الجهاد في سبيل الله والغزو الفكري ضده
1988/09/05م
المقالات
2,923 زيارة
تكوين الأمة الإسلامية:
إن رسالة الإسلام ليست خاصة بأمة من الأمم، ولا وقفاً على جيل من الأجيال لذلك عندما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في تكوين هذه الأمة وجعلها خير أمة أخرجت للناس كان يعلم أن مهمته أكبر من مكة والجزيرة، وكان يعلم أن رسالته عالمية أرسل بها للناس كافة بكل أجناسهم وأعراقهم، وباعتبار إنسانيتهم لا بأي اعتبار آخر.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ 28].
وقال تعالى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف 158].
وبناء على عالمية الدعوة كان إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته إعداداً من شأنه أن يحقق بهم الغاية الشرعية المحددة وبالطريقة الشرعية المحددة حتى قيام الساعة.
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات 56].
وقال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) [يوسف 108].
فقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بإعداد ثلة من المؤمنين في مكة كانوا سابقين معه إلى كل خير، ومن ثم تأمنت أجواء المدينة فحقق بمؤمنيها القاعدة التي آوت ونصرت، ومن ثم قام المجتمع الإسلامي كأفضل ما يقوم عليه مجتمع، وتكونت أمة قوية موحدة ذات عقيدة ينبثق عنها نظامها، وذات دستور ودولة، فحملت أمانة الدعوة وكانت أهلاً لقيادة البشرية، وأصبحت مثلاً فريداً في تاريخ الأمم والحضارات، أمة أخرجت لقيادة الناس، تطلب تكوينها العنت والمشقة حتى وصلت إلى أن تتبوأ المكانة التي وضعها الله فيها وهي أنها خير أمة. قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران 110].
وستكون هذه الأمة شاهدة يوم القيامة على الناس بما أخرجت به لهم كما سيكون الرسول عليهم شهيداً. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة 143].
عالمية العقيدة الإسلامية ونظامِها
والدعوة إلى الإسلام تقوم أول ما تقوم على حل قضية الإنسان الأولى والأساسية، قضيته الكبرى وهي قضية العقيدة. فأجابت على كل التساؤلات التي تعترضه في حياته في هذا الكون، فقالت له: من هو؟ ومن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ ومن الذي جاء به؟ وما مصيره هناك؟ وما هذا الوجود الذي حوله؟ ومن الذي يديره؟ وكيف يتعامل معه؟ … الخ. وأقامت بالأدلة العقلية والنقلية الحجج الدامغة والساطعة على صحة أجوبتها، وأعلنت بما يقنع العقل، وبما لا يدع مجالاً لأدنى شك وبما يوافق الفطرة بأن الله وحده هو الذي خلق وقدَّر ودبَّر، وأنه خلق الإنسان لعبادته وأنه خلق الكون بأشيائه وقوانينه تسخيراً للإنسان، وأنه طلب منه أن ينتفع مما أودعه الله في هذا الكون بحسب نظام من عند خالقه، وأنه سميته ثم يبعثه ويحاسبه ويدخله الجنة أو النار جزاء للطاعة والإيمان أو جزاء للمعصية والكفر. فالله الذي بيده ملكوت كل شيء بيده وحده الحكم ويجب إفراده بالعبودية والخضوع والتشريع. وقد أرسل لنا رسولاً منه، يبلغنا ويبين لنا كيفية عبادته وطاعته، وطلب منا أن نفرده بالاتباع.
ولقد كانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود الإنسان ومصيره وستظل هي القضية الكبرى والأساسية والأولى التي يقوم عليها وجوده ومصيره في كل زمان ومكان.
لذلك لا نجد شعباً أو أمة إلا وتحتفظ لها في نفوسها أجوبه لهذه القضية. لوما كان الجواب الذي جاء به الإسلام هو الصالح وحده لكل إنسان وفي كل زمان ومكان، كان لا بدّ أن يصل هذا الجواب إلى الجميع وأن يبلغوه البلاغ المبين ليأخذوا منه موقفاً يحاسبهم الله عليه يوم القيامة فيجزي المؤمنين بالجنة ويجازي الكافرين بالنار.
كذلك فإن النظام الإسلامي الذي ينبثق عن العقيدة الإسلامية هو نظام عالمي يعالج مشاكل الإنسان جميعها، والناس جميعهم مأمورون باتباعه.
بذرة إنشاء الدولة الإسلامية بذرة إنشاء دولة عالمية
من هنا فقد كلفت الأمة الإسلامية بحمل الدعوة إلى الناس كافة.
ومن هنا كان لزاماً على المسلمين أن يتصلوا بالعالم.
ومن هنا، كان لزاماً على الدولة الإسلامية أن تقوم بهذا الاتصال فتبلغ الإسلام وتتخذ الطريقة التي قررها الإسلام لنشر هذه الدعوة.
ومن هنا كان الجهاد، وكانت الفتوحات الإسلامية، من أجل إنقاذ الشعوب مما هي فيه من حياة شقية ومن نظام فاسد، لا من أجل الاستغلال والاستعمار، ولا من أجل ما في بلادها من خيرات، وهذه حقيقة واضحة لا شِيَة فيها مهما حاول أن يزورها المستشرقون.
ومن هنا كان يجب أن تكون بذرة إنشاء الدولة الإسلامية بذرة إنشاء دولة عالمية، لا دولة محلية، لأن عقيدتها عالمية فهي عقيدة للإنسان، ولأن نظامها عالمي إذ هو لكل الناس.
ومن هنا كان طبيعياً أن تنتشر الدولة، وكان طبيعياً أن تفتح البلاد، لأن طبيعة إنشائها توجب ذلك وتحتمه.
ومن هنا لم تفرق الدولة الإسلامية سابقاً في فتحها للعالم بين أن تفتح مصر بخيراتها وسهولة فتحها وبين أن تفتح شمالي أفريقيا على صحراويتها ووعورتها وفقرها وصعوبة فتحها ومشقة نشر الإسلام فيها، لأنها إنما تفتح لنشر الإسلام وحمل دعوته بغض النظر عن فقر البلد أو غناه أو قبول أهله أو رفضهم، أو سهولة فتحه أو صعوبته. فالفتح الإسلامي لا يعرف إلا شيئاً واحداً: هو الدعوة الإسلامية كقيادة فكرية تنبثق عنها أنظمة الحياة، وأن يكون هذا الحمل لجميع الناس في جميع البلاد.
باعث الجهاد وغايته
من هذا المنطلق ينطلق المجاهد في سبيل الله يحركه باعث الإيمان بالله والتصديق برسله فيقذف بنفسه إلى معترك الموت فيَقتلُ أو يُقتَل .وهو لا ينتظر مما يقوم به إلا إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة .وكلاهما فوز. فهو لا يبتغي من جهاده دنيا يصيبها ولا شهرة يحلم بها، ولا يحركه دافع العصبية أو الحميه، ويعتبر أن ذلك جاهلية، إنما يحركه حرصه علي هداية البشرية ونقل الناس من الظلمات إلى النور، وإخراج الناس من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان وعسف المبادئ إلى عدل الإسلام، فمتى تكون كلمة الله هي العليا يجود المجاهد بنفسه وماله، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. وكان له على ذلك من الضمان الإلهي ما يدخله الجنة ويبوئه أعلى الدرجات.
يقول تعالى: (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء 95].
ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة 111].
وقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: يا رسول الله: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل غضباً، فمن في سبيل الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». ويتبين من ذلك أن الله لا يقبل من الجهاد إلا ما كان لوجهه الكريم وابتغاء لمرضاته.
وغاية قصوى يرجوها المجاهد عند الله ألا وهي نوال رضوانه وبلوغ جنته، والظفر بما عند الله من أجر عظيم للمجاهدين في سبيله.
أما الظفر في الدنيا فهو أمر يحرص عليه المسلم كل الحرص لما فيه من إعزاز للدين، وهذا الأمر إن قضاه الله فتلك حسنة عاجلة أكرم الله بها المؤمنين المجاهدين في سبيله، وإن مل يقضه الله فقد حقق المؤمنون غايتهم القصوى وهي نوال رضوان الله وجنته. قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) [النساء 104].
وهكذا تنحصر دوافع الجهاد في سبيل الله عند المجاهد بالباعث الأسمى وهو الإيمان بالله والمطلب العاجل وهو إعلاء كلمة الله والغاية القصوى وهي نوال رضوان الله تعالى.
صفات المجاهدين
وبعد تحديد الغاية من القتال وإعداد العدة له والتصميم على مباشرته بغية نشر الدين ووقفاً لعدوان المعتدين:
-
نرى المجاهدين ينزلون ساح المعركة صفاً واحداً متماسكاً امتثالاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف 4].
– ونرى المجاهدين يمتثلون أمر الله بطاعة القيادة وعدم التنازع.
– ونرى في المجاهدين السكينة واطمئنان القلوب. يقول تعالى: (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) [التوبة 26].
وكما أن الإعداد الروحي مما يجب توفره في المجاهدين، كذلك فإن الإعداد المادي تقوم به الدولة بكل استطاعتها فتعمل على إنشاء مصانع السلاح ومختبراتها وتحافظ على أعلى مستويات الإعداد تدريباً وتدريساً، وتفرض التجنيد الإجباري لتجعل الأمة كلها تحت السلاح وليتمكن المسلمون من القيام بهذه الفريضة وخاصة عندما يتعين عليهم.
ومن أجل ذلك ترتفع قوة المقاتلين في سبيل الله بنسبة ما في قلوبهم من إيمان وصبر وصدق مع الله حتى يكون الواجد كفؤاً للعشرة من العدو في الحد الأعلى، وكفؤاً لاثنين من العدو في الحد الأدنى. قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ @ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال 65 ـ 66].
كيد الكفار لهذه الفريضة
في هذا الجو يعيش المجاهدون، ومن هذا المنطلق ينطلقون.
فما من جيش استجمع كل ذلك إلا ونزع الجبن من قلوب أفراده فلم يخشوا الموت، وألقِي الرعب في قلوب أعدائه.
وما من جيش استجمع كل ذلك إلا وأقبل أفراده على القتال وهم شديدو البأس، ثابتو الأقدام، مطمئنون، عليهم سكينة الله، ومؤيدون بمعونته المادية والمعنوية وكلهم أمل بنصر الله وإنفاذ وعده ولهم ما داموا مستجمعين لما سبق، كيف لا وهم إنما يقاتلون أعداء الله وأعداء دينه.
هذا الأمر هو الذي ألقى الرعب في قلوب أعداء الله.
وهذا الرعب هو الذي دفع الكفار لأن يكيدوا لهذا الركن العظيم من الإسلام.
نعم لقد لاحظ أعداء الإسلام هذه العقيدة الراسخة التي تجعل جيوش المسلمين حملة رسالة الجهاد في سبيل الله كأنها الجبال الراسيات قوة وثباتاً. وامتحنوها يشكل عملي خلال قرون. فوقفوا أمامها وقد مستهم صدمة عنيفة من الذعر والدهشة والحيرة فأرادوا أن يفتّتوا هذه القوة الهائلة بعد أن علموا أن سرّ قوة المسلمين تنبع من الداخل، من الإيمان العامر الذي يدفع إلى الإعداد الكافي مادياً وروحياً من قبل الدولة والأفراد. لذلك وجهوا سهام الافتراء على ذروة سنام الإسلام ألا هو الجهاد وقاموا بغزو المسلمين فكرياً ليحولوا المفهوم الصحيح هذا إلى مفهوم مغلوط، فقالوا إن الجهاد هو للدفاع فقط، ويريدون بذلك أن يوقفوا نشر دعوة الإسلام عن طريق الجهاد وأن يضعوا المسلمين في موقف الضعف. إن هم هوجموا جاهدوا دفاعاً، وإن لم يهاجموا فلا حاجة للجهاد، وإلا فإنه عدوان والله لا يحب المعتدين. وعملوا على أن يحل المسلمون الاعتماد على إمدادات الدول الكافرة ذات المصالح المتعددة محل الاعتماد على الله. وبردوا حرارة الإيمان وذكر الله وأحلوا محلها عبارات القومية والوطنية. ورأوا أنه لن يتم الظفر على المسلمين إلا بذلك وبذلك تفقد الجيوش الإسلامية سر قوتها.
الرد على افتراء أن الإسلام انتشر بالسيف والإكراه
نعم لقد هاجم الكفار الغربيون الجهاد في سبيل الله فكرياً عن طريق المستشرقين وأتباعهم المستغربين وقالوا بأن الدين الإسلامي لم ينتشر بالدعوة والإقناع وإنما انتشر بالسيف والإكراه، وأن جموع المسلمين الأوائل كانت مواكب من الهمج المحتشدة مسلطة سيوفها، متقدة صدورها بنار البغضاء والغضب، زاحفة إلى الأمام ما إن ترى كافراً حتى تمسك بخناقة وتجعله بين أمرين: إما أن يقول لا إله إلا الله فينجوا بنفسه وإما أن يضرب عنقه.
وهذا الافتراء المقصود ما أسهل ما يبين الشرع فساده ويكسر الواقع نصاله.
إننا كما أسلفنا من قبل أن الدولة الإسلامية عندما تقوم بفرضية الجهاد وفتح البلاد إنما تقوم بذلك لكسر كل الحواجز المادية التي تقف حائلاً في وجه الدعوة، ولازالة القوة التي تمنع وصول الدعوة الإسلامية إلى الآخرين حتى يخلي بين الناس وبين ما يرشدهم إليه العقل وتهديهم إليه الفطرة. لذلك عندما دخل الناس في الإسلام دخلوا أفواجاً، ولم يدخلوا دخول المقهور المغلوب على أمره لأن الفتح الجائر يباعد بين الفاتح والمفتوح، وبين الغالب والمغلوب. ولذلك رأينا وما زلنا نرى أن المسلمين في كل أصقاع الأرض صهرت بينهم العقيدة الإسلامية صهراً لا ولن تجد له نظيراً. فقد أذابت كل القوميات والعادات والأعراف والأديان وحتى اللغات المختلفة وأصبح الإسلام يملي على المسلمين بكل أجناسهم وأعراقهم وأفكاره ومفاهيمه وأصبحوا بذلك أمة واحدة هي الأمة الإسلامية. ولنا أن نسجل مفخرة يمتاز بها الجيش الإسلامي عن باقي جيوش العالم. فإن ما من جيش يباشر القتال إلا وتنقص أعداده إلا الجيش الإسلامي، لأنه عندما يخرج في سبيل الله لا يخرجه إلا ذلك يجد نفسه أمام أمر لازم: أنهم دعاة وهداة ويغدو المستجيبون الجدد لدعوته مثل المجاهدين الفاتحين دون أي فرق يحلمون معاً همَّ الدعوة عن طريق الجهاد، ويعملون أن الخير الذي أصابهم من جهاد والأوائل لهم، يحملهم على القيام بالجهاد لتعميم هذا الخير حتى يصل إلى أرجاء المعمورة. قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ) [الأنفال 74].
ومن هنا نرى أن الغرب الكافر تجاه هذا الواقع المخيف والمهدد له أخذ يكيد ويحاول أن يرجع المسلمين كلاً إلى جاهليته الأولى ولكن هيهات أن ينال مأربه، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال 36].
إن المسلمين حتى يومنا هذا، رغم كل الغزو الفكري عليهم ورغم تأثرهم به إلى حد بعيد لم يتخلوا عن الإسلام، دين العقل والفطرة، وكل المحاولات الفكرية والمادية التي حاولت القضاء على العقيدة في النفوس وتحاول، باءت بالفشل. فقد أكد المسلمون تمسكهم بالإسلام ولم يتخلوا عنه رغم محاكم التفتيش وبيوت النيران ومقاصل الجلادين سابقاً والهجرات الجماعية التي تمارس عليهم في البلدان الاشتراكية حديثاً ومحاربتهم حتى في أسمائهم لتغييرها، ورغم محاربة الإسلام والمسلمين في بلادنا فكرياً ومادياً واتهام الإسلام بأنه رجعية واتهام المسلمين بأنهم عملاء، ورغم أن المسلمين لم تقم لهم دولة، رغم هذا كله وغيره، نرى أن تمسك المسلمين بالإسلام أمر لا بحث فيه ولا جدال. بل أن خضوع المسلمين لأفكار الكفر وأنظمته واصطلاهم بنيراها جعلهم يدركون قيمة دينهم أكثر وملاحقة المسلمين في دينهم وتعذيبهم وتشريدهم جعلتهم يدركون الحقيقة الكامنة وراء كراهية الكفار لهذا الدين بما يملكه من قدرة واسعة على الانتشار والاقناع ومعالجة مشاكل الناس كل الناس، هذه القدرة التي يملكها الإسلام جعلت الدول الكافرة الغربية تخاف على مصالحها ونفوذها، فحاربت الإسلام محاربة الباطل اللئيم للحق المبين.
من هنا كان هذا العداء، وكان هذا الكيد، يقول تعالى: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ) [الطور 42].
لذلك وعندما بدأ المسلمون يثوبون إلى رشدهم بدأ الكفار يطير رشدهم، لأنهم يعلمون أن بساط الظلم والاستعمار الذي بسطوه على الناس سيسحبه منهم المسلمون وسيجعلونهم دولاً مغزوة بدل أن تكون غازية. وعندها لن يعاملهم المسلمون كما عاملوهم ولن يحملوا لهم ما حملوه لنا من الظلم والقهر بل سنكون لهم ولغيرهم دعاة هداة نهدي إلى صراط ربنا الحميد. وإذا لم تقبل دولهم هذا من المسلمين فبيننا وبين هذه الدول الجهاد في سبيل الله، وإن غداً لناظره قريب.
الرد على افتراء أن الجهاد شرع للدفاع فقط
لقد كان الكفار الغربيون يتمادون في اتهامهم بحسب قرب المسلمين منهم أو بعدهم عنهم، فجعلوا لكل مقام اتهاماً. ففي حين أقنعوا المستغربين بهذا الذي ذكرناه آنفاً، فإنهم أرادوا أن يخففوا الاتهام عند الآخرين فقالوا إن الإسلام قد شرع الجهاد للدفاع فقط ولم يشرع للهجوم. فالهجوم اعتداء والدفاع حق مشروع للجميع. وقد ألقى الكفار اتهامهم هذا بشكل خبيث ودرست ردة فعل المسلمين عليه. فقالوا: هل الجهاد دفاع أم اعتداء؟ فانبرى المسلمون المخلصون يردون عليهم: معاذ الله أن يكون الجهاد هجومياً عدوانياً! بل هو دفاع فحسب.
ولكشف الحقيقة وتبيان زيف هذا الادعاء الباطل نعود للتذكير بأن عالمية العقيدة والنظام في الإسلام تفرض على المسلم من الله أن يوصل هذه العقيدة والنظام إلى كل الناس في الأرض لذلك شرع الجهاد. فهو يهدف إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي لا تقوم على أساس حاكمية الله، ذلك أن طبائع الحكام تغلب عليها مقاومة كل فكرة من شأنها أن تؤثر على مصالحهم وأنظمتهم. لذلك تدعو الضرورة إلى اللجوء إلى الجهاد حتى تتم إزالة كل من يقف بين الدعوة وبين وصولها للناس ليختاروها أو يرفضوها بمحض إرادتهم. فتتم التخلية بعد رفع الضغط السياسي والفكري عنهم وبعد البيان الشافي لعقولهم ونفوسهم، وليعتنق بعدها كل منهم العقيدة التي يراها ولكن في ظل النظام الإسلامي العام، وبهذا يكون الدين كله لله.
وقد كان المسلمون يعرضون على الناس خيارين قبل أن يبدؤوهم بالقتال.
1- كانوا يعرضون عليهم الإسلام فإن قبلوا تنتهي المشكلة فيصبحون جزءاً من الأمة الإسلامية، وبلادهم جزءاً من الدولة الإسلامية.
2- وإذا لم يقبلوا يطلبوا منهم أن يعطوا الجزية ويحكموا بالإسلام. ويتركون وما يعتقدون وما يعبدون وتترك أحكام الأحوال الشخصية بحسب أديانهم في إطار عيشهم الخاص، بينما يكون النظام الإسلامي العام مطبقاً على الجميع ولهم على ذلك ذمة الله فيحافظ عليهم وتحمى حقوقهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ويكونون أمام النظام سواء مع المسلمين.
3- إن لم يقبلوا الشرط الثاني يحملوا على قبوله عن طريق الجهاد. فيجاهد فيهم، ويكون الذي دفع إلى هذا موقف الحكومات المقابلة التي رأت أن مصالحها ستتعرض للخطر. ومن هذا المنطلق المصلحي الضيق يحارب الحكام الفكرة الإسلامية ونظامها.
لذلك فإن جدية النصوص في الجهاد، وجدية الغاية التي وضعت له، وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام، وانتشار الإسلام في النفوس وفي الأرض، تمنع أن يؤوّل الجهاد هذا التأويل الذي ينافي طبيعة الجهاد، وترفض اعتباره أمراً طارئاً مقيداً بملابسات تذهب وتجئ أو شأناً عابراً أوجد للدفاع فقط.
طرابلس الشام ـ أحمد المحمود
يتبع
بطن الأرض خير من ظهرها
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كانت أمراؤكم أشراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نساءكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها».
[حديث صحيح رواه الترمذي والحاكم].
1988-09-05