خطورة فكرة التدرج في تطبيق الشرع
2013/02/28م
المقالات
4,712 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
خطورة فكرة التدرج في تطبيق الشرع
عصام الشيخ غانم
تعتبر فكرة التدرج في تطبيق أحكام الله في الأرض من أخطر الأفكار المطروحة الآن على ساحة العمل الإسلامي، فهذه الفكرة تعيق عمل العاملين المخلصين للإسلام وترخي من عزائمهم، وبدل الاندفاع إلى الأمام تصبح فكرة التدرج عاملاً يلفت الرجال عن مواقف الحق، فيقبل الدنية في دينه، وهي أداة للتنازل عن الثوابت الشرعية في كل الأعمال السياسية لدرجة لا يستطيع المراقب أن يفرق بين بعض الجماعات الإسلامية والعلمانية، وفي الظرف الحالي زمن الثورة فقد أخذت فكرة التدرج بالبروز إلى السطح بقوة، وأصبح من يطبق أحكام الكفر تحت ذريعة التدرج ينعت في وسائل الإعلام بالمعتدل، ومن يناهضها ينعت بالتطرف والأصولية، وقد أجادت الدول الاستعمارية الكبرى في ثني الجماعات المسماة بالمعتدلة عن الإسلام ونجحت في إبعادها عن العمل السياسي الإسلامي، وتلاشت الفروق بين تلك الجماعات والأحزاب العلمانية.
وإذا كنا نجزم جزماً بأن هذه الفكرة لا أصل لها في الشرع على الإطلاق، فإننا نرى بأن بعض الجماعات التي عرفت عبر القرن العشرين بأنها إسلامية قد أخذت تطبق أحكام الكفر حكماً حكماً، ورفضت أحكام الإسلام بالجملة اللهم باستثناء القليل تحت ذريعة التدرج. فيتعجب المسلم وهو يستمع لتصريحات راشد العنوشي زعيم حركة النهضة التونسية وهو يرد على المظاهرات المنادية بتطبيق الإسلام في تونس، فكما ذكرت الـ (بي بي سي) بأن «راشد العنوشي يرفض للمرة الثالثة تطبيق أحكام الإسلام في تونس»، وقد استمعت إلى محرزية العبيدي في حوار مباشر مع الـ (بي بي سي)، في ردها على سؤال حول قانون تعدد الزوجات في تونس، فردت هذه الممثلة لحزب النهضة في المجلس التأسيسي وهي ترتدي حجابها «بأن تعدد الزوجات لن يكون في تونس» ورددتها عدة مرات، ولا شك أن هذا الرفض لأحكام الله مرده القناعة البائسة التي توهم هؤلاء «الإسلاميين» أنها شرعية، والتي أخذوا يرفضون بموجبهاأحكام الله ويقبلون على أحكام أوروبا وأميركا ويعدون دساتير هذه الدول مثلاً يحتذى به، وكأن الإسلام لم ينزل، وكأن الله لم يشرع أحكاماً. وقد أجاز هؤلاء لأنفسهم التصويت وفق اللعبة الديمقراطية على القوانين المختلفة التي لا تمس الإسلام بصلة، وكأنهم أطفال يلهون في ساحة العمل الإسلامي.
وأما جزمنا بأن هذه الفكرة دخيلة على الإسلام، فمرده إلى أن الإسلام الذي أرسل به محمد عليه الصلاة والسلام قد نقل إلينا بطرق لا خلل فيها وأساسها يقيني، ولم يرد في ما ورد على الإطلاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أجَّل تطبيق بعض الأحكام، حتى يفهم من ذلك أنه تدرج، أو أنه قد طلب من صحابته تطبيق أحكام وأباح لهم تأجيل أخرى، ولم يرد كذلك ما يفهم منه تدرج في ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم. وما وردنا أن كل حكم شرعي كان يتنزل، كان يطبق فوراً. ومشهور ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كسر ما بيده من خمر عندما أتاه تحريمها، ومعروف عن النبي الكريم رفضه لكل دعوات زعماء قريش له بالتنازل، بل إن كتاب الله يحذر مما هو أقل من ذلك (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ). والحقيقة أن المروي لنا عن المسلمين أن اسلامهم كان دائماً انقلاباً شاملاً في حياتهم، في الإيمان والالتزام بأحكام الدين الجديد. والانقلاب هذا معناه أخذ كل ما أتى به الإسلام إلا أن يكون المرء مكرهاً وعنده دليل من الشرع أن الإسلام يبيح له عمل محرم، كالنطق بالكفر وقلبه عامر بالايمان إذا ما تهددت حياته، أو أكل ما هو محرم إذا لم يوجد غيره وأصبحت حياته عرضة للخطر، وفي كل ذلك أدلة من الشرع لكل عمل على حدة بأنه يباح، وكذلك حدود تلك الإباحة.
وربما ظن البعض أن تحريم الخمر على عدة مراحل كما يقولون هو دليل التدرج، وهنا لا بد من الجزم بأن من يقول هذا قد وضع نفسه مكان الخالق والعياذ بالله في التحريم والتحليل، فتحريم الخمر بهذه الطريقة هي شأنه تعالى، وقد كان المسلمون يلتزمون بالحكم وقت نزوله، فحكم الشرع في تجنب السكارى للصلاة قد التزمه المسلمون فوراً ولم يقترب أي منهم من الصلاة سكران، وعندما حرمت لم يتدرج أي منهم في الإقلاع عنها، بل كان إقلاعه عنها فورياً كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وإذا وضح شأن تحريم الخمر بأنه شأن الله تبارك في علاه، وقد وضح شأن النبي عليه الصلاة والسلام في التطبيق، وكذلك شأن الصحابة رضوان الله عليهم في فورية التطبيق لأي حكم، لم يعد أبداً أي حجة لمن يقول بالتدرج، وإلا فماذا يقول هؤلاء في الكثير من الأحكام الشرعية التي نسخت، فهذا شأن الشارع يحرم كيف يشاء، وينسخ ذلك متى شاء، فمثلاً كان حكم الزانية الإمساك في البيت أي السجن الدائم في البيت، والحكم الذي تلاها هو أخف من ذلك إن كانت غير متزوجة، فالجلد أخف من السجن الدائم، فهل هذا تدرج من الأصعب إلى الأسهل حسب طريقة تفكير من يدعي التدرج. قطعاً لا، بل هذا شأن الخالق يطلب من عباده ما يشاء، وينسخ من طلباته ما شاء، فلا يسأل عما يفعل. وفعل التشريع والذي هو من الله حصراً، سواء أكان لفظاً ومعنى كالقرآن الكريم، أم معنى منه تعالى وبلفظ نبيه صلى الله عليه وسلم كالحديث، هو غير القيام بالفعل أي التطبيق، فموضوع التدرج هو تطبيق الرسول عليه السلام وصحابته للأحكام الشرعية وليس فعل التشريع الذي هو لله وحده، وما روي إلينا عن كل تطبيق الأحكام والالتزام بها أنه كان فورياً دون تدرج، والحاصل اليوم أن الشريعة كلها بين أيدينا، والمطلوب من المؤمن أن يطبقها كلها إلا إذا أباح له الشرع ترك بعضها في بعض الحالات كحالات الاضطرار في المطعومات التي ذكرت آنفاً. وبدون دليل من الشرع على تلك الإباحة لا يجوز على الإطلاق إصدار أي حكم عقلي، والظن أنه حكم للشرع وكأن الشريعة لم تكتمل وأصبح دين الله يحتاج إلى فلان من الناس لا يوحى إليه ليزيد في أحكامه أو يسقط منها شيئاً والعياذ بالله.
والذي نراه أن مسألة التدرج هذه ليست طرحاً سببه الشرع عند هؤلاء المنادين بها، بمعنى أن هؤلاء لم يدرسوا هذه المسألة من الناحية الشرعية وخلصوا إلى أن الشرع يبيحها، بل الحقيقة أن هؤلاء لم يفلح فهمهم غير العميق للإسلام إلى غرس فكرته في أذهانهم، ووجدوا أن هناك في الشرع ما يمكن فهمه كذلك بسطحية ودون عمق اجتهاد، بل وصل بهم الأمر إلى اتهام يوسف عليه السلام بأن الله أوحى له بشريعة وقد خالفها في حكمه مع عزير مصر وتركها وحكم بغيرها، وهذا يدل على مدى الخطورة في هذا الطرح، فمن أين لهم علوم يوسف عليه السلام؟ وكيف يمكن لمسلم أن يصدق وهو يقرأ سورة يوسف وصبره على حكمٍ واحدٍ وسجنه الطويل لأجل ذلك الحكم، أن هذا النبي يمكن أن يخالف شريعة الله التي بين يديه ويحكم بغيرها، فقد آثر السجن على الزنا! فكيف به يفرط بدين أوحي اليه؟ ومن أين لهؤلاء هذه العلوم التي يعلمونها ولا يعلمها غيرهم عن يوسف عليه السلام؟
وإذا كان يمكن للعقل أن يقبل أن يقوم حاكم مسلم بتطبيق جل أحكام الإسلام وأن يترك بعضها القليل لأنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً، أو أن قوة جبارة تمنعه من ذلك، فإن العقل يدرك أيضاً أن هذا الحاكم المسلم يعمل بجد دون أن يرى راحةً للنوم على تذليل كل تلك العقبات وإزالة كل تلك الصعوبات من أجل تطبيق بقية الأحكام، وإلا فلماذا يتصدى للحكم بالإسلام وهو لا يستطيع، وهو يعلم خطورة ذلك، فالقرآن الكريم يجزم بأن من لا يحكم بما أنزل الله يكون كافراً أو ظالماً أو فاسقاً، والحاكم الذي يريد وجه الله لا يطيق أي من تلك الأوصاف القرآنية، فجلوسه في بيته بعيداً عن الحكم أهون عليه من أن يكون كافراً أو ظالماً أو فاسقاً. وبغير ذلك لا يمكن للعقل أبداً أن يتصور أن ذلك الحاكم يريد وجه الله تعالى، وبغير ذلك يكون هذا الحاكم واحداً من الحكام الكثر الذين لا يقيمون لدين الله وزناً.
وإذا كنا نجزم فيما نراه من تجارب للحركات الإسلامية المسماة “معتدلة” بأنها ليست تلك الجماعات التي تستهدف دين الله وتريد رفعته، وإنما هي تنظر إلى غنائم الحياة الدنيا في الحكم دونما اعتبار لأحكام الله، بل وباستخفاف بدعاة الإسلام الذين يطالبون بتطبيق شامل لأحكام الله، وفي ذلك من الأمثلة كثير، نأخذ بعضاً منها:
قبل عصر «الربيع العربي» قيل عن تطبيق الإسلام في السودان بالتدرج، وامتدح ذلك من يسمون بالمعتدلين في ربوع العالم الإسلامي، ليتبين لمن لا يرى إلا بعد عقود بأن نظام عمر البشير كمثل نظام حسني مبارك، وإن كان دائم الكلام عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وها نحن نرى الآن السودان دولة لا شريعة في حكمها، وأن رئيسها عميل لأميركا، وهو يقف مع السفاح بشار أسد وضد ثورة المسلمين عليه، وهو قد قسم بلاد المسلمين في السودان وأعطى الجنوب للكفار هدية بأمر أميركا، وأن أحكام الربا لا تزال نافذة بقوة في بنوك السودان بعد عقود، بل لا يوجد نية في تغييرها، ولا يطالب بتغييرها أحد من الحركات «المعتدلة»، وهذا للتمثيل، فالحكم في السودان فارغ من أي مضمون أو شكل إسلامي، وأما أحكام الطلاق والزواج والميراث فهي مطبقة بحكم أن المسلمين يستحيل أن يتزوجوا على غير الإسلام، وكذلك الطلاق والميراث، فالأحوال الشخصية إسلامية في كل بلاد الإسلام تقريباً ولا يستثنى من ذلك إلا القليل كتونس بن علي، وتونس الغنوشي، فهذه الأحكام لا يمكن للدولة أن تفرض فيها شيئاً لا يقبله الناس في أدق شؤون حياتهم اليومية. وحتى في روسيا وفي زمن الاشتراكية التي كان يفرض فيها على المسلمين قانون الزواج المدني فرضاً وإجباراً فقد كان المسلمون يعقدون عقود زواج أخرى شرعية قبل استحلال الزواج. أي أن لا فضل في تطبيق تلك الأحكام على البشير ونظامه والذي لم يزد في ما كان مطبقاً إبان حكم النميري ومن سبقه.
وأما في تركيا حيث سبق حزب العدالة والتنمية إلى الحكم أخواته من أحزاب الإخوان المسلمين في العالم العربي. فلا أدري عن أي إسلام يمكن الحديث عنه هناك، فالمحجبة لا يمكنها دخول الجامعة أو العمل الحكومي، ولا أدري عن أي مثال يحتذى به في تركيا، فقد أتى أردوغان إلى مصر وطلب من الإخوان المسلمين بشكل مباشر وعبر وسائل الإعلام القبول بالعلمانية أي ترك الإسلام. وإذا كان بعض السذج يغريهم النموذج الاقتصادي التركي، فليعلموا بأن النموذج الأميركي والأوروبي والياباني أفضل منه بكثير، والمسلم يبحث عن فعل الإسلام، ولا يبحث عن رفاهية زائفة قد صنعتها العلمانية التركية بأيدي حزب يقال إنه “إسلامي”، بل إن سجون تركيا مليئة بدعاة الإسلام، وليتسائل المسلم كم من اليهود قتلت تركيا وهي صاحبة الجيش الجبار بعد قتل اليهود لمواطنيها على سفينة الحرية المتوجه إلى غزة، فليستحيِ أي مسلم من طرح تركيا-أردوغان نموذجاً.
وفي غزة هاشم تحكم حركة حماس منذ 2007م حكماً منفرداً لا تشاركها فيه فتح، وقد طمأن وقتها خالد مشعل الصحفية المتخوفة من مستقبل الحكم في غزة بكلمة واحدة “التدرج”، والآن وبعد هذه السنين من الحكم! كم عدد أحكام الإسلام التي طبقت؟ ما هي نسبة أحكام الإسلام المطبقة من نسبة أحكام غير الإسلام “أي أحكام الكفر”؟ سيستغرب المسلم بأن تلك النسبة صفر، وسيستغرب بأنه لا يوجد مشروع للتخلص من البنوك الربوية مثلاً، وهي من أبسط أحكام الإسلام المعروفة، بمعنى أن السنين القادمة ستحمل صفراً من أحكام الإسلام المطبقة قياساً على ما مضى. وهذا ليس للتسلية، وإنما لبيان أن هذا التفكير المتذرع بالتدرج قد أصبح يتخذ التدرج ذريعة لعدم تطبيق أي شيء، فهي وسيلة لصد المخلصين من أبناء الحركة الذين يتساءلون أين أحكام الإسلام؟ وهم يسمون حكومة حماس في غزة بالحكومة الرشيدة، أي تشبيهاً لها بحكم الخلفاء الراشدين! يقولون لمحمود عباس اذهب إلى الأمم المتحدة وتنازل عن 80% من فلسطين، واطلب دولة غير عضو، ونحن نؤيد مسعاك هذا، دونما اعتبار للأحكام الشرعية، بل لا وجود لها في تفكيرهم، وأكاد أجزم بأنهم عندما يعودون إلى منامهم لا يندمون على أعمالهم هذه، بل يقيّمون كل ذلك بالربح والخسارة الدنيوية دونما اعتبار لأي شريعة أو أي سياسة شرعية في الإسلام.
وفي الأردن يطالب الإخوان المسلمون بإصلاح النظام في الوقت الذي تعلو فيه صيحات الشارع في الأردن بإسقاط النظام، وهذه المطالبة لا أساس لها من الشرع، بل يعللون كل ذلك بالفكرة السحرية «التدرج»، وأشد ما في الأمر غرابة أن هؤلاء يستغلون تدين الناس، فيرفعون شعار «الإسلام هو الحل»، وعندما ينتخبهم الناس يجعلون الإسلام وراء ظهورهم، ولا ترى في أي عمل لهم في الحكم أي إسلام، بل إن مواقفهم السياسية بلغت من الخزي ما تأنفه نفس أي مسلم، فقد نقلت وسائل الإعلام مشاهد عبد اللطيف عربيات رئيس البرلمان الأردني وممثل الإخوان وقتها وهو يقبّل يد الملك حسين المريض القابع في مستشفى مايو كلينيك بأميركا، في مشهد يتساءل معه أي مسلم: أي تغيير يرجى من هؤلاء؟ والآن يناضل الإخوان المسلمون في الأردن، ليس من أجل الإسلام، إنما من أجل تغيير القانون الانتخابي حتى يتاح لأكبر عدد منهم دخول البرلمان الجديد، وتخلو كامل مطالباتهم من أي قيمة شرعية، فلا هم يضعون أحكام الشريعة (أو حتى جزءاً منها) على طاولة الشروط السياسية أو المطالبات ولا أي شيء من هذا القبيل، ولا يرى المراقب لأعمالهم أي «إسلام» أو مطالب شرعية تميزهم عن مطالب العلمانيين، اللهم باستثناء بدء الحديث التلفزيوني بكلمة (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقط.
وأما في مصر الثورة، فقد قفز الإخوان المسلمون ومعهم السلفيون إلى سدة البرلمان بنسبة 73%، وفاز محمد مرسي بالرئاسة، والسؤال الكبير: أين هو الإسلام من هذا الفوز بعد مرور الشهور؟ والجواب صفر، وسيبقى صفراً ما دامت هذه المنهجية هي التي تسيطر على العقل. ففي مصر لم يتغير شيء باتجاه الإسلام رغم ملايين الثوار في شوارع مصر، ومليونيات تطبيق الشريعة. والسبب أن عقلية هؤلاء هي استغلال الإسلام في نفوس الناس من أجل التصويت لهم، وبعد ذلك إلقاء الإسلام وراء الظهر وفق ما يقتضيه حال العلاقة مع الغرب، فالهدف الكامن هو إرضاء الغرب وليس إرضاء الله، وهذا ليس تحاملاً، بل هو عين الحقيقة التي يستطيع أن يراها كل من كانت له عينان. فأين الإسلام من علاقة دولة الرئيس مرسي مع (إسرائيل)؟ وأين الإسلام من حكم تزويد العدو اليهودي بالغاز؟ وأين الإسلام في عدم نصرة المسلمين في غزة من اليهود الذين يحاصرونها براً وجواً وبحراً؟ وهل دور الرئيس مرسي هو التوسط بين حماس واليهود كما كان يفعل حسني مبارك؟ وأين التغيير؟ وأين شعار الانتخابات «الإسلام هو الحل» من القرض الربوي الذي يفاوض البنك الدولي مصر رئيساً وحكومة عليه بقيمة 5 مليارات دولار؟ ألا يستحيي الرئيس مرسي من ربه وهو يفتخر عبر وسائل الإعلام قبل أيام بأننا نسدد فوائد القروض في وقتها للدلالة على عدم وجود أزمة اقتصادية في مصر؟ كيف سيواجه بذلك ربه، وهو يعلم أن تحريم الربا شديد في الإسلام ولا يمكن أن يتجاهله مسلم؟ ولا أدري كيف يمكن لأعضاء الإخوان المسلمين المخلصين الذين تربوا في بيوت الله أن يستهينوا بذلك؟ أو أن يدافعوا عن هذا الرئيس وهو يتعامل بالربا جهاراً نهاراً غير مبالٍ بأحكام الله؟
ويستغرب المسلم من بعض أعمال دعاة التدرج، فالقرضاوي قد أقام ندوة في الأزهر قبل جمعتين نصرة للثورة السورية، وقد رفع في الندوة علم المستعمر الذي يسمونه علم الاستقلال في سوريا بديلاً عن علم بشار، يستغرب المسلم كل ذلك! كيف للقرضاوي أن يقوم بهذا الفعل الشنيع، والمخلصون في سوريا قد قطعوا شوطاً بعيداً في حمل الناس على نبذ علم الاستعمار هذا ورفع راية رسول الله بدلاً منه. وكذلك كان مستغرباً أعمال القرضاوي الشنيعة قبل ذلك، مثل زيارته لأفغانستان إبان حكم طالبان لمحاولة ثنيهم عن هدم صنم باميان، وقد هدموه بحجة شرعية، وحاول القرضاوي ثنيهم عن ذلك مدفوعاً من الأمم المتحدة دونما اعتبار للشرع، فالشريعة والحياة هي أقوال وكلمات ومنصب فضائي يجني من ورائه الأموال، ويقول فيه حصراً ما يرضي الأمير والأميرة في قطر، ويحارب من يحاربون، ويسالم من يسالمون.
وإذا كان من بديهيات العمل السياسي أن الحزب أو الحركة تناضل بمبدئها ومن أجل هذا المبدأ لإيصاله إلى الحلبة السياسية للحكم به، فكيف يمكن لمسلم أن يقبل هذه الأعمال العقيمة لمن يطلق عليهم الإعلام «الحركات الإسلامية المعتدلة» وهي تطبق الكفر، بل وتتمادى في تطبيقه، ويطالب بعضها كأردوغان إخوان مصر بالقبول بالعلمانية، ومع ذلك هل يبقى مسلم يقبل أن يظن أن مثل هذه الأعمال الشنيعة يمكن أن يغطيها غربال التدرج، وهي فكرة واهية شرعاً، قد أخذها أصحابها للتملص من أحكام الشرع في السياسة! ويستغرب المرء: لماذا لا يطالب المخلصون من أبناء هذه الحركات قادتهم ببرنامج لتطبيق الإسلام، أم أن هؤلاء قد رضوا وسلموا؟ وإذا كان كذلك فهم شركاء في هذه الجريمة، مسؤولون أمام الله عن أعمال قياداتهم التي ليس فيها من الشرع إلا «البسملة». فتطبيق المسلم للأحكام الوضعية أو أحكام الكفر أشد خزياً من تطبيق العلمانيين لتلك الأحكام، فوالله إذا قدم المسلم خمراً لضيوفه لهو أشد وأعظم من أن يقدمها علماني لا يبالي بأحكام الله أصلاً، والخمر أخفُّ بكثير من تطبيق المسلم أحكام الكفر وسهره عليها.
والذي لا يجوز أن يكون غائباً عن الأذهان هو حقيقة أن هذه الحركات الإسلامية “المعتدلة” إنما تقدم إلى الحكم تقديماً بفعل دول الكفر الكبرى التي ترى فيها ملاذاّ بعد أن سقط كل القناع عن العلمانيين، وأن الأمة قد علت مطالبها بتطبيق الإسلام، فبادرت هذه الدول أميركا وأوروبا إلى نسج العلاقات مع هذه الحركات واتفقت معها على استلام الحكم، لأن تلك الدول الكافرة قد وجدت في تلك الحركات ضالتها، فعن طريق فكرة التدرج في تطبيق الشريعة يمكن كما هو حاصل فعلاً الآن عدم تطبيق الشريعة، وعن طريق هذه الفكرة الخبيثة أيضاً يطمئن المسلمون أن الحكم قد أصبح بأيدٍ أمينة ليكتشف بعد حين أن هذا الاطمئنان لم يكن في محله، فهؤلاء الحكام الجدد في تونس ومصر وغيرها لا يحملون أي إسلام للحكم بين ظهرانيهم وإن أجادوا الصلاة والصيام، فهذه أحكام فردية، وأما حكم الإسلام فهو نظام شامل يشمل كل مسائل السياسة، وقد أفرد له قدامى المجتهدون أبواباً في الإمارة والسياسة الشرعية، ولم ينساه المخلصون في العصر الحديث، فأفرد له الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير كتاباً أسماه “نظام الحكم في الإسلام” شارحاً فيه تفاصيل أجهزة الدولة الإسلامية بأدلتها الشرعية التفصيلية.
ويخطئ من يظن بأن الله يمهل من يفرط في دينه كثيراً، وإليكم الأمثلة التي تستحق النظر فيها. ففي غزة قد خرجت مئات الألوف بداية هذا العام في انطلاقة حركة فتح، وقد سمتها فتح مليونية انطلاقة فتح، وهذا قد سحب البساط كثيراً من تحت أقدام حركة حماس بما بدا وكأنه شعبية لفتح في غزة، لكن الحقيقة أن هذه الجماهير الغفيرة التي خرجت في انطلاقة حركة فتح هي تلك الجماهير التي انتخبت حركة حماس سنة 2006م، وارتدت عنها بفعل فاعل، وهي بالتأكيد ليست جماهير فتح، بل الجماهير التي صارت غاضبةً على حكم حماس الذي لم ترَ فيه خيراً لا للدنيا ولا للآخرة. وفي تونس، فقد أعلنت حركة النهضة وقت الانتخابات بأنها ستعمل وفي وقت قصير على خلق مئتي ألف وظيفة ولم تعلن أي برنامج لتطبيق الإسلام لأن التدرج يبيح ذلك، وقد أوردت الأنباء بأن الدولة التونسية غير قادرة على دفع رواتب موظفيها، وفوق ذلك فقد شاعت أخبار عن فساد كبير لوزير الخارجية التونسي وهو صهر راشد الغنوشي، حيث تذكر الأخير أحكام الإسلام في الإشاعة وهدد المدونة التي نشرت تلك التفاصيل بأن الإسلام شديد في قطع دابر الإشاعة، ويا ليته قد تذكر الإسلام وحركته تعد دستور تونس، أو وهو يحكم التونسيين بالأحكام الوضعية، بل قل ليته تذكر الإسلام وجنود تونس يرمون بالرصاص المحتجين التونسيين على فيلم الإساءة للرسول عليه الصلاة والسلام.
وأما في مصر، فقد جعل الله لكل صغيرة من مسائل الحكم قصة كبيرة يهيم فيها الرئيس مرسي وجماعته، فإذا أقال نائباً قامت الدنيا ولم تقعد إلا بدماء أبناء الإخوان المسلمين الذين وضعوا وعلى المستوى الشعبي في حالة تأهب قصوى للدفاع عن الرئيس، ويا ليت ذلك كان دفاعاً عن الإسلام! ففي مصر يُظهر الله تعالى ومع كل حادثة صغيرة بأن منهج التدرج فاشل، وأن طريقة من يسمون بالحركات الإسلامية المعتدلة في تطبيق الكفر تحت ذريعة التدرج أيضاً فاشلة، فلا يتحقق لهم في مصر أمر إلا بشق الأنفس، وأمرهم ذاك لا علاقة له بالإسلام، وكأنك تقرأ في صعوبة أعمالهم معاني قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ). فحتى دستور بمستوى دستور حسني مبارك لا يكاد يمر بسلام لدولة مرسي، التي بلغ من ولع جماعته لإرضاء الغرب أن أطلق عصام العريان القيادي في الإخوان تصريحاته التي أثارت غضب المصريين عندما غازل دولة يهود ودعاهم للعودة إلى مصر، وربما نرى في الأيام القادمة أعمالاً أكثر خزياً لهم في العلاقة مع دولة يهود أو تشديد الحصار على غزة أو العمالة الأكثر انكشافاً لأميركا.
لكن الذي تتوجه اليه أنظار المخلصين العاملين لبناء دولة الإسلام وتحكيم شريعة الله في الأرض هو أبناء تلك الحركات الذين كانت المساجد المكان الذي ترعرعوا فيه، ويشهد لهم الناس بالأعمال التي ترضي وجه الله، أين هم من كل هذه الحكاية؟ الحكاية التي وصل فيها الغرب إلى قيادات تلك الجماعات وجعل منها قيادات لا فرق بينها وبين أخواتها من قيادات العلمانية، ولا بد أن تأتي أحداث عظام يقف فيها كل مسلم بمفرده أمام القرار، وعندها وبالتأكيد سيتخذ المخلصون قرارهم برفض هذه القيادات التي وصلت بتنازلاتها وبسرعة ما وصلت اليه القيادات العلمانية، وإن استمرت بتغطية وجهها بالإسلام، فالأسد كان يغطي وجهه بالوطنية وهو بعيد عنها، وقد لفظه شعبه، وكذلك باقي قيادات بلدان «الربيع العربي»، لكل منهم كان غطاؤه! والأسئلة الذي يسألها كل مخلص: أين الإسلام من أعمال هذه الحركات التي يسميها الإعلام «إسلامية معتدلة»؟ أين الأحكام التي طبقت؟ وهل الاستمرار مع هذه الجماعات يرضي الله أم يغضبه؟ وهل منهجية التدرج يقبل بها بالإسلام؟ وهل تعفي المسلم من تأييد الحكم بالكفر والدفاع عنه ناهيك عن الموت في سبيله كما هو حاصل الآن في بعض المناطق؟ هذه أسئلة لكل مسلم ذي علاقة بهذه المنهجية وبهذه الحركات «الإسلامية المعتدلة»! وهي أسئلة كبيرة أمام الله تعالى!!!q
2013-02-28