كيف تنفذ أحكام الشرع
1988/09/05م
المقالات
2,335 زيارة
بقلم: يوسف العبد الله ـ دمشق
تنفَّذ أحكام الشرع مرتكزة على أسس ثلاثة، الأساس الأول تقوى الله عند الفرد، والأساس الثاني رقابة المجتمع، والأساس الثالث سلطان الدولة.
وهذه الأسس الثلاثة لا نظير لها في أي نظام آخر، لأن الشرع وحي الله، والله الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) قد أنزل شرعاً ليس كمثله شرع مما يصطنع البشر أو يخترعون.
إن الأرض اليوم يسودها نظامان،نظام رأسمالي،وآخر اشتراكي،وهما مبنيان علي أساس مادي يلتقيان عند هذا الأساس،وان اختلفنا في الفكر والطريقة اختلافا كبيرا .
فالفرد في النظام الرأسمالي حرّ يفعل ما يشاء، لا يقبل رقابة من أحد، ويرفض أي حدّ أو حجر لحرّيته.
والفرد في النظام الاشتراكي قطعة من آلة لا حرية له ولا اختيار .
والمجتمع في النظام الرأسمالي مائع مفكك لا يراقب ولا يحاسب، ولا قدرة له على المراقبة والمحاسبة، لأنه يتألف من أفراد أحرار.
والمجتمع في النظام الاشتراكي طبقات متناقضة يحذر بعضها بعضاً ويتربص بعضها ببعض. وحتى الدولة هي في النظام الرأسمالي وسيلة مؤقتة لحفظ الحريات، وهي في النظام الاشتراكي وسيلة قمع وعنف وتحطيم لمخلفات النظام القديم.
وبديهي أن يختلف نظام الإسلام مع هذين النظامين اختلافاً لا لقاء فيه ولا وفاق.
ونحن لا نريد أن نعقد مقارنة في هذا المقال بين هذين النظامين ونظام الإسلام. ولكنها لمحة موجزة تثبت أن نظام الإسلام ينفرد بهذه الأسس الثلاثة دون سائر النظم في القديم والحديث، وبعد ذلك نود أن نبسط القول بعض البسط في هذه المزايا الثلاث التي ينفرد بها نظام الإسلام فنقول:
1- أن الفرد المسلم ذو نظرة عميقة مستنيرة تشمل الكون والإنسان والحياة، وما قبل الكون والحياة والإنسان وما بعد ذلك، وهذه النظرة تنمي شعور المؤمن وإحساسه بالتقوى، أي تجعله يضبط سلوكه بما تقتضيه هذه النظرة فلا يناقض عمله عقيدته؛ لأن مفاهيم المؤمن منبثقة عن عقيدته؛ ولأن سلوكه تسيّره هذه المفاهيم، فهو يعمل أن الله رقيب عليه، وهو يعلم أيضاً أنه يبعث يوم القيامة فيحاسبه الله على ما قدم، وهو يعتقد بذلك اعتقاداً جازماً لا ريب فيها ولا اضطراب، والأمثلة على صحة ما نقول كثيرة جداً فيما مضى من تاريخ الإسلام الناصع، وحتى في حاضر المسلمين المتفكك الذي لا سيدة فيه لنظام الإسلام.
ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم (وهو أنقى عصر وأصفاه) برزت تلك الأمثلة الرائعة في الصبر على الجهاد وفي تقديم الأنفس والأموال، وقد كانت إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم تكفي لأن ينطلق المؤمنون إلى ساحات الشهادة دون تردد ودون تأخير، وقصة ماعز والغامدية هي مثال رائع للإحساس بالفتوى، رجل مؤمن وامرأة مؤمنة. جاءت الغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم معترفة بالزنا تطلب إقامة الحد، فأمهلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولدت، ثم أمهلها حتى فطمت وليدها، وهي مصرّة على طلبها بتنفيذ حد الشرع وهو الرجم.
وماعز أيضاً فعل مثل ما فعلت تلك المرأة المؤمنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطاه فسحة للمعاذير، ومع ذلك أصرّ على التطهير وإقامة الحدّ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة: «إنها تابت توبة لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم» وقال عن ماعز: «أنه الآن ينغمس في أنهار الجنة».
أما في حاضرنا الآن فالأمثلة شاهدة كثيرة على قيمة التقوى وفاعليتها فالأغلبية الساحقة من المسلمين يمتنعون عن الخمور والفجور وعن الربا وأكل السحت، مع أن أنظمة الكفر تشجّع على ذلك، وتيسّر سبل الحرام ما وسعها إلى ذلك سبيلاً، وهذا يكفي للدلالة على مكانة التقوى، وأنها تلهم الفرد المؤمن ذاتية العمل والسلوك.
2- المجتمع الإسلامي قوّام على الأفراد محاسب للسلطان، وهو يتألف من أفراد ومشاعر وأفكار وأنظمة تربط بين الأفراد ومشاعرهم وأفكارهم، وهو مجتمع متماسك قوي التأثير في أفراده، قوي الدعم والمساندة للسلطة التي يقيمها، فهو لا يشبه المجتمع الرأسمالي المفكك المائع، ولا يشبه المجتمع الاشتراكي المتناقض القاسي المستبدّ.
إن للمجتمع الإسلامي المزية الكبرى في تنمية الشعور بالتقوى لدى الأفراد، يبين ذلك قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
وهو مجتمع شديد الإحساس كأعضاء الجسم يشعر بأية لمسة تغير سلوكاً لفرد، أو تنحرف به عن جادة الصواب.
فالجسم الحي يشعر بأي ألم في عضو من أعضائه، فيتغير ويضطرب ويقاوم ذلك المرض حتى يزيله، ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الأمارات التي تميز المجتمع الإسلامي من غيره.
يقول الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ @ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
من أجل ذلك كان تقوى الفرد مستمداً من نظرة المجتمع والفرد وهو جزء من ذلك المجتمع المبني على أساس من التقوى متين. ففي ظل هذا المجتمع لا يتجرأ الفرد على المجاهرة بالمعصية، بل يبالغ في كتمانها إذا راودته نفسه إليها، ومع ذلك فهو سريع الرجوع إلى الصواب سريع التوبة من الزلل، حتى أن المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا لا يجرؤون على إعلان ما يضمرون، ولا يتفوّهون بما يريدون، وقد كان بعض الفسقة وفي العصر العباسي (وهم قلة) يستترون بين النصارى ليشربوا جرعة من خمر، وليس ذلك خوفاً من سلطان الدولة وحدّه، بل الشعور برقابة المجتمع، وبضغطه القوي القوّام على أفراده، هو الدافع الأقوى لاختفاء تلك القلة المنحرفة.
ونعود فنضرب المثل من واقعنا الذي نعيش فيه، وذلك أن الذي يعيش بين سكان القرى النقية التي ليس فيها حانات خمر ولا مجاهرة بالفسوق والمحرمات يعلم تمام العلم أن للمجتمع أثراً عظيماً على الأفراد. وقد يوجد في مثل هذه القرى بعض الفسقة ولكنهم لا يستطيعون أن يجلسوا مجلساً علنياً حول مائدة خمر، أو يجتمعوا اجتماعاً ظاهراً في أوكار عهر، ونُذَكِّرُ هنا أن المسلمين اليوم يَحْيَوْنَ وأنظمة الكفر مفروضة عليهم، ونظامهم الإصلاحي بعيد عن ساحة التطبيق، فكيف لو كان نظام الإسلام سائداً، وله الكلمة العليا في توجيه الفرد والمجتمع والدولة.
3- الدولة في الإسلام هي التي تقوم على رعاية المجتمع والأفراد، تسوس الأمة، وترعى شؤونها، ومهمتها الوحيدة تطبيق أحكام الشرع، فالسيادة للشرع، والسلطان في يد الأمة، وقد أعطاها الشرع هذا السلطان، فهي تبايع إماماً على السمع والطاعة ما أقام فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والدولة في الإسلام قوية بأفرادها ومجتمعها؛ لأن الأمة كلها هي دعامة للدولة، فللدولة اليد الطولى بتطبيق الشرع دون مراعاة لمكانة فرد مهما كان عظيماً، ودون خوف من انحراف المنحرفين مهما كثروا واتسع شرهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم حين رفعت إليه امرأة سرقت حتى يقيم الحد عليها لم يقبل شفاعة أسامة بنها، بل لامه قائلاً: «أتشفع في حدّ من جدود الله، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
وأبو بكر رضي الله عنه الخليفة الأول قال في خطبته بعد أن بايعه المسلمون: القوي فيكم قوى عندي حتى آخذ الحق له.
لذلك حين ظهرت الرّدة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، واتسع شرّها وخطرها على دولة الخلافة الفتية وهي في خطواتها الأولى، حين وقع ذلك عزم أبو بكر رضي الله عنه على، قمعها عزماً لا تردّد فيه، وأعاد المرتدين إلى جادّة الصواب، وأخزى الله أئمة الكفر الذين حملوا لواء الردّة، وعاد الإسلام قوياً عزيزاً مهيمناً.
إذا فدولة الإسلام قوّامة على المجتمع والأفراد، حمّلها الله أمانة تطبيق الشرع، والخليفة هو رأسها بل هو الدولة نفسها، وهو مسؤول عن كل صغيرة وكبيرة: «الإمام راع وهو مسؤول عن رعيّته».
لأجل ذلك تقوم الدولة بإقامة الحدود، ونشر العدل، ورد الحقوق إلى أصحابها، كما تقوم بتسيير الجيوش، وحمل راية الجهاد لنشر الإسلام في كل بقاع الأرض، وهي راعية للأمة تنظم الاقتصاد، وتلتزم بنشر العلم والمعرفة، وهي مسؤولة عن صحة الأفراد.
والدولة في الإسلام تقوم بعقد المعاهدات، وإعلان الحرب، وهي تحاسب المجتمع والأفراد دون مراعاة أحد، فلا تتملق مجتمعاً ولا فرداً حتى يفوز الحاكم فيها بأصوات الناخبين كما في النظام الرأسمالي، والدولة في الإسلام شديدة بتطبيق الشرع ولكنها رفيقة بالرعية يحاسبها الفرد كما يحاسبها المجتمع، ولا نريد هنا أن نطيل، فقد الفت كتب في الدولة الإسلامية، ونظام الحكم، وبناء الشخصية الإسلامية، ولكن قصدنا الأول أن نوضح مزية الإسلام بهذه الأصول الثلاثة في تطبيق الأحكام دون سائر النظم وتفرده بذلك. ففي الإسلام القوامة للجميع، الفرد قوام يحاسب المجتمع، ويحاسب الدولة، والمجتمع قوّام يبني شخصية الفرد بناءاً إسلامياً ممّيزاً ويحاسبه على خطئه وانحرافه، ويدعم الدولة ويشد أزرها ويحاسبها. والدولة قوامة على المجتمع والفرد ترعى شؤون الجميع، وتسوسهم بنظام الإسلام، وتحاسب الجميع على الخطأ والانحراف.
بعدما رسمنا هذه الصورة للأمة الإسلامية ممثّلة بدولتها ومجتمعها وأفرادها، بعد ذلك ندرك أن الأمة الإسلامية هي قوية البناء، محكمة النظام لا ثغرة فيها ينفذ منها أي فكر غريب، أو أي مبدأ دخيل، وما وصلت الأمة إلى ما وصلت غليه من هذه الفوضى التي هزت كيانها، وهدمت بنيانها، وهزمتها أمام أنظمة الكفر، ما وصلت إلى ذلك إلا حين تخلت عن دينها، وتركت نظامها الإسلامي الذي أعزّها الله به، وأعلى شأنها بين الأمم بتحكيمه.
لقد وصلت الأمة إلى ما هي عليه عندما ضعف التقوى في نفوس الأفراد، ودبّ المرض إلى جسم المجتمع، واضطرب سلطان الدولة، ولا نجاة لها من هذا المصير إلا إذا عادت لتطبيق أحكام الشرع على هذه الأسس الثلاثة التي بيّناها، لأن تقوى الفرد ورقابة المجتمع، وسلطان الدولة تجعل نظام الإسلام بين النظم نظاماً (بالإضافة إلى أنه وحده النظام الصحيح) ليس له ندّ ولا نظير، وما يتحدث به كُتَّاب الغرب والشرب عن الضمير والقيم كل ذلك كلام أجوف لا يستند إلى قاعدة صحيحة راسخة، ولا ينطلق من فكر أساسي ثابت. ونظرة متبصرة إلى تلك المجتمعات تريك ما فيها من خلل وفساد، وتناقض واختلاف، وانقسامات كبيرة في داخل النفوس.
وأخيراً نلقي هذا التساؤل، ما الذي يجعل الفرد في تلك النظم المادية يتحلّى بالتقوى؟ وما هذا الدافع إلى ذلك وقد انقطعت صلته بالله وهو قد التصق بهذه المادة التصاقاً جعله غير مستيقن من بدايتها ولا نهايتها، وهو لا يؤمن أن الله يحاسبه يوم القيامة؟
والجواب على هذا التساؤل واضح، فلا مكان للتقوى في نفس الفرد لا في النظام الرأسمالي ولا في النظام الاشتراكي، وما يقال عن الفرد يقال عن المجتمع والدولة في هذين النظامين.
إن الإسلام الذي هو وحي الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تفرّد بهذه المزية الرائعة، ولا عجب فهو نظام رب العالمين.
(وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ @ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
وصية النبي
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله، وأوصيه بجماعة المسلمين: أن يعظم كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر عالمهم، وأن لا يضربهم فيذلهم، ولا يوحشهم فيكفرهم، وأن لا يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم». [حديث صحيح رواه البيهقي في السنن]
قيام الليل
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، إن أبت نضح في وجهها الماء..رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء». [حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده]
1988-09-05