المجلس التأسيسي ومشاريع القوانين في السودان
1988/12/05م
المقالات
2,314 زيارة
تتابع الجمعية التأسيسية (البرلمان السوداني) إعداد مشاريع قوانين مستوحاة من الشريعة الإسلامية ـ حسب زعمها ـ تلبية لرغبة الأمة في السودان المطالبة بتطبيق أنظمة الإسلام في الحكم. وقد أحبّت أسرة «الوعي» إلقاء الضوء على ملابسات هذه القضية، وتفاصيل المشاريع والقوانين والمطروحة في البرلمان السوداني من خلال كتاب مفتوح وجهه «حزب التحرير» في السودان لأعضاء الجمعية التأسيسية. وهذا نصّه:
قال الله عز وجل:
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ @ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ @ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ @ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ @ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ @ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
صدق الله العظيم
حضرات السادة المحترمين،
السلام عليكم ورحمة الله
ها قد مضت سنتان ونصف منذ أن وكلتكم جماهير أمتنا المسلمة لتُكوِّنوا منكم مجلساً تأسيسياً يقول بالعمل لإجازة دستور البلاد الدائم على أساس الإسلام، فتنشأ بذلك الدولة الإسلامية التي تنظم علاقات الحكم والمجتمع، وتعين الحقوق والواجبات الشرعية لكل أفراد المجتمع على أساس الإسلام، الإسلام الذي هو عقيدة الأمة، ومبدؤها السياسي، ووجهة نظرها في الحياة.
ولقد ظلت جماهير أمتكم المسلمة تترقب بشوق وحماس يوماً بعد يوم طوال هذه الفترة إنجاز ما وعدتم به، ولكن للأسف الشديد، فبدلاً من ذلك ظللتم تتشاغلون في نجلسكم بالقشور من الأمور، والأعمال الانصرافية، طيلة هذه الشهور العديدة، ونبذتم وراء ظهوركم مهمتكم التي جئتم لمجلسكم هذا من أجل إنجازها. وها أنتم اليوم تريدون أن تزيدوا الطين بله باستجابتكم لدعاوى بعض السياسيين المضلين الذين يريدون أن يخدعوا أمتكم بأن مشروع قانون الجنايات لسنة 88 المطروح أمامكم، هو الشريعة الإسلامية التي ظلت أمتكم تتطلع إليها.
ولكي يتضح لنا جميعاً حقيقة هذا التضليل والتدليس، نود أولاً أن نضع الإصبع على واقع قانون الجنايات هذا، والظروف التي أحاطت به، لندرك بشكل ملموس حقيقة أمره، ونعي على علاقته بما يجري على الساحة السياسية.
أولاً: في أحد اللقاءات الصحفية التي أجراها رئيس الحكومة خلال الأيام الماضية، شهد السيد رئيس الوزراء بأن قانون الجنايات 88 المقدم من الحكومة للجمعية التأسيسية 99% منه وضعي و1% فقط منه إسلامي، وقد تجاوز بعض السياسيين هذه النسبة وأقر بأن 80% منه غير إسلامي، والبعض الآخر قال إن فيه رائحة الإسلام، علماً بأن الحكومة حين قدمت مشروع القانون لمجلسكم قدمته باسم قانون الجنايات 88، ولم تشر من قريب أو بعيد بأنه الشريعة الإسلامية، فما الذي جد في هذه القوانين حتى جعلها بين ليلة وضحاها تتحول إلى قوانين الشريعة الإسلامية؟ وهو ما ظلت تردده على أسماعنا وسائل الإعلام الرسمية والحزبية.
ثانياً: حتى القليل القليل من العقوبات الشرعية التي أضيفت إلى هذا القانون شوهت بصورة جعلتها غير إسلامية، مثل عقوبة الجلد والسجن لمن يفعل فعل قوم لوط، أو الادعاء بجواز استثناء مناطق جغرافية من البلاد من تنفيذ بعض الأحكام، سواء بالافتراء على الأئمة المجتهدين، أو الاحتيال على النصوص الشريعة وتحميلها ما لا يقصد منها، ثم يسمون ذلك اجتهاداً، وما هو إلا جرأة على دين الله. نعم أن باب الاجتهاد مفتوح، ولكن للعلماء الأتقياء، لا للجهلة ولا للفسقة.
ثالثاً: أُسقط من القانون عقوبات على جرائم سماها الإسلام من الكبائر، مثل جريمة الحكم بغير ما أنزل الله والتي هي سبب كل المظالم، ومثل جريمة التعامل بالربا، مع أن تعاطي درهم واحد من الربا أقبح عند الله من ست وثلاثين زنية، قال صلى الله عليه وسلم: «ردهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدّ من ست وثلاثين زنية في الإسلام»، بل ما هو أفظع من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «الربا اثنان وستون باباً أدناها كأن ينكح الرجل أمه»، فلماذا أسقطت عقوبة الربا من القانون؟ يصدّق ألأن الدولة غارقة في الربا حتى أذنيها، ومصارفها تتعامل بالربا جهاراً نهاراً تحت اسم العائد التعويضي؟ هل يمكن أن يصدّق أحد أن هذا الإسقاط وقع سهواً من الحكومة أو نسياناً، وأنتم تعلمون أن كل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعاني منها سببها القروض الربوية التي أغرقت بلادنا في الديون وامتصت كل قطرة من عرق هذه الأمة بل من دمها؟ هل نسيت الحكومة قول الحق عز وجل: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ @ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)؟
رابعاً: إن واقع قانون الجنايات أنه قانون عقوبات، وكما تعلمون فإن قانون العقوبات يأتي مع تأسيس علاقات الدولة والمجتمع الني ينظمها الدستور لتأمينها، فالدستور هو الذي يحدد شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، ويبين حدود واختصاصات كل سلطة فيها، ويحدد علاقة الدولة مع أفراد الرعية، ويبين حقوق الدولة وواجباتها قِبلهم، وحقوق وواجبات الرعية قِبَل الدولة، وبناءً على أحكام الدستور تسن قوانين عقوبات لتأمين هذه الحقوق والعلاقات التي نظمها الدستور، وضمان تنفيذها على الجميع حكاماً ومحكومين. ومن هنا لا بد أن يكون قانون العقوبات ناتجاً عن أحكام الدستور ومن جنسه، وحسب قواعده، ولا يجوز وجود شيء فيه مناقض أو مخالف لأحكام الدستور، وإلا اعتبرت قوانينه باطلة وغير دستورية. فالأصل هو الدستور الذي يُرسي قواعد القوانين الفرعية ومنها العقوبات ويبين كيفية سنها وتعديلها أو استبدالها.
فإذا كان الأمر كذلك، فأي دستور هذا الذي يراد حماية علاقاته بسن قوانين 88 المسماة شرعية، والذي تعاقب المادة 53 منه كل من يعمل على تقويض نظامه الدستوري بالإعدام؟ أي نظام دستوري هذا الذي تعاقب الشريعة الإسلامية من يعمل على تقويضه بالإعدام؟ هل المعني في هذه المادة النظام الدستوري الإسلامي؟ أم المعني بالحماية هو هذا الدستور الديمقراطي الكافر المعدل 87، والذي وضعه أصلاً القاضي الإنجليزي المستعمر بيكر سنة 1952 ثم عدله السياسيون في 1956 فـ 85 وأخيراً 87؟ أحقاً يُعاقب الإسلام بالإعدام من يدعو لتقويض نظام الكفر الاستعماري ليقيم مكانه نظام الحكم الإسلامي؟ ألا يتقي هؤلاء القوم ربهم الذي خلقهم من تراب ثم إليه يرجعون؟
هذه الأمثلة التي ذكرناها كافية لتدل دلالة واضحة أن قانون جنايات 88 المطروح أمامكم مخالف للإسلام في أصوله وأحكامه وطريقة تطبيقه. والسؤال الذي يرد الآن إذا كان هؤلاء السياسيون والزعماء وهم مسلمون يعلمون أنّ هذه القوانين قوانين غير إسلامية، فلماذا يلبسونها ثوب الإسلام ليضللوا بها الأمة؟ إنها شهوة الحكم، والتمتع فيه، والبقاء فيه من أجل تحقيق مصالحهم الذاتية وحمايتها. فهؤلاء الزعماء والسياسيون يعلمون أن أمتكم الإسلامية بالرغم من الضعف الشديد الذي انتاب فهمها للإسلام، فإنها مستعدة للتضحية بكل ما تملك حتى بنفسها في سبيل نصرة الإسلام، لذلك فهم يرون أن أقرب الطريق للوصول إلى كراسي الحكم وهو رفع شعارات الإسلام، في وجه الأمة ولكنهم بعد أن وصلوا إلى كراسي الحكم واجهتهم الجماهير المسلمة بالمطالبة بالإسراع بإجازة الدستور الإسلامي، والذي لم يفكروا بعد حتى في صياغة مسودته، فرأوا أن يقدموا للأمة هذه القوانين الجنائية باسم إسلامي ليمتصوا بها حماسها، وليركزوا بها نظام الكفر الديمقراطي الذي يمكنهم من تحقيق مصالحهم الذاتية بلا رقيب ولا حسيب. وهكذا تصبح مصيبة البلاد الكبرى ونكبتها العظمى في زعمائها وحكامها الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.
حضرات السادة المحترمين،
إن سن قانون جنائي جديد في ظل هذا الدستور الديمقراطي الجائر لن يحل أي مشكلة من مشاكل البلاد، لأن القانون الجنائي مهمته زجر المجرمين ومعاقبتهم، والإجرام كما تعلمون ليس هو سبب المشكلة التي تعاني منها بلادنا، بل هو أثر من آثارها، أما سبب المشكلة الحقيقي فهو هذا الدستور الانتقالي الجائر، الذي أفسد علاقات الدولة والمجتمع، وظلم الناس حقوقهم، فنتج عن كل ذلك هذا الإجرام المستشري. لذلك فإن علاج المشكلة ليس بوضع قانون جنائي وضعي أو حتى إسلامي يعاقب المجرمين، بل علاج المشكلة في إنشاء دستور إسلامي ينظم علاقات الدولة والمجتمع، ويعطي كل ذي حق حقه، ويوصل قواعد للقوانين ومنها العقوبات. هذا هو علاج المشكلة، لذلك فإن تطبيق هذا القانون الجنائي في ظل الدستور الانتقالي الحالي لن يحل مشكلة، بل سيؤدي حتماً إلى تفاقم المشاكل، وازدياد الأمور تعقيداً، وانتشار الفوضى، وتفشي الظلم بصورة أوسع، وللأسف الشديد، سوف تنسب كل هذه السلبيات إلى الإسلام لما سيحمله القانون الجديد من اسم الشريعة زوراً وبهتاناً، فيتشوه بذلك وجه الشريعة الناصع في أعين المسلمين وتثور الشكوك في نفوسهم من عدالة الأحكام الإسلامية، فيفتنون في دينهم، وسيجد المنافقون والكفرة والمرجفون من أعداء الإسلام مادة دسمة في هذه القوانين يقبحون بها معالجات الشرع، ويطعنون في صدق أحكامه، فيثير كل ذلك سخط المسلمين، لأنهم سيظنون أن هذه القوانين التي زادت في معاناتهم قوانين إسلامية، تماماً كما حدث بعد ممارسة نميري السابقة ذات القوانين والطريقة المماثلة، فينتج عن كل ذلك الشعور بالإحباط بين المسلمين، والاستهجان من تطبيق ما يظن أنه أحكام الشرع، حداً قد يصل إلى المطالبة بتغييرها وإن تسمت بالإسلام، أو السكوت عمن يطالب بإقصائها، كما حدث بعد انتفاضة 85، وهو أمر يسعى لتحقيقه الكفار بجد في دهاء وخبث شديد وبتخطيط ماكر.
أما ما هو المخرج من كل ذلك؟ وماذا أنتم فاعلون؟ فإن رأس الأمر أيها المسلمون هو تقوى الله، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) فعليكم أولاً بإخلاص النية لله عز وجل، وأن تصدقوه العهد، وتقفوا وقفة المؤمنين، وترتفعوا فوق ولاءاتكم الحزبية، وتنهضوا لأداء واجبكم الشرعي الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى عليكم، ووضعته أمتكم الإسلامية في هذا البلد على أعناقكم، فتقوموا ـ بما تملكون من تفويض شرعي كممثلين للغالبية العظمى من أهل الكتاب والسنة، والذي وضعنا مسودته بين أيديكم في شعبان 1407 هـ كدستور دائم للدولة والمجتمع ثم تنتخبوا أحد أبناء الأمة الحائزين على شروط انعقاد البيعة، وهي أن يكون رجلاً مسلماً عاقلاً بالغاً عدلاً، فتبايعوه رئيساً للدولة، حتى تعود الدولة دولة إسلامية، يرجع بها سلطان الإسلام وبذلك تتخلصون من الإثم الفظيع الواقع على أعناقكم، وتكونون قد قمتم بأعظم عمل يرضاه الله ورسوله والمؤمنون، وثقوا تماماً: إن أقدمتم على هذه الخطوة المباركة، ستقف معكم الأمة بأسرها تشدّ من أزركم، وتؤيد خطوتكم المباركة، دون اعتبار لأي انتماء حزبي أو عرقي أو إقليمي، لأن مكانة العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين فوق كل اعتبار، والولاء لها فوق كل ولاء، والله نسأل أن يوفقنا جميعاً لإعلاء كلمة الحق.
روى عن عدي رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظَهرانَيْهِم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».
1988-12-05