهب الأشاعرة، وبيان ضعفها، وتقديم البديل الصحيح لها، ومحاولته تأويلها بما يتفق مع منهجه في الدراسة والاستدلال، وهذا ما دعا بعض العلماء إلى وصف إمام الحرمين بأنه لم يكن أشعرياً، لأنه يقول: فعل العبد بقدرة العبد مستقلة، ولا كسب. فلهذا كانت نسبته إليهم دعوى، وله كلام في إثبات القدرة، وتضعيف قول الأشعرية» ص 115.
ومن الآراء التي أثيرت على إمام الحرمين قوله في صفات الله تعالى التي وردت في القرآن، كاليد والعين والاستواء، وقوله فيها بالتأويل، ثم رجوعه عن رأيه في آخر كتبه إلى قول السلف بالتفويض وهو ما صرح به نفسه فقال:
«قد اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه افهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزام هذا المنهج في آي الكتاب وفيما صح من سنن النبي ﷺ،وذهبت أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه، …، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقداً، اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب النبي ﷺ على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما، وهم صنوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة» ص 117.
ومما ينقله كثير من العلماء، أن الجويني رجع عن رأيه في علم الكلام، وأنه ندم على اشتغاله به، وأنه قال عند تناثر أسنانه في مرض موته:
«هذه اشتغالي بالكلام، فاحذروه» وأنه قال: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو علمت أن الكلام يبلغ إلى ما بلغ ما اشتغلت به» وأنه قال: «والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق: عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطف بره، وإلا فالويل لابن الجويني» ـ يقصد نفسه ـ.
من هذه المعلومات المتعلقة بمؤلفات إمام الحرمين وآرائه، نستطيع أن نستخلص حقائق مهمة وعديدة، وأغلبها يدور حول علم الكلام.
أولاً: ماهية علم الكلام:-
عندما نطلق لفظ «علم الكلام» عادة، فإننا نقصد به «التكلم في بعض العقائد الإسلامية والنقلية الغيبية بالعقل، وبالأخص على طريق المنطق». وقد عرف أول ما عرف بهذا المدلول، ويدل على ذلك أيضاً، أنه سمي بهذا الاسم لأن أول بحث فيه هو البحث في القرآن الذي هو كلام الله، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ ومن هنا نشأت هذه التسمية على رأي البعض. ولذلك اعتبرناه علماً فاسداً مخالفاً لطريقة الإسلام في البحث، إذ أنه إقحام للعقل فيما ليس هو أهله، وفيما هو فوق طاقته مما يؤدي إلى نتائج وهمية ظنية أغلب الأحيان، إذ أن العقل ـ تبعاً لتعريفه وواقعه ـ لا يستطيع البحث في غير المحسوسات، والعقائد الغيبية ـ ومن أهمها الاعتقاد بصفات الله تعالى الغيبية ـ لا يمكن للعقل التوصل إليها إلا عن طريق الخبر الصادق الصحيح. لذلك كان حكم الأئمة العلماء والفقهاء، بادئ الأمر شديداً على علم الكلام، إذ أنهم أدركوا الأوهام والأضاليل التي سيؤدي إليها.
ولكن الذي أود التنويه إليه ـ وهو ما يستفاد من النصوص السابقة الذكر عن الإمام الجويني ـ أن لفظ «علم الكلام»، أصبح فيما بعد يطلق على غير المدلول الذي سبق ذكره، أو عليه وعلى غيره معاً، فقد اصبح يطلق، لدى البعض، على كل بحث عقلي يتعلق بالعقائد، سواء أكان البحث في العقائد الغيبية التي لا يجوز أن يكون العقل حكماً فيها، كموضوع الصفات الغيبية، كالكلام والسمع والبصر والاستواء والذات والقدر، أو كان البحث في العقائد الحسية كإثبات حدوث العالم وبالتالي إثبات وجود الخالق، وكبحث القضاء والقدر، وكبحث إثبات أن القرآن من عند الله، وغيرها من العقائد.
وهذا الأمر يتضح من طبيعة مؤلفات علماء الكلام، ومنهم الجويني، حيث سمّوا كلاً من القسمين من العقائد بعلم الكلام، كما سمّوه أيضاً بعلم التوحيد، وعلم أصول الدين. ولعل هذا الخلط قد تسبب عن عدم التفريق بين ما يجوز للعقل الحكم عليه، وما لا يجوز له الحكم عليه، نتيجة عدم معرفتهم لواقع العقل.
لذلك، من الخطأ أن نحكم على بعض الأبحاث بالفساد، لمجرد تسميتها من قبل البعض بعلم الكلام، أو لمجرد ورودها في كتب علم الكلام، فهناك أبحاث في العقائد، تعد من المحسوسات التي يجوز للعقل الحكم عليها، بل أرشد القرآن إلى وجوب تحكيم العقل فيها لأنها لا تثبت بشكل جازم إلا عن طريق العقل، والإسلام حرّم الظن في العقائد، فكان لا بد من تحكيم العقل من أجل التوصل إلى التصديق اليقيني الجازم في العقائد ذات الدليل العقلي.
فمثلاً، إذا نظرنا إلى أبحاث إمام الحرمين في كتابه «الإرشاد»، حسب ما مرّ سابقاً، لوجدنا بعض الأبحاث العقائدية العقلية التي شرعها الإسلام، فالبحث في مسألة «إثبات حدوث العالم للوصول إلى وجود المحدث» هو بحث شرعي، ولقد بحثناه في بعض كتبنا تحت عنوان «طريق الإيمان» حيث أثبتنا عدم أزلية الكون وأنه محتاج لمن أوجده وهو الله تعالى. وبحث مسألة «القِدَم» بالنسبة لله تعالى، هو أيضاً بحث شرعي بحثناه أيضاً حيث قلنا أن الخالق يتحتم أن يكون أزلياً وغلا لم يكن خالقاً ولكان مخلوقاً. وكذلك بحث «القيام بالنفس» بالنسبة لله تعالى، وبمعنى أن الخالق لا يمكن أن يكون محتاجاً لغيره.
بينما، بحث الاستواء، وبحث اليدين والعينين والوجه، هذه أبحاث غيبية من بين العقائد لا يجوز الحكم عليها بواسطة العقل.
ولهل هذا الخلط بين العقائد العقلية والعقائد النقلية، ولعل إطلاق تسمية «علم الكلام» على علي القسمين، هو الذي أدى فيما بعد إلى تفاوت مواقف العلماء من علم الكلام. فنراهم بين متطرف في الدفاع عنه، وبين مقابل له في الهجوم عليه، وبين من لا يحسم الأمر لا بالدفاع عنه ولا بالهجوم عليه.
لذلك، فإنه يجب ـ حين التحدث عن علم الكلام ونقضه ـ تحديد مدلوله، وموضوعات بحثه، حتى يحسم الأمر بردّه نهائياً، أنه بحث عقلي فيما لا يجوز بحثه بالعقل. ويجب أن يكون واضحاً لدى المسلمين ماهية علم الكلام حتى يدركوا سبب مهاجمتنا هل وأبطالنا لمشروعيته.
ومما يجدر التنويه إليه، ما كان عليه الفريقان المعروفان بأهل السلف وأهل الخلف، من كونهما على طرفي نفيض في البحث. وأقصد بأهل السلف هنا، العلماء الذين اعتبروا أنفسهم على طريقة الصحابة في كيفية أخذ العقيدة، ولا أقصد الصحابة أنفسهم أو تابعيهم.
فإننا إذا نظرنا إلى كل فريق منهما على حدة لوجدناه متطرفاً في طريقة بحثه بالنسبة للآخر. فأهل الخلف، افرطوا في الاستدلال على العقائد بالعل، سواء العقلية منها أو النقلية، فبذلوا جهدهم في الإتيان بدليل عقلي على كل فكر عقائدي. وأهل السلف، فرطوا في الاستدلال بالعقل على العقائد العقلية، حيث حاولوا أن يستغنوا عن العقل، بأن يستدلوا على كل العقائد بالنقل، سواء العقلية منها والنقلية، حتى أنهم اعتبروا أن مسألة «القضاء والقدر» هي نفسها مسألة «القدر»، حتى لا يخرجوا عن إطار البحث النقلي، مع أن هذا ليس منهج القرآن ولا السنة ولا الصحابة ولا السلف.
فالأحرى بنا أن نقول أن منهجنا هو منهج القرآن في بحث العقائد، وهو أن تبحث العقائد الحسية المعقولة بالعقل، والعقائد الغيبية المنقولة بالنقل الصحيح، فهذا التحديد، هو التحديد المنضبط.
ولا يصح أن نفاضل بين منهج أهل الخلف ومنهج أهل السلف، كما يفاضل بين مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة، كأن نقول «منهج السلف أسلم ومنهج الخلف أعلم وأحكم» وما شاكل ذلك، وإلا لأدى ذلك على اعتبار أن الإسلام سمح بأكثر من منهج في أخذ العقائد، وللمسلم أن يختار المنهج الأقرب للصواب. مع أن منهج الإسلام في أخذ العقائد واحد ثابت لا يتغير، وإن شذ وتاه بعض الناس أمثال أهل الكلام.
ثانياً: أهل السنة والجماعة:-
من الانطباعات الشائعة اليوم، أن كلمة «أهل السنة والجماعة»، عندما تطلق فإنه يراد بها، أهل الحق، أو أهل الفهم السليم والمنهج الصحيح من المسلمين، لذلك من الملاحظ أن الفرق الكلامية التي تنشأ في أيامنا هذه، وتدّعي كل واحدة منها كونها مذهب أهل السنة والجماعة، وقد تجد فرقتين كلاميتين تكون الواحدة على الطرف النقيض للأخرى، وكلتاهما تدعي أنها على مذهب أهل السنة والجماعة.
وإذا نظرنا إلى ابتداء استعمال هذا التعبير، لوجدناه أطلق على العلماء الذين قاموا للرد على المذاهب الكلامية، بشقيّها الجبرية والمعتزلة، حيث توصل هذان المذهبان إلى آراء متناقضة. فقال الجبرية أن الإنسان مسيّر ومجبر على كل فعل يقوم به ولا شأن لإرادته وقدرته في فعله وأن الله مستقل بخلق الأفعال. وهؤلاء قد خرجوا بهذا الرأي رداً على المعتزلة الذين اعتبروا الإنسان مخيراً بأفعاله، وهو الذي يخلقها بإرادته وفعله ويخلق ما تولد عنها، وكان الفريقان في بحثهما ينتهجان طريقة المنطق وعلم الكلام، ويتناولان فعل الإنسان من زاوية صفات الله تعالى.
فقام فريق ثالث من العلماء، وأردوا الرد على الطرفين، فتوصل إلى نتيجة تتوسط ما توصل إليه الفريقان السابقان. وذلك بواسطة علم الكلام أيضاً. وسمّوا أنفسهم أهل السنة والجماعة، وكان على رأسهم أبو الحسن الأشعري والماتريدي، ثم جاء من بعدهما الباقلاني والاسفراييني والجويني والغزالي، وقد اعتبروا حاملي لواء أهل السنة والجماعة، ولا يخفي على أحد أنهم كانوا جميعاً من رواد أهل الكلام، وإن تراجع أكثرهم عنه، وكانوا يُعرفون بالأشاعرة.
وعندما أطلقنا عبارة أهل السنة والجماعة في بحثنا المتعلق بالقضاء والقدر، واعتبرناهم كلاميين، أردنا بهم هؤلاء العلماء من أهل الكلام الذين شاركوا الجبرية والمعتزلة في منهجهم، وإن خالفوهم في النتائج التي توصلوا إليها. وليس المقصود السلف الصالح ومن هو على دربهم كالشافعي ومالك وأمثالهما.
ثالثاً: مشكلة التأويل:-
أن مشكلة تأويل بعض الصفات بقصد التنزيه، كانت موجودة لدى كثير من العلماء ـ وإن تراجع عنها الكثير منهم ـ وبالتالي فلقد كانت موجودة لدى كثير من المسلمين بحكم اتباعهم لمشايخهم وأئمتهم، فالإمام الجويني مثلاً كان وراء قسم من الناس لا يستهان بهم من حيث العدد، وكذلك غيره من العلماء والأئمة الذين بحثوا في علم الكلام وخاضوا فيه.
وقد أوردت هذه الملاحظة، لألفت النظر إلى أن هذه المشكلة ليست جديدة حيث نعاني منها اليوم، فلقد كانت موجودة على مستوى عريض، وما يجدر التنبيه غليه هو أن أهل الصواب والواعين من العلماء، لم يقابلوا هذه الموجة بالتكفير لمن اشتغل بالتأويل، كما يفعل الكثير اليوم بحجة التعطيل وما شابه، بل ركزوا على إبطال المنهج الذي وصل بالمؤولين إلى ما وصلوا إليه، حيث هاجموا علم الكلام، وتحكمي العقل في صفات الله تعالى. ولم يقفوا موقف التكفير والتضليل، لأنهم أدركوا أن علماء الكلام كانوا ينطلقون بكلامهم بهدف إثبات العقائد الإسلامية وبهدف تنزيه الله تعالى، فكان ذلك شبهة لهم. علاوة على أنهم لم يخالفوا القطعي من العقائد، إذ أن ما أوّلوه لم يكن قطعي الدلالة، وإلا لم يمكن تأويله.
لذلك عندما نريد أن نصوّب ن يتكلم في صفات الله تعالى بالعقل ويؤولها حسب ما يراه تنزيها، فإن التصويب لا يكون بمناقشة النتيجة التي وصل إليها، بل بمناقضة المنهج الذي أوصل إلى هذه النتيجة.
فعلى سبيل المثال، إذا أردنا أن نرد على القائلين بخلق القرآن، لا يجوز أن يكون ردنا عليهم بمناقشة رأيهم من حيث هل هو صحيح أم أخطأ، بل الرد يكن بإبطال المنهج الذي أوصلهم إلى ما وصلوا إليه. فمنهجهم هو كالتالي: «القرآن لغة عربية، واللغة العربية مخلوقة، إذن فالقرآن مخلوق» وإذا أراد البعض أن يناقش النتيجة التي توصلوا إليها وأن يردها لقال: «القرآن كلام الله، وكلام الله من صفاته، إذن فالقرآن أزلي غير مخلوق». فالذي ناقش النتيجة هنا وقع في نفس الخطأ، وهو أنه انتهج المنطق للتوصل إلى فكر عقائدي.
والرد الصحيح على الفريقين، يكون بإبطال المنهج الذي انطلقوا من خلاله وعدم مناقشة النتيجة، لأنها ليست مما طلبت الشريعة بحثه والخوض فيه.
رابعاً: آراء أهل السنة والجماعة اجتهادية ظنية:-
إن بعض آراء إمام الحرمين الجويني ما يلفت النظر إلى أوضاع فكرية كانت موجودة بين أهل الكلام، ومن بينها ما نوه إليه الكاتب من مخالفة الإمام الجويني للأشاعرة في موضوع الكسب، حيث نفى هذه الفكرة، وأكد على أن الإنسان مستقل بفعله وقدرته، في حين أن الأشاعرة قالوا بأن الإنسان كاسب لأفعاله، ويقصدون بذلك أن الإنسان عندما يريد أن يقدم على فعل ما، فإن الله سبحانه يخلق الفعل على يديه عند ذلك، أو أن الله عز وجل أجرى العادة في خلق الأفعال عند إرادة العبد وعزمه على الفعل.
فهذه المخالفة من الإمام الجويني للأشاعرة، على الرغم من كونه من كبار الأشاعرة، تزيد التأكيد على أن بحث أهل السنة والجماعة لمسألة القضاء والقدر واهٍ، شأنهم في ذلك شأن الجبرية والمعتزلة، بدليل أن ما توصلوا إليه لم يكن قطعياً، حيث خالفهم الإمام الجويني وغيره من الأئمة.
خامساً: التأويل والأخذ بالظاهر، كلاهما خطأ، والصواب التفويض:-
إن تراجع الإمام الجويني عن آرائه في التأويل لبعض الصفات الواردة في القرآن والسنة، كاليد والعين والاستواء، إلى التفويض، وهو من كبار علماء أهل السنة والجماعة، ليزيدنا قناعة بما توصلنا إليه من أن الصفات تؤخذ كما وردت دون أي تأويل أو تفصيل.
وما يجدر التنويه إليه، هو أن إمام الحرمين، لم يتراجع عن التأويل إلى الأخذ بالظاهر، فبعد أن أوّل مسألة اليدين والعينين والوجه، بالقدرة والبصر والوجود، ومسألة الاستواء بالقهر والغلبة والعلو، لم يرجع إلى القول بأن الله له يد وله عين وله وجه، وأن الاستواء هو العلو والارتفاع أو الجلوس أو ما شاكل ذلك، بل رجع عن كل آرائه إلى التفويض. والتفويض شيء، والأخذ بالظاهر شيء آخر، حيث قال: «وذهبت أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه، والذي نرتضيه رأياً وندين به عقداً، اتباع سلف الأمة فالأولى الاتباع وترك الابتداع.…
وهذا الذي توصل إليه الجويني هو الصواب، لأن الأخذ بالظاهر كالأخذ بالتأويل، من حيث أن كلا المعنيين محتمل. قال الغزالي في المستصفى عن الظاهر: «هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع..» وقال الآمدي في الأحكام: «اللفظ الظاهر ما دل على معنى بالوضع الأصلي، أو العرفي، يحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً».
صحيح أن الظاهر ارجح من التأويل ومقدم عليه، ولكن هذا لا ينفي احتمال أن يكون المعنى الذي إليه آل التأويل هو الصواب، لعدم وجود القرينة القاطعة التي ترجح أحد المعنيين على الآخر. بخلاف ما إذا وجدت قرينة قطعية تدل على أحد المعنيين، فعند ئذ يؤخذ بالمعنى المقطوع به، سواء أكان ظاهراً أم مؤولاً.
ونحن مطالبون بتقديم المعنى الظاهر، فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، ولو لم يكن الظاهر قطعياً، وذلك لأننا مكلفون بالعمل بمقتضى الظن، ولو بما غلب على الظن، ولأن الظاهر هو المقدم. إلا أننا قد نعدل عن الظاهر إلى المؤول لوجود قرينة تصرف المعنى عن الظاهر ولو لم تكن قطعية. قال الآمدي: «وأما التأويل المقبل الصحيح فهو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده»، قوال الغزالي: «التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من احتمال يعضده»، وقال الغزالي: «التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر». وأما في العقائد فنحن مكلفون بالتصديق الجازم أي بالقطع، وهو لا يتأتى بالاجتهاد والمفاضلة بين الظاهر والمؤول إليه.
وقد يقول قائل: «المفاضلة والترجيح مطلوبان، لا للاعتقاد بالمعنى جزماً، بل لمجرد التصديق به، كما أننا نصدق بخبر الآحاد مع كونه ظنياً»، فنقول، منهج الرسول مع صحابته هو عدم البحث والتفصيل في المتشابه من آيات الصفات، فلا يجوز الغوص فيها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته» أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ونقل عن الإمام مالك قوله: «فأما الكلام في دين الله وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إليّ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل» وقال ابن عبد البَرّ: «ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله أو صح عن رسول الله ﷺ أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه». وقد نقل عن كثير من العلماء والفقهاء إزاء أحاديث الصفات قولهم: «أمروها كما جاءت». وقال ابن عبد البر رحمه الله: «رواها السلف وسكتوا عنها، وهم كانوا أعمق الناس علماً وأوسعهم فهماً وأقلهم تكلفاً، ولم يكن سكوتهم عن عي، فمن لم يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر».
وعلاوة على أننا نقول أن البحث في المتشابه من النصوص المتعلقة بالصفات لا يجوز، فإننا نقول:
إذا بحث البعض في الصفات وفسّروها، بأن أخذوا بظواهر النصوص أو أوّلوها، فلا يجوز لهم تكفير مخالفيهم ممن اشتغلوا معهم بالتأويل أو الأخذ بالظواهر، ذلك أن كلا منهم يتوصل إلى نتائج ظنية محتملة، فلا قطع مع الاحتمال. والتفكير لا يتوجه إلا لمن خالف قطعياً من الدين.
سادساً: تراجع أكثرهم عن علم الكلام:-
وإن أهم ما في حياة الإمام الجويني رحمه الله تعالى، هو تراجعه عن علم الكلام كغيره من الأئمة والعلماء الأفذاذ، حيث لمسوا بأنفسهم خطورته وضرره الكبير على الثقافة الإسلامية، وعلى عقول الناس ونفسياتهم وبالتالي على سلوكهم.
فلمن بهره علم الكلام نقول، هؤلاء هم روّاد، وهما هم يفرّون منه كما يفر المرء من النار، وقلّما يسلم من الزلل من دخل باب علم الكلام، وليس المخاطر بمحمود ولو سلم، والمؤمن يتعظ مما يراه، فهو كيّس فطن كما وصفه عليه وعلى آله وصحبه السلام.
والله تعالى أعلم وأحكم.
جامعة الإمام الأوزاعي الإسلامية
طلب أعضاء هيئة التدريس
يعلن وقف المركز الإسلامي للتربية عن حاجته للتعاقد مع أساتذة من العاملين في الجامعات العربية والإسلامية والأجنبية وغيرهم من حملة الدكتوراه للعمل في كلياته المختلفة في لبنان، وذلك تدريساً وإشرافاً على الأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه، وكذلك للعمل في مراكز التدريس التي سيتم إنشاؤها في العالم العربي والإسلامي والمهجري مستقبلاً. وذلك ابتداءً من العام الجامعي 1409/ 1410هـ الموافق 1989/1990م.
والكليات هي:-
(1) كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية ـ بدأت التدريس عام 1400هـ الموافق 1979م ـ وهي تمنح درجات الليسانس والماجستير والدكتوراه. وتعنى الكلية بتدريس الإسلام ودراسته من نواحيه المختلفة.
(2) كلية إدارة الأعمال الإسلامية ـ بدأت التدريس عام 1409هـ الموافق 1988م ـ وهي تمنح درجات الليسانس والماجستير والدكتوراه. وتعنى الكلية بدراسة علوم إدارة الأعمال وما يتصل بها من منظار إسلامي.
(3) كلية التكنولوجيا ـ مشروع مستقبلي ـ وهي ستمنح درجات الماجستير والدكتوراه. والكيلة ستعنى بمواضيع إدارة ونقل وتطبيق تكنولوجيا موائمة وملائمة للبيئة في مختلف الميادين الحياتية والصناعية والإنسانية.
(4) كلية الفنون ـ مشروع مستقبلي ـ وهي ستمنح درجات الماجستير والدكتوراه. وهي ستعنى بمواضيع الآثار والعمارة والإسلامية، والفنون الحرفية، والفنون الغذائية، وتاريخ العلوم والحضارة الإسلامية.
(5) كلية التربية ـ مشروع مستقبلي ـ وهي ستمنح درجات الماجستير والدكتوراه. والكلية ستعنى بمواضيع التربية عامة، والتربية الإسلامية، والإعلام والصحافة الرسالية.
ترسل الطلبات من التاريخ العلمي للمرشح إلى:
وقف المركز الإسلامية للتربية ـ مشروع جامعة الإمام الأوزاعي
ص.ب 5335 ـ 14 بيروت ـ لبنان
أو إلى: NICOSIA,CYPRUS C\O P.O.BOX 7123
1989-01-05