واقع المسلمين
1988/06/04م
المقالات
3,040 زيارة
منذ أنْ كَبَت هذه الأمة والمفكرون يحاولون تشخيص الداء الذي أصابها، فمنهم من قال بأن الداء هو فقرها الاقتصادي ومنهم من قال بأن الداء هو افتقارها للمتعلمين والمثقفين ومنهم من رأى الداء بالتشريع فبدأ كل واحد منهم بوضع طريقة لنهضة الأمة الإسلامية على ضوء ما اكتشف أنه سبب تخلفها، فهما هو السبب الحقيقي لتخلف المسلمين؟
لا يرتاب أحد في أن المسلمين قبيل طلائع الصحوة الحالية كانوا قد وصلوا إلى الحضيض في الهبوط الروحي والتخلف المادي والانحطاط الفكري، ولكن التضليل السياسي الذي بلغه كان أدهى وأمر لأنه ترتب على نتائجه تنازعهم فيما بينهم، تارة عن طريق القطيعة وتارة عن طريق الاقتتال، حتى انتهى الأمر إلى تصدع صفوفهم وشرذمتهم في هذا العالم الذي بلغ فيه عددهم ما يفوق المليار من البشر.
وفي بداية الثمانينات بلغ التحدي للإسلام من قِبَلِ أعدائه شأْوَه، وكان ينبغي أن يبلغ تحدي الإسلام لمناهضيه منتهاه، وكان يجب أن يرتفع المسلمون إلى مستوى تحدي مناهضيهم. ولكن الذي حدث ولا يشك أحد به، هو أن العلاقات الإسلامية في جميع البلاد الإسلامية قد دمرت تدميراً شاملاً، وحلت محلها العلاقات الديمقراطية الرأسمالية في جهة، أو بعض العلاقات الاشتراكية في جهة ثانية ولا يستطيع مسلم أن ينكر أن روابط الأخوة الإسلامية بين الشعوب المسلمة قد تقطعت وحلت محلها روابط القومية أي روابط العصبية القبلية، وأن هذه الأخوة الإسلامية سائرة في تقطيع روابطها في القطر الواحد، فضلاً عن الشعب الواحد، وفضلاً عن الأسرة الواحدة، لتحل محلها روابط الأرض المسماة بالإقليمية، ولم يبق بين أيديهم من أفكار الإسلام إلا أحكام العبادات، ومن المشاعر الإسلامية سوى المشاعر الكهنوتية. ولكن الذي لا تدركونه أيها المسلمون، ويدركه عدوكم هو ما أنتم مشرفون عليه، وهو أن تمحى سيماء الأمة الإسلامية المميزة وتدمر فضائها الخاصة وتنعدم نفسيتها الخيرة وتنحرف عقليتها النيرة وتذوب أخيراً الشخصية الإسلامية من الوجود؛ كيف لا والمسلمون الذين يرتفع ولاؤهم للإسلام على كل ولاء قد قلّت نسبتهم في الأمة، والمؤمنون الذين يجعلون الله ورسوله والجهاد في سبيله في رأس سلم القيم قد ندر وجودهم. والشهور بمرارة الهزيمة أمام الأعداء قد ضعف وكان ينعدم ولو يعد يحس به إلا القليلون من المسلمين الذين لا يؤثرون في سير الحياة المتجه إلى غير صالح الإسلام.
هل القضية سببها الاقتصاد
وإنه لَمنَ التضليل أن يقال أن القضية قضية اقتصادية، لأن هذا يعني أن الفقر هو سبب انحطاط الأمة، والغنى هو سبب رفعتها؛ وهذا باطل لا شك فيه.
فالغنى و لا ينهض بالفرد، ولا ينهض بالأمة، لأن النهضة هي الارتفاع الفكري، بل النهضة الصحيحة هي السمو الفكري على الأساس الروحي.
فإذا وجدت الأفكار وجدت النهضة؛ وإذا عدمت الأفكار كان الانحطاط. فالأفكار في أية أمة من الأمم هي أعظم ثروة تحوزها الأمة في بدء حياتها ونهضتها، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر.
وإذا دمرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفكرية أما إذا تداعت الثروة الفكرية وظلت الأمة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة، وتسير الأمة إلى حالة الفقر كما هي حالة المسلمين اليوم. لقد تسلّم مقدرات ثرواتهم المادية أعداؤهم من أهل العلم والفكر، وتنعم بخيراتها المتفوقون فكرياً من أنفسهم ومن أعدائهم وغدت مصارف العالم تغص بأموالهم، ومصانع الغرب والشرق تدار بثرواتهم وهم لا يملكون شيئاً يحوزونه. والواقع الراهن يدل دلالة واضحة على أن الأمة الإسلامية من أغنى الأمم إن لم تكن أغناها إذا جُمعت ثروتها ورجعت الدولة الإسلامية الواحدة كما يفرض ذلك الإسلام على جميع معتنقيه.
وفوق ذلك فإن الاقتصاد حتى ينمو وينتقل من الزراعة وحدها إلى الزراعة والصناعة بحيث تكون الصناعة هي رأس الحربة لا بد من حافز يحفز الأمة على التصنيع، وهذا الحافز الحادي لا ينبثق إلا عن فكر وقدرات عقلية.
ومن أعظم الفكر، العقيدة العقلية التي تنبثق عنها الأفكار في الحياة.
وعليه فالقضية ليست قضية اقتصادية، وإنما هي قضية فكرية أي قضية الثقة بما ينبثق عن عقيدة الإسلام من أفكار.
هل القضية هي قضية علوم
ومن السطحية أن يقال أن القضية قضية تعليم وعلوم، لأنه يعني أن العلوم هي الحافز وليست الأفكار؛ مع أن الواقع يشهد أن الأفكار هي الحافز، والعلوم إنما تتأثر بالأفكار ارتفاعاً وانخفاضاً ووجوداً وعدماً والذي يُسير الحياة هو الأفكار، لا العلوم.
وأن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها.
أما إذا فقدت طريقة تفكيرها ـ أي فكرها الأساسي عن الحياة ـ فإنها سرعان ما تتقهقر وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات.
على أن الأمة الإسلامية فيها من المعلمين والمثقفين عدد ضخم يعد بمئات الألوف، ومع ذلك لا تزال متأخرة في الاكتشافات والاختراعات، لأنه لا يوجد لديها فكر يوجه هذه المعارف والعلوم نحو غاية معينة فيدفعها إلى الأمام لخدمة تلك الغاية السامية.
وفوق ذلك فإن العلماء والمخترعين يملأون الأرض، وهم أجراء يمكن إحضارهم من أية بقعة من بقاع الأرض كأجراء، ولكن إحضارهم وإحضار أمثالهم لا يعالج المشكلة من أساسها إذا لم يوجد فكر عند الأمة، فالمسألة مسالة فكر حتى تتم النهضة وتصل الأمة إلى ما تريد.
هل القضية هي قضية تشريع
ومن غير الدقة أن يقال أن القضية قضية تشريع وقوانين لأن هذا لا يعني أن القوانين هي أساس الحياة، وأساس الدولة، وهذا غير صحيح.
فإن القوانين والأحكام إن هي إلا معالجات للمشاكل اليومية التي تحدث مع البشر منبثقة عن وجهة النظر في الحياة، فالأصل هو وجهة النظر التي انبثقت عنها القوانين وليست القوانين.
ألا ترون أن رعايا الدولة الإسلامية كانت تطبق عليهم نفس الأحكام التي كانت تطبق على المسلمين، فهم والمسلمون أمام القاضي والحاكم سواء.
ومع ذلك فقد كان المسلمون في الدولة الإسلامية هم أصحاب الرسالة، وهم حَمَلة الدعوة، وكانت تتمثل فيهم النهضة.
ثم ألا ترى الآن أن المسلمين في أكثر بقاع الأرض يطبق عليهم التشريع الغربي والقوانين الغربية، ولكنهم لا يزالون يعتنقون العقيدة الإسلامية؛ فالقوانين الغربية لم تنبثق من عقيدتهم، ومع ذلك فهم لم يلحقوا بنهضة الغرب ولم يحصل عندهم ارتفاع فكري، ولا يزالون منحطين متخلفين عن الغرب، مع أنهم مضى على تطبيقهم القوانين الغربية ما يناهز الستين عاماً؛ مما يدل على أن القضية ليست قضية تشريع، وإنما هي ما ينبثق عنه هذه القوانين من وجهة نظر شاملة عن الكون وما فيه من مظاهر الحياة. وكل ذلك يعود إلى الثقة بالقوانين من حيث انبثاقها عن العقيدة؛ أي إلى وجهة النظر في الحياة، أو ما يسمونها في العصر الحديث بالأيديولوجية. وعلى هذا فالقضية هي الأمة الإسلامية بوصفها أمة، وبوصف هذه الأمة أمة إسلامية، لأن هذه الأمة لا تفتقر إلى غيرها في الأيديولوجية، بل هي من أغنى الأمم بفضل ما أعطاها الله عن طريق قرآنه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فمشكلة الأمة الإسلامية ليست في إيجاد العقيدة الإسلامية عندها، ولا هي في تقوية اقتصادها، ولا في إيجاد التعليم والثقافة فيها؛ ولا في إصلاح تشريعها وإيجاد دستور وقوانين لها، وإنما المشكلة هي في ربط عقيدتها بدستورها وقوانينها، أي جعل التصديق الجازم منصباً على الأفكار والأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة، ومما دل الكتاب والسنة على أنه دليل شرعي يعاقب من يحيد عنه ولا يطبقه على نفسه وغيره.
وبعبارة أخرى هي إيجاد الثقة بالأفكار والنظم المنبثقة عن العقيدة الإسلامية.
معالجة القضية وإعادة الثقة
إن علاج القضية محصور بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخطأ لإصلاح هذا الخطأ وليس هناك شيء غير هذا مطلقاً.
فالمسلمون لا يزالون مسلمين والحمد لله رغم كل ما هم عليه؛ فلا تزال عقيدتهم عقيدة إسلامية، والإسلام لا يزال في أصوله الكتاب والسنة كما كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة وما دل عليهما الكتاب والسنة لا تزال كما كانت في جميع العصور الذي استنبطت فيه، وكيفية الاستنباط لا تزال كما كانت يوم وضع علم أصول الفقه.
فليس هناك نقص في اعتقاد المسلمين بالإسلام، ولا تغير في مبادئ الدين، ولكن هناك فقط زعزعة في الثقة بالأفكار والأحكام المنبثقة عن العقيدة الإسلامية، ترتب عليها وجود خلل في كيان الأمة، ووجود خلل في كيان الدولة أدى إلى تدمير الدولة، وسار بالأمة في طريق الفناء حتى جعلها على حافة الهاوية.
فالعلاج لا يكون إلا بالرجوع إلى النقطة التي بدأ منها الخطأ، أي إلى علاج الزعزعة التي حصلت في الثقة بالأفكار والأحكام المنبثقة عن العقيدة الإسلامية. والغاية من العلاج هي إنهاض الأمة، لاستئناف الحياة الإسلامية، وحمل الدعوة الإسلامية على حقيقتها إلى العالم بأسره.
1988-06-04