مفهوم الوطنية
1988/12/05م
المقالات
2,604 زيارة
بقلم: أنس الشامي
يخطئ كثيرٌ من المسلمين اليوم ـ مجتهدين ومقلدين وعوام ـ في فهم الإسلام أو في فهم بعض مفاهيمه نتيجة لغياب تحكم الإسلام على الأرض بشكل دولة ومجتمع إسلامي. أو نتيجة تأثير الواقع عليهم ورضوخهم له. مثل مفهوم القومية مستنبطين حكمهم هذا من أن القرآن عربي والرسول عليه الصلاة والسلام عربي، أو مفهوم الديمقراطية لأن الإسلام حث على الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ومن هذه الآية ومثيلاتها استنبطوا الحكم وهو أن الديمقراطية من الإسلام… ما أغرب هذا الاستنباط فطريقة الإسلام في استنباط الأحكام الشرعية هي فهم الواقع فهماً دقيقاً وفهم النصوص فهماً دقيقاً وإنزالها على الواقع. فمثلاً حين نريد معرفة حكم الإسلام في الديمقراطية يجب علينا أن نفهم واقع الديمقراطية وما هي بكل أسسها وتفاصيلها ونفهم الشورى في الإسلام ما هي وما هو واقعها كما دلت عليه النصوص الشرعية وبعدها يتبين لنا الحكم وهو أن الشورى غير الديمقراطية بل وتخالفها ولا تتفق معها. ومن هذه المفاهيم التي أخطئ فهمها واعتبرت من الإسلام مفهوم ـ الوطنية ـ فمعظم العلماء بعد غزو القيادة الفكرية الرأسمالية للبلاد الإسلامية وتأثرهم بها نادوا بالوطنية وأفتوا جهلاً بأنها لا تخالف الإسلام بل وقالوا بأنه يؤيدها، بل هي جزء من الإسلام..!!
متى تظهر الوطنية
الوطنية: هي الرابطة التي تنشأ بين مجموعة من الأفراد لمجرد عيشهم على أرض واحدة. فيتكتلون على شكل قطيع متمركز على قطعة أرض وجدوا عليها. وهذه الرابطة تنشأ بين الناس الذين يعيشون على أرض واحدة كلما انحط الفكر وظهر مؤثر خارجي ـ اعتداء أجنبي أو تهديد بالاستيلاء على الأرض التي يعيشون عليها ـ فتأخذهم هذه الغريزة «البقاء» بالدفاع عن النفس وتحملهم على الدفاع عن البلد أو الأرض التي يعيشون عليها. ومتى سلم الوطن وزال الخطر انتهى عملها. قلنا أنها تنشأ كلما انحط الفكر، أي لا تظهر إلا في الوسط الذي يغلب عليه الانحطاط الفكري أي الانعدام الكامل أو شبه الكامل للأفكار والمفاهيم المبدئية. فبتلاشي الأفكار والمفاهيم سرعان من تحل محلها العواطف والمشاعر. لأن الأفكار إذا كانت قوية ومبدئية فإنها تسيطر على العواطف وتنسقها. أما إذا غابت فسرعان ما تظهر العواطف والغرائز وتحل محلها وتسيطر على العقل.
وهذه الرابطة موجودة في الحيوان والطير كما هي موجودة عند الإنسان. لأنها غريزة والغرائز كما هي موجودة عند الإنسان موجودة في الحيوان، مثلاً: إذا داهم إنسان حظيرة فيها كلبان فإنهما يتحدان لدفع خطره، فإن ابتعد الخطر عنهما زال اتحادهما، وإن ألقيت لهما قطعة لحم تكالبا عليها وتصارعا إلى درجة الإبادة «أي رابطة حيوانية».
وبذلك يتبين أن هذه الرابطة «الوطنية» لا تعتمد في وجودها مطلقاً على العقل فهي رابطة غريزية محضة.
وبعد هذا العرض السريع والتفكير المستنير فيها يتبين فسادها وذلك لعدة أسباب.
1- رابطة منخفضة: لأن منشأها غريزي محض ولا دخل للعقل في وجودها فكونها غريزية فلا تصلح لأن تربط بين الإنسان والإنسان. فالإنسان أفضل المخلوقات بما وهبه الله من عقل فكان لا بد أن يكون العقل هو أساس الارتباط بين الإنسان والإنسان لا الغريزة التي تجمع كل المخلوقات: إنسان، طير حيوان. فهذه الرابطة لا تستطيع أن تربط البشر لأن مجرد وجود هذه الرابطة لا يستطيع أن يوحدهم على فكر فهي خالية من الفكر ولا علاقة بها بالفكر والنظام. فالذي يصلح للنهضة هو جعل العقل أساساً للحياة فبعد عملية التفكير التي يقوم بها الإنسان يتوصل بها إلى أفكار ولكن ليس كل فكر يتوصل إليه يصلح للنهضة أو يحدثها بل الفكر الذي يعطي مفهوماً عن الكون والإنسان والحياة وعما قبلها وعما بعدها وعن علاقتها بما قبلها وبما بعدها. وهذه النظرة التي تحل العقدة الكبرى في حياة الإنسان، هي التي تحدث النهضة بغض النظر عن كونها صحيحة أو باطلة.
2- رابطة عاطفية: تنشأ عن غريزة البقاء بالدفاع عن النفس والرابطة العاطفية عرضة للتغير والتبدل فلا تصلح للربط الدائمي بين الإنسان والإنسان.
فكونها رابطة غريزية فإن العاطفة تؤثر على وجودها وتهيمن على تصرفات من يحملها فتبرز من خلالها سرعة التغير والتقلب والخور والغليان وبذلك لا تصلح لأن تكون مقياساً ثابتاً وصحيحاً ودقيقاً يربد فيه بنو الإنسان.
فعندما يظهر خطر الأعداء على الأرض التي يعيش عليها تحرك من يحملها تحركاً مندفعاً قوياً وبعد مدة من سيطرة الأعداء على الأرض التي يعيش عليها تخف قوتها عنده. وتخف حركته وقد يركن. مثال ذلك: القضية الفلسطينية، ففي بداية السيطرة الصهيونية كانت المطالبة بطرد الصهاينة وبعد مدة خفضت إلى المطالبة بقرار تقسيم الأمم المتحدة ثم المطالبة بحدود حزيران ثم قرار 242.. لذلك لا ينبغي ترك القضايا المصيرية تتحكم فيها عاطفة متقلبة متغيرة.
3- لأنها رابطة مؤقتة: توجد في حالة الدفاع أما في حالة الاستقرار ـ وهي الحالة الأصلية للإنسان ـ فلا وجود لها ولذلك لا تصلح للربط بين بني الإنسان. لأنها غريزة والغريزة لا تظهر إلا بوجود المؤثر الخارجي ومتى زال هذا المؤثر الخارجي تزول هذه الرابطة لذلك كانت رابطة مؤقتة وليست دائمية. لذلك لا تصلح للربط بين الإنسان والإنسان.
4- واقعية جبرية: فالله خلق للإنسان نعمة العقل وجعله مناط التكليف إصلاح وتغيير الواقع إذا كان يحتاج إلى إصلاح وتغيير، وليس الرضا بالواقع على ما به منن أخطاء وفساد. فالإنسان الذي لا يعمل تغيير واقعه يعتبر فاقد الإرادة والعقل. فالوطنية تنشأ من وجود الإنسان على أرض معينة وبعد وجود مؤثر خارجي. والإنسان لا دخل له في وجوده على أرض معينة وعلى أي أرض يختارها بل ذلك مفروض عليه ولا خيار له فيه. لذلك لا ينبغي لإنسان يملك العقل والإرادة أن يجعل شيئاً يتحكم في علاقاته مع بني البشر مع إمكانه أن يتخلص منه.
فكل إنسان يمكن أن يكون يمكن أن يكون اشتراكياً أو رأسمالياً أو مسلماً. لكن ليس كل إنسان يمكنه أن يكون فلسطينياً، أو سورياً أو فرنسياً أو إنكليزياً… فالوطنية رابطة قهرية جبرية لا مكان للإرادة فيها بشيء ولا للعقل. لذلك لا تصلح للربط.
إن الدولة الإسلامية عندما كانت رابطتها رابطة العقيدة كانت أعظم دول العالم وعندما حلت الوطنية والقومية محلها حطمتها وقسمتها إلى دويلات كرتونية وبسبب الوطنية أصبحت لقماً سائغة للمستعمر. فهي رابطة رجعية تفرق ولا توحد مثلها مثل الرابطة القومية.
لا يوجد في النصوص الشريعة ما يأمر بهذه الرابطة أو يقر بوجودها… بل النصوص الشرعية تدل على أن رابطة المبدأ الإسلامية (العقيدة العقلية التي ينبثق عنها نظام) هي الرابطة الوحيدة شرعاً فكل إنسان مهما كانت أرضه يستطيع أن يكون مسلماً.. فقد كان بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي من أصحاب رسول الله r بل وأعزهم. بينما كان أهل مكة وعمه في ذلك الوقت من ألد أعدائه.
قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وقال عليه الصلاة والسلام: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» وقال: «من دعا إلى عصبية فليس منا» لذلك فحرام على المسلمين أن يدعوا إلى الوطنية بعد التفقه بهذه الآيات والأحاديث.
الحكم الشرعي في الأرض
الأحكام حددت النظرة إلى الدار على أنها دار إسلام وهي الدار التي تحكم بالإسلام وسلطانها وأمانها داخلياً وخارجياً يكون إسلامياً، ودار الكفر وهي التي تطبق عليها أحكام كفر وتحكم بنظام كفر أو سلطانها وأمانها بأمان الكفر. هذا من حيث الدار.
أما من حديث الأرض فلا توجد أرض فلسطينية ولا سورية ولا عربية ولا فارسية فكل أرض فتحها المسلمون هي أرض للمسلمين والأرض بحد ذاتها لا مكان لتقديسها في الإسلام إلا إذا ورد نص ينص على قداستها كالمسجد الحرام في مكة مثلاً.
وقد يكون مسلم في دار الكفر وله بها ارض وعندما يتقدم الفتح الإسلامي فإنه يحرم عليه أن يقاتل المسلمين من أجل أرضه أو وطنه.
أما إن تحكمت به الوطنية فإنها تسيره لمحاربة المسلمين ويخالف الأحكام الشرعية ويكون مرتكباً لكبيرة من أكبر الكبائر في الإسلام وهي محاربة المسلم لأخيه المسلم قال عليه الصلاة والسلام: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
كما حصل بين المسلمين في العراق وإيران فقسم كبير منهم تحكمت به الوطنية وترك الفكر الإسلامي.
والدفاع عن الأرض في الإسلام حكم شرعي لكن ليست أرضه أو أرض وطنه فقط فالإسلام يوجب على المسلمين مقاتلة الكفار إذا احتلوا أي أرض من بلاد الإسلام ولو ذهب ملايين الشهداء واستمرت الحرب مئات السنين حتى يطردوا الكفار من بلاد الإسلام طرداً كلياً، كما حصل عند الغزو الصليبي. والآن الحكم الشرعي بالقضية الفلسطينية إنها قضية جميع المسلمين بغض النظر عن كونهم فلسطينيين أو عرباً أو أتراكاً أو ألماناً… فكلهم مكلفون بالحكم الشرعي لإنقاذها حتى تسترجع أرض فلسطين وتعاد للمسلمين كما كانت في ظل دولة الخلافة إن شاء الله.
1988-12-05