أهمية النصوص الشرعية في اجتهادات عمر بن الخطاب
1988/10/05م
المقالات
5,942 زيارة
بقلم: موفق الحشيمي
إن الإسلام جاء تشريعاً سماوياً متميزاً بنصوصه الشرعية في القرآن والسنة، بحيث لا يجوز لأحد المجتهدين، أو أدعياء الاجتهاد ـ وهم اليوم كثر ـ لا يجوز لأحدهم أن يخالف نصاً شرعياً ولا سيما إن كان صريحاً قطعي الدلالة قطعي الثبوت. بل لا بد أن يكون كل اجتهاد مستقى ومستنبطاً من النصوص الشرعية.
غير أنه في عصرنا هذا ـ وبعد زوال دولة الخلافة ـ اجترأ الكثير من (المفكرين) على الدين وأحكامه. وبرزت فئة مما اتبعوا أهواءهم وغرَّتهم مدنية الغرب. فأراد هؤلاء أن يحشدوا الأدلة على جواز الأخذ بالقوانين الوضعية إذا اقتضت (المصلحة). لذلك وجدنا الكثير من أبحاثهم تدعو إلى اعتبار (المصالح المرسلة) مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي، الأمر الذي كان مدار بحثٍ في القديم بين علماء الأصول. لكن من أقرّ المصالح المرسلة من القدماء اشترط أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكماً ثبت بالنص أو الإجماع، بخلاف (الفقهاء العمانيين) في زماننا إذ أجازوا أن يخالف الاجتهاد النصوص الشرعية وقالوا: «حيثما وجدت المصلحة فثمَّ شرع الله» واحتجوا بحجج لا أساس لها من الصحة.
فكان من حججهم أن الخليفة عمر بن الخطاب خالف غير مرةٍ النصوص الشرعية ولم يجد في ذلك غضاضة ما دام يلتمس صالح المسلمين ويتوخى المصلحة العامة.
ومن الغريب أن نجد الأزهر يشارك في هذه الحملة فقد صدرت عنه عام 1966، دراسة تحقيقية لرسالة (الطوفي) المتوفى في 717 هـ، صمن سلسلة التراث الأصيل! والرسالة في (تقديم المصلحة في المعاملات على النص).وقد ختمت الدراسة بتعقيب لمحمد رشيد رضا. وإذا عرفنا أنه من أبرز تلاميذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، إذا عرفنا ذلك فإننا لن نستغرب هذه الدعوة.
وكان خالد محمد خالد قد ذكر في كتابه (الديمقراطية أبداً) أن عمر ترك النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة عندما دعته لذلك المصلحة فلبّاها! واقترنت جهوده بجهود اثنين من أصحاب الأفكار المشبوهة وهما أحمد خلف الله وفهمي هويدي.
فالأول دعا إلى (المصلح) واعتبارها مصدراً تشريعياً أساسياً، في سلسلة عالم المعرفة بالكويت في كتابات له بعنوان «مفاهيم قرآنية» (وإن ثبت أنها أبعد ما تكون عن القرآن). والثاني نشر، فيما نشر، مقالاً له في مجلة العربي يحمل عنواناً تهكمياً: «وثنيون أيضاً.. عبدة النصوص والطقوس» حاملاً حملة شعواء على الملتزمين بالنصوص ودعا إلى الاسترشاد بمقاصد الشريعة فحسب.
ويهمنا في هذا الأسطر أن نثبت فساد ما ذهبوا إليه من أن عمر خالف النصوص الشرعية:
أولاً: قالوا: لقد خالف عمر النص القرآني: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ) [التوبة: 60]. ففي حين جعلت الآية سهماً من الزكاة للمؤلفة قلوبهم وكان الرسُول يؤدّيه لهم، امتنع عمر في أيام أبي بكر عن إعطائهم إياه!
في الرد عليهم نجد أن عمر رأى أن الأشخاص الذين كانوا سابقاً ضعيفي الإيمان قد توطد إيمانهم فزالت عنهم الصفة التي بموجبها وجبت لهم الزكاة. فالزكاة ليست حقاً شخصياً لهم بل حقاً عارضاً يزول بزوال العلة. والحكم الشرعي لم يتغير وإنما الاجتهاد في مناط الحكم هنا.
إن الفقير ـ مثلاً ـ يكون له سهم من الزكاة، فإذا اغتنى الفقير لسبب أو لآخر فسهمه من الزكاة يسقط، وكذلك الرقيق (المعبر عنه في الآية بـ «في الرقاب») فإنه يأخذ من مال الزكاة عند المكاتبة مع سيده بغية إعتاقه ومتى أصبح حراً انقطع سهمه من الزكاة. ولا يقال لمن يُسقط حصتهما من الزكاة. لقد خالف القرآن!
لقد رأى عمر أن فئة من المسلمين تأخذ مالاً على أنها من المؤلفة قلوبهم مع أن هذه الصفة زالت عنهم. فهل على الإمام أن يعطي كل الأصناف الثمانية حتى لو فُقِدَ أحدها؟ إذا خلا المجتمع الإسلامي من الفقراء ـ كما حدث في أيا عمر بن عبد العزيز ـ فهل نخلق فقراء لنعطيهم؟ وإذا لم يكن ثمة غارمون، هل نحمل الناس على الاستدانة لنسدد عنهم؟
ثانياً: وقالوا: لقد خالف عمر النص القرآن: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38].
ذلك أنه في عام المجاعة سرق غلمان ـ لحاطب بن أبي بلتعة ـ ناقةً لرجل من مزينة فذبحوها. ولما علم بذلك عمر أمر بقطع أيديهم لكنه عاد عن قراره عندما بلغه أن (حاطباً) يُجيعهم وأنهم وإنما سرقوا ليسدوا جوعهم. وقالوا: أعتمد في مخالفة النص على المصلحة!
لقد أغفلوا أن القرآن نفسه ورد فيه نص شرعي صريح استند عليه عمر بن الخطاب. وهذا النص هو: (فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: 173]. ولا ننس أن الحادثة جرت في عام المجاعة حتى لقد قال عمر: «لا قَطْعَ في عام المجاعة». كما أن عمر وجد ـ على الأقل ـ شبهة تمنع من إقامة الحد. فقد أخرج ابن ماجة عن أبي هريرة وعائشة وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إدرؤوا الحدود بالشبهات» وفي لفظ الترمذي والبيقهي عن رسول الله أنه قال: «إردؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يُخطئ في العفو خيرٌ له من أن يخطئ في العقوبة».
ألا نرى أن عمر بن الخطاب كان ملتزماً بنصين شرعيين لا بواحد فقط؟ وهذان النصان يُسقطان الحد.
ثالثاً: وقالوا إن زواج المتعة كان حلالاً بنصوص شرعية حتى خالف عمر هذه النصوص وحرم المتعة!
لهؤلاء نقول: كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة ثم نُسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم. والأدلة كثيرة:
أ- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ @ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) وهذه ليست زوجة وليست مملوكة، لأنها لو كانت زوجة لحصل التوارث وثبت النسب ووجبت العدة. وهذه لا تثبت باتفاق فيكون باطلاً. [تفسير آيات الأحكام ـ محمد علي الصابوني (1/458)].
ب- الأحاديث النبوية:
– قال ابن عمر ـ فيما أخرجه عنه ابن ماجة بإسناد صحيح: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أذِنَ لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها، والله لا أعلم أحداً تمتع وهو محص إلا رجمته بالحجارة».
– عن سلمة بن الأكوع قال: «رخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أو طاس في المتعة ثلاثة أيام، ثم نهى عنها» (رواه مسلم).
– عن علي رضي الله عنه أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر» (متفق عليه).
– عن ربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة..» (أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن حبّان).
ج- الإجماع:
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشار إلى حرمتها وهو على المنبر أيام خلافته وأقرّه الصحابة وما كانوا ليُقروه على خطأ لو كان مخطئاً.
أما ما روي عن ابن عباس من القول بحلّها فقد ثبت رجوعه عنه كما أخرج الترمذي عنه أنه قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه» (رواه البيهقي والطبري عن ابن عباس).
فتأمل قوله: إنما كانت المتعة في أول الإسلام، دلالةً على أنها قد حُرّمت فيما بعد: بنص شرعي لا بنص عُمَريّ.
رابعاً: وقالوا إن عمر خالف نص القرآن: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال: 41]. عندما امتنع عن توزيع أراضي العراق والشام ومصر وقال: «تكون ملكاً للدولة». أي أنه لم يُجْرِ عليها حكم الغنيمة.
وتفصيل الحادثة كما في كتاب الأموال لأبي عبيد (1/59) أنه قد جرى الخلاف بين عمر والصحابة في تقسيم أراضي العراق ومصر والشام على الفاتحين. وكان رأي عمر عدم تقسيمها ووافقه بعض الصحابة ومنهم (معاذ) الذي قال لعمر: «إنك إن قسّمتها صار الريع العظيم في أيدي هؤلاء القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدّون من الإسلام مسداً [أي يقومون بخدمة الإسلام ويدافعون عنه] وهم لا يجدون شيئاً».
والواقع أن آية الأنفال ليست صريحة في إدخال الأراضي تحت حكم الغنائم، فالاجتهاد فيها مقبول. ويرى بعض المفسرين أن (غنم) معناها (استولى) وأن الأراضي لا يسري عليها حكم الاستيلاء ويستطرد أن النص القرآني استثنى الأراضي لقوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر: 7]. معتبراً أن أهل القرى تعني أهل الأراضي الزراعية.
وعلى قوله: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) استند معاذ في رأيه. والدليل على أن الغنيمة والفيء مجالان للاجتهاد إن العلماء اختلفوا فيهما:
– فقال بعضهم: الغنيمة ما أُخذ عنوة من الكفار في الحرب. والفيء ما أخذ عن صلح. وهذا قول الشافعي.
– وقال بعضهم: الغنيمة ما أُخذ من مال منقول. والفيء هو مال غير منقول كالأرضين والعقارات وغيرها. وهذا قول مجاهد.
– وقيل الغنيمة والفيء بمعنى واحد (تفسير آيات الأحكام 1/603).
إذاً ـ هناك خلاف حول تحديد ما يشتمل عليه لفظ غنيمة. وعمر بن الخطاب لم يُخالف النص القرآني.
مما تقدم يتبيّن لنا أن جميع محاولات المضلّلين لإدخال أفكارهم السامة، ستبوء بالفشل. لذلك ننصحهم هم ومن يسير في ركابهم أن يعودوا إلى التقيّد بكل النصوص الشرعية مرددين قول الله: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وإلاّ فليعطونا دليلاً واحداً على جواز مخالفة النصوص في التشريع.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
1988-10-05