ربيع الأول: مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم
1988/09/05م
المقالات
1,944 زيارة
بقلم: عبد الرحمن أبو الهيجا
الذكرى خاطرة تمر بالذهن بعد نسيان، فتوقظ في صاحبها أحاسيس معينة تتناسب مع تلك الخاطرة التي مرت بذهنه، فإذا ما ذهبت تلك الخاطرة عاد الشخص إلى هدوئه، وخفتت أو تلاشت تلك الأحاسيس، وغاضت تلك المشاعر في خضم الحياة ومشاغل الإنسان الأخرى. وقد تحصل الذكرى بمشاهدة الأطلال والأماكن، أو بمرور يوم معين هو تاريخ حدوث تلك الخاطرة فإذا ذكر ذلك اليوم، وخزت تلك الإبرة عاطفته فأهاجت مشاعره فإن كانت الذكرى حزينة دمعت عينه، وإن كانت سعيدة رقص لها فؤاده وبتجاوز الأثر والابتعاد عن الطلول، أو بمرور ذلك التاريخ، تلاشى الأثر، واندثر، وعادت العاطفة إلى سباتها.
لم يحتفل المصطفى صلى الله عليه وسلم بذكرى مولده، ومل يجعله يوم ذكرى في حياته أبداً وجاء صحبه من بعده وهم أحب الناس به وأقربهم إليه، وهم خيرة الناس بعد الأنبياء وجاء من بعد الصحابة عصر التابعين وتابعيهم بإحسان، ولم يخطر ببال تلك الدولة المترامية الأطرف الممتدة من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً ومن المحيط الهندي جنوباً إلى جبال القوقاس وسمرقند وأذربيجان شمالاً أن تحمل بذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم. والسبب في ذلك أنهم لم ينسوه حتى يذكروه، ولم يبتعدوا عن خط سيره حتى يتذكروه، حتى جاء العصر الهابط، ودب الوهن في الأمة، وحاولت الهروب من واقعها المؤلم إلى ساعات تقضيها في نشوة، ساعات تقضيها في ذكرى مناسبة من المناسبات الحلوة العزيزة التي مرت في حياتها. فوجدت تلك المناسبات وما فيها من ذكريات، حتى كادت أن تستغرق أيام السنة كاملة.
مثل ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ذكرى مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم قيام أول دولة إسلامية في العالم.
ذكرى معركة بد الكبرى الحد الفاصل بين الإيمان والكفر.
ذكرى معركة أحد.
ذكرى فتح خيبر.
ذكرى صلح الحديبية.
ذكرى يوم الغدير.
ذكرى حجة الوداع.
ذكرى فتح مكة.
ذكرى غزوة مؤتة.
ذكرى غزوة تبوك.
ذكرى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكرى معركة اليرموك.
ذكرى معركة القادسية.
ذكرى فتح مصر.
ذكرى فتح شمال أفريقيا.
ذكرى معركة بلاط الشهداء.
ذكرى فتح القسطنطينية.
لو عددت بشكل كامل لفاقت عدد أيام السنة. وبالرغم من كثرة هذه الذكريات لم تنقل واحدة منها الأمة من واقعها السيئ إلى ما تصبوا غليه نفسها، وترنو إليه عيونها من عز ومجد وسؤدد، ذلك لأنها مجرد أحاسيس، لم تنتقل يوماً إلى دائرة التفكير، لتنتج قضية فكرية يراد لها حل، ويترتب عليها حسب منطق الإحساس قضايا تؤدي بالتالي إلى تحرك واعي ينقذ الأمة مما فيه، ولذلك فقد بقيت هذه الذكريات مهرباً من قسوة الحياة، والشعور بالذلة والمهانة إلى ذكرى عظيمة تنقل أحاسيسها ومشاعرها إلى تلك الذكريات العظيمة.
فهل آن لهذه الأمة أن تجعل من هذه الذكرى حافزاً يدفعها للعمل بما جاء به سيد المرسلين، هل آن لهذه الأمة أن تعي أن أمجادها وعزتها إنما كان بالتقيد بما جاء به المصطفى، وليس بالتغني أو التباكي على تلك الأمجاد. أما آن لها أن تعي أنها هي المعنية بقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وهي المسؤولة أمام الله عن العالم بأسره، حيث أن الله جعلها أمة وسطاً حتى تتمكن من الشهادة على الناس بأنها قد بلغتهم الإسلام بشكل ملفت للنظر فهو يقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فنزولها عن مركز الصدارة في العالم لا يمكنها من القيام بهذه الشهادة.
أما آن لها أن تدرك أن من نصر محمداً ما زال هو الناصر، ذلكم الله فاستعينوا به يعنكم، واستهدوه يهدكم، واسترشدوه يرشدكم، وما زالت طريق رسول الله واضحة المعالم يدل عليها كتاب الله تعالى ـ القرآن الكريم ـ هو يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم حسب طريق معين ووفق أحداث ووقائع تقتضي المعالجة يمكن معرفة ذلك من معرفة المواضيع التي كان القرآن الكريم يهاجمها ويعالجها ويبين منها الحق من الضلال، حتى انتقل المصطفى إلى الرفيق الأعلى ابتداء من قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ). والقرآن الكريم هو المرشد إلى سيرة المصطفى وهو الذكرى القائمة أبد الدهر. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
هذا ما يجب إن توحي به هذه الذكرى، وأن تنتقل الأحاسيسُ تلك إلى مشاعر دافعة يؤدي فيها منطق الإحساس إلى عملية فكرية تقترن بعمل لتحقيق هدف معين يعيد للامة عزتها ومجدها.
أما أن تُتخذ هذه الذكرى العظيمة مهرباً، وأن نكتفي منها بتلك المواقف السلبية والوقوف على الأطلال. أو أن نقيم الاحتفالات، أو نزين الشوارع بالشارات والشعارات، أو أن تقرأ قصة المولد في المساجد والحارات، ونبتدع لها الأغاني ونضرب عليها بالدف فهذا لم يأت به شرع، ولا تقره عقيدة، ذلك هو الهروب من الواقع.
1988-09-05