احتدام الصراع الدولي على سوريا
2013/02/28م
المقالات, كلمات الأعداد
2,199 زيارة
احتدام الصراع الدولي على سوريا
الموقف الأميركي
اختبأت أميركا وراء الفيتو الروسي- الصيني لتحول دون إسقاط الأوروبيين (بريطانيا وفرنسا تحديداً) نظام الأسد على شاكلة القذافي، كما سمحت لإيران وحلفائها في العراق ولبنان بمد يد العون إليه كي لا تنهار قواه. فيما منعت تسليح الثوار وقطعت عنهم كل ما يمكنها من سبل إيصال الأسلحة إليهم، بل ووضعت جبهة النصرة الأكثر تأثيراً في ميادين القتال والأسرع في الانتشار في أرجاء سوريا على لائحة الإرهاب، وأعلنت مراراً وتكراراً رفضها إسقاط نظام بشار بالكفاح المسلح تحت عنوان أن “لا حل عسكرياً في سوريا”، وأن حل الأزمة رهن بمفاوضات مع النظام الحالي، بل وحددت نتيجة المفاوضات سلفاً، فأي حل يجب أن يقضي (بحسب أجندتها) بإبقاء الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية متماسكة وعماد النظام السياسي الجديد.
يُسلط موقف أميركا (القائم على حماية النظام السوري من التصدع والسقوط) الضوء على طبيعة علاقتها بنظام الأسد، وهي علاقة تناقض كل شعاراته الممجوجة وجعجعاته الفارغة حول مقاومة (إسرائيل) وممانعة أميركا ومشاريعها في المنطقة. تلك الممانعة التي نقضت سلوكيات النظام السوري عراها بشكل مفضوح ومباشر كلما اقتضت مصالح الولايات المتحدة ذلك، والتي يمكن رصدها بشكل متناسق في المحطات الرئيسية التالية للعلاقة بين البلدين:
فقد دخلت جحافل الجيش السوري لبنان (عام 1975م) بناء على طلب أميركي لإعادة ترتيب الوضع اللبناني ولصياغة النظام السياسي فيه، والذي تُوج لاحقاً باتفاق الطائف (عام 1989م) الذي هندسته أميركا ورعته السعودية وفُوِّض أمر تنفيذه والقوامة الدائمة عليه للنظام السوري. كما تحالف علانية مع أميركا في حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء1990-1991م)، فأرسل آلاف الجنود السوريين للقتال معها ضد نظام صدام حسين ، رغم أن كلا النظامين بعثي وقومي عروبي!
كذلك سار النظام السوري في ركاب المشروع الأميركي لتسوية الصراع في الشرق الأوسط بشكل صريح منذ مؤتمر مدريد للسلام عام1991م. وبمفارقة لافتة ومهينة حاولت (إسرائيل) طفل أميركا المدلل- مراراً التملص من الرعاية الأميركية للمفاوضات بين الجانبين ودعت النظام السوري إلى مفاوضات مباشرة من غير أي وسيط، بينما بقي هذا النظام مصراً على اعتبار الولايات المتحدة وسيطاً لا غنى عنه في إتمام التسوية، مثلما صنع السادات من قبل بوضع جميع أوراق التسوية في يدي أميركا!
ولا ننسى انضمام النظام السوري بعد أحداث 11 سبتمبر2001م إلى حلف الولايات المتحدة في إطار حربها الاستراتيجية ضد الإسلام تحت مسمى الحرب على الإرهاب، إلى درجة أنه كان يقوم بتعذيب معتقلين سوريين لصالح المخابرات الأميركية. كما بادر بالاعتراف بالنظام الذي أوجدته أميركا في العراق بعد احتلالها له، إضافة إلى منع المتسللين إليه، وبناء حواجز رملية على طول الحدود بين سوريا والعراق للحيلولة دون ذلك. وقد أهَّله كل ذلك بجدارة كي تفوضه لجنة بيكر- هاملتون الأميركية إضافة لقرينه الإيراني بالملف العراقي بعدما تعسَّر تحقيق الولايات المتحدة أجندتها بنفسها هناك، وذلك بحسب ما جاء ضمن توصيات التقرير الشهير للجنة الذي حمل عنوان “العراق والطريق إلى الأمام”.
لقد عوّلت أميركا في تحقيق كل مشاريعها المذكورة على القوى الأمنية والعسكرية للنظام السوري، تلك القوى التي أحكمت قبضتها على سوريا منذ أن أُتِيَ بحزب البعث إلى السلطة، فنحَّت كل من سواها جانباً بعد أن قضت على الوسط السياسي وكافة قوى المعارضة الفاعلة. من هنا تبرز أهمية إصرار أميركا على إيجاد حل سياسي للأزمة، إذ إن الحل المسلح سيحطم الأجهزة الأمنية والعسكرية، أي إنه سيحطم أداة نفوذها في سوريا، أما الحل السياسي فسيحول دون تهشيم هذه الأجهزة، وبالتالي ستشكل العمود الفقري لأي سلطة قادمة فلا ينهار نفوذ أميركا في سوريا، بخاصة أنه لا توجد أي قوى أخرى متماسكة قادرة على لعب هذا الدور، كما أن معظم القوى الفاعلة في الميدان هي قوى معادية لأميركا. ويفسر هذا تمسك أميركا بالحل السياسي في ظل غياب البديل الجاهز لديها للتدخل بطريقة أكثر فاعلية لإنهاء الأزمة، وهذا سبب ما يظهر من إرباك على الإدارة الأميركية، فهي لا تبحث عن شخص ما، وإنما عن قوى تمكنها من استمرار النفوذ ولعب الدور نفسه.
لهذا كله لم يكن خذلان أميركا للثائرين بوجه النظام الفاسد المتوحش أمراً مستغرباً، فهو تعبير عن سياسة اعتمدتها منذ بداية الأحداث، وهو موقف لم يتغيَّر قط رغم كل ما جرى، لعلاقته المباشرة بالحفاظ على مصالحها الحيوية بقصد ضمان عدم حصول أي تغيير يطيح بنفوذها من خلال الإطاحة بنظام الأسد، وبالتالي من الخطأ الفادح اعتبار أن موقفها العدائي تجاه الثورة جاء نتيجة ظهور قوى إسلامية مناوئة لها وللنظام في آن معاً، كما يزعم اللاهثون وراء المناصب الفخرية في سوريا الجديدة، وإن كان يمكن اعتباره معززاً لموقفها المتمسك ببقاء قوى هذا النظام.
كما أن الفرصة كانت مؤاتية تماماً لأميركا للتدخل في السنة الأولى من الثورة لتفرض واقعاً جديداً قبل ظهور الحالة الإسلامية بشكلها العسكري والجماهيري المنتشرة حالياً. بل إنّ رهاناً كبيراً عُقد على تدخلها من قبل كثيرين ممن تصدروا تمثيل الثورة ومن قبل غيرهم ممن توهموا بأن نظام الأسد هو خصم لأميركا، ليكتشفوا سريعاً بأن رداء الممانعة الذي تزيّا به النظام طويلاً هو مجرد قناع يخفي حقيقة تبعيته بقصد حمايته وإنجاح دوره.
وهكذا فإنَّ خلاصة الموقف الأميركي بشأن سوريا هو كسر إرادة الشعب الأعزل الذي يحتضن القوى الثائرة لتطويعه لأجندتها؛ ولذلك فإنها تصر على منع كل أشكال الدعم الفعال عنه من مال وسلاح مكتفية باحتضانٍ كلاميٍّ (وهذه نعمة منّ بها الله على أهل سوريا كي يتنبهوا لحقيقة أعدائهم وللتمسك بدينهم والتعويل على سواعدهم لإنجاز التغيير) فيما تغض الطرف عن تسليح النظام وتمويله ودعمه، وعن جرائمه المقززة التي ما فتئت تقارنها بما يقترفه بعض أطراف المعارضة مما لا يرتقي بحال لمستوى سلوكيات النظام، بل حتى عندما تنتشر فظائعه على الملأ، فإنها تندد به بخبث ومكر شديدين، مستخدمة تلك الفظائع حجة للتعجيل بإجراء مفاوضات بين المعارضة والنظام لتسوية الأزمة ووضع حد لها قبل أن تستفحل الأمور وتتفلت من كل عقال وتتحول إلى حرب أهلية شاملة.
الموقف الأوروبي
شكل انهيار الاتحاد السوفياتي بداية لعهد جديد في علاقات الولايات المتحدة بالعالم، وقد سعت أميركا حثيثاً لتشكيله بحسب مصالحها الخاصة، ولذلك سعت للتفرد بالقرار الدولي، وعملت على تحقيقه من خلال استعمال القوى العسكرية المباشرة، ووضعت خطتها لإعادة صياغة العالم الإسلامي تحت عنوان “الفوضى الخلاقة” و”صناعة الشرق الأوسط الجديد”، فاجتاحت أفغانستان والعراق واستباحت اليمن والصومال، بذريعة الحرب العالمية على الإرهاب.
أدركت أوروبا وغيرها بشكل واضح أن أميركا تسعى لتصفية كل دور مؤثر لها ولغيرها في العالم الإسلامي، صاحب الموقع الاستراتيجي الذي يعج بالثروات ومصادر الطاقة، لذلك اعتبرت كبح جماح أميركا مسؤولية مباشرة ملقاة على عاتقها. وقد ظهرت تجليات الخلاف بينهما بشكل صارخ في قضية العراق، حين تصدت فرنسا علناً لأميركا فيما حاولت بريطانيا ودول أوروبية أخرى عبثاً لجمها من خلال المؤسسات الدولية، كالأمم المتحدة ومجلس الأمن.
قامت أوروبا ببذل كل ما تملك من خبرة لضرب المشروع الأميركي في العراق، واستعملت كل نفوذ لها في المنطقة لاستنزافها، فتدفق المال والرجال والسلاح بوفرة إلى العراق، الذي تحول جحيماً بوجه إدارة بوش والمحافظين الجدد. كما سعت أوروبا بقيادة بريطانية فعالة إلى استعمال “القوى الناعمة” من خلال إمبراطورياتها الإعلامية الممتدة من قطر إلى لندن، ومن خلال جموع المثقفين والمفكرين والمؤسسات العلمية والبحثية ومراكز الدراسات المرتبطة بها، استعملتها بشكل احترافي فعال أدى إلى فضح أميركا في العالم جراء ممارساتها البشعة في غوانتانامو وقندهار وأبو غريب والسجون السرية ورحلات التعذيب وغيرها، وكسرت هيبتها من خلال استعراض إعلامي دعائي لكل الأعمال التي أضرت بآلتها العسكرية وحولتها إلى قوة عاجزة عن تحقيق أي نصر، ووصل بها الحال صارت تلتفت يمنة ويسرة تفتش عمن يحل مكانها ويحفظ نفوذها في المنطقة كإيران وسوريا. هكذا نجحت أوروبا بحشد كل القوى الممكنة ضد أميركا في العالم الإسلامي بل وفي غيرها كأميركا اللاتينية، كما فضحت صورتها البشعة على حقيقتها، صورة مقززة ومثيرة للغثيان، حتى في الغرب نفسه.
ثم ما لبثت أن وقعت الأزمة المالية العالمية، والتي تلوح في الأفق كثير من علامات الاستفهام حول تطورها أو كيفية معالجتها، والتي أدارت فيها أميركا ظهرها للعالم غير آبهة سوى بنفسها، مما أدى إلى انتكاس دول كثيرة في هذا العالم، وأصاب أوروبا عاصفة شديدة بسببها أدت إلى إفلاس بعضها كآيسلاندا، أو غرق بعضها الآخر في الديون والأزمات كاليونان وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا وبريطانيا. فلجأت أوروبا إلى كل وسيلة ممكنة لعدم انهيار عملتها وتفكك وحدتها الاقتصادية، وبادرت إلى معالجة الملفات الملحة واحداً بعد الآخر وما زالت.
كما حمل الحراك في العالم العربي معه تحديات كبيرة وكثيرة تعاملت كل من أميركا وأوروبا معها بما يضمن مصالح كل منها ويحول دون اضمحلال نفوذها أو اندثاره. فسارعت بريطانيا وفرنسا للتدخل العسكري في ليبيا للحيلولة دون إفساح المجال لأميركا بالهيمنة عليها، كما زاحمت بريطانيا أميركا في مصر من خلال عديد من العملاء لها هناك من رجال مال وأعمال وثقافة وفكر وإعلام ومؤسسات وأحزاب سياسية وغيرها. فيما حافظت بريطانيا على نفوذها التقليدي في تونس من خلال دمج قوى قديمة وجديدة مرتبطة بها بشكل مباشر أو غير مباشر. واستطاعت إبقاء نفوذها في اليمن على ما هو عليه من خلال من خلال نقل طربوش الحكم من رأس علي صالح إلى نائبه عبد ربه منصور هادي. وسارعت فرنسا للتدخل العسكري في مالي لقطع الطريق على اختراق أميركا دائرة نفوذها في تلك المنطقة، وساعدتها بريطانيا في ذلك بشكل ملحوظ.
أما سوريا وهي موضوعنا، التي دخلت في دائرة النفوذ الأميركي المباشر بعد انقلاب حافظ أسد و”حركته التصحيحية”، وقد قام نظامه –كما سبق أن أسلفنا- بإسداء خدمات جليلة لأميركا على مدار العقود المنصرمة، وتعتبر سوريا دولة محورية بكل ما للكلمة من معنى في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك فإن الهيمنة عليها أو خسارتها ليس أمراً عابراً سواء عند أميركا أو أوروبا؛ لهذا أخذ الصراع عليها قديماً وحديثاً شكلاً حاداً بين الجهتين، انقلابات عسكرية وانقلابات مضادة، إضافة إلى صراعات مستمرة وثورات في لبنان وسوريا، إلا أن أميركا كانت قادرة على لجم أوروبا وتحجيمها رغم كل محاولات بريطانيا وفرنسا في هذا المجال.
بلغت حالة الذل والهوان والانكسار عند أهل سوريا طيلة فترة حكم آل أسد حالة الإشباع، فاندلعت شرارة الاحتجاجات ضد النظام في سياق الحراك العام في المنطقة لاسترداد كرامة الشعب ونيل حريته، وظن كثير من الناشطين أن مجرد انطلاق قطار هذا الحراك وانتشاره في ربوع سوريا سيؤدي إلى تدخل دولي بذريعة حماية الشعب من بطش النظام، غافلين أن رغبتهم بالخلاص من النظام تتعارض مع المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية، وبأن قلع النظام يعني استئصال النفوذ الأميركي من سوريا وربما من المنطقة برمتها!
وقد أوردنا بشكل جلي حقيقة الموقف الأميركي من الثورة في سوريا، والذي يختلف تماماً مع الموقف الأوروبي بل ويتناقض معه في الجوهر. فإنّ أوروبا تعتبر إسقاط الأسد هدفاً لا مناص من تحقيقه، كما تعي تماماً واقع القوى الأمنية والعسكرية التي تستخدمها أميركا كأداة لتجسيد نفوذها، لذلك فإن خطتها تقتضي تحطيم تلك القوى وإحلال قوى جديدة مكانها، مستعملة لتحقيق ذلك كافة خبراتها ومقدراتها وعملائها وأدواتها، من غير أن تدخل في صراع مكشوف مع الولايات المتحدة!
وتستفيد أوروبا في هذا المجال من أخطاء أميركا الكثيرة على رأسها رهان أميركا الخاطئ بأن قوة النظام كانت كافية لوأد أي حراك في سوريا، وإلا فإنه كان بإمكان أميركا احتواء الثورة بشكل مبكر لو تصرفت بشكل مختلف، وقد تسبَّب تعثُّر أميركا المضطرد بفسح المجال أكثر يوماً بعد آخر لتحقيق أجندة بريطانيا وفرنسا وأوروبا من خلفهما.
لذلك سخرت بريطانيا وفرنسا إمبراطورياتهما الإعلامية في إظهار بشاعة النظام السوري وتقزيمه معنوياً، كما أوجدت تعاطفاً جماهيرياً حميمياً مع الثورة في سوريا، أدى إلى تأجيج المشاعر والتهابها ورفع الروح المعنوية لدى كل من يعنيه الأمر ولو من بعيد لمعاضدة الثورة والعمل على تغيير النظام. بل صرنا نرى انشقاقات واختراقات على مستويات مختلفة للنظام، سواء في الأجهزة الأمنية أو العسكرية أو السياسية أو المدنية. وهذه وإن لم ترقَ إلى كسر ظهر النظام بعد، لكنها مؤثرة ومن شأنها أن تثير اضطراباً ومخاوف وشكوكاً كبيرة داخل النظام نفسه.
لقد حولت أوروبا ساحة الصراع في سوريا إلى مسرح يبث على الهواء مباشرة بالصوت والصورة على مدار الساعة على الجزيرة والعربية وفرانس 24 والـ بي بي سي وغيرها لإبقاء حالة التوهج في الثورة وحالة التعاطف معها قائمة. ورغم هذا، فإن قضاء نظام الأسد على رجالات وأحزاب تاريخية كانت موالية لأوروبا في سوريا، جعلها تعمل على مهل لإيجاد كل عوامل نجاحها للهيمنة على سوريا حين تحين فرصة إسقاط النظام بالضربة القاضية، فهي تطبخ الأمر، وتعمل بوعي تام وبعيداً عن ردود الأفعال، وتضغط باتجاه استعجال عملية التغيير؛ وذلك قبل أن تتهيَّأ الظروف الكاملة للولايات المتحدة الأميركية للتغيير الأميركي الصرف الذي يبقي الأمور كلها بيدها، هذا ما تعمل له أوروبا، وهذا سبب ما يبديه الإعلام التابع لها من استعجال للخلاص من النظام: ليكون لهم موطئ قدم في الحل كمقدمة لقلع النفوذ الأميركي من سوريا والحلول مكانه.
لهذا أعلنت أوروبا صراحة مراراً وتكراراً بضرورة إسقاط نظام الأسد بل ومحاكمة رموزه في المحاكم الدولية، وعملت بنجاح لنسف شرعيته دولياً حتى تحاصره وتضعف فرصه في البقاء في الحكم أو المشاركة فيه، حتى لو تمكن من البقاء بشكل أو آخر. كما قامت بدراسة كافة القوى الموجودة على الأرض وحاولت اختراقها واستقطاب كل من تستطيع لصفها، وضرب وتجفيف منابع كل من يناوئها مباشرة أو عن طريق أتباعها كقطر والسعودية والأردن. وكذلك قامت بخربطة كل مشاريع أميركا التي تقضي بإجراء تسوية تبقي نظام الأسد حاكماً أو شريكاً في الحكم. في الوقت ذاته تعمل بإتقان على إبقاء حالة السخونة المطلوبة قائمة لاستمرار الثورة بزخم، وتعمل على فرض القوى التي ارتضت الارتباط بها في الميدان كقوى ممثلة للشعب والثورة، فيما تحاول تحجيم كل من لا يستجيب لها.
الحالة الإسلامية
احتدم الصراع بين أوروبا وأميركا للهيمنة على سوريا، ودخلت كل من روسيا والصين للعب دور في هذا السياق، إضافة لتدخل أدوات هذه الدول وتوابعها وعملائها مادياً وإعلامياً لنصرة أجندة على أخرى. وقد أدى عدم مبالاة هذه الدول المتصارعة بنزيف الشعب المضطهد ولا بطول معاناته (سوى تصريحات دعائية جوفاء)، إلى شعور عميق بالخذلان من كل هؤلاء، فلجأ الشعب إلى الله يستغيث به ويطلب نصره وتأييده، وهذا أنتج ظهور حالة إسلامية شعبية حاضنة للرايات والشعارات الإسلامية في عموم أنحاء سوريا، وبات مستساغاً بل ومطلباً عاماً عند الجماهير تحقيق التغيير على أساس الإسلام وتحت رايته، ولم تعد الدعوة لإقامة الدولة الإسلامية دولة الخلافة دعوة منفرة أو مستهجنة، فيما بدأت تترنح فكرة الدولة الديمقراطية المدنية الوطنية التي أنشئ المجلس الوطني وبعده الائتلاف الوطني من أجل إقامتها. وهكذا تحولت الساحة السورية إلى أرض خصبة للانتقال بالحراك القائم من مجرد انتفاضة أو ثورة بأهداف مجملة تطالب بالحرية والكرامة إلى المطالبة بإقامة دولة الخلافة الإسلامية في ربوع الشام.
وقد اضطرت هذه الحالة القوى المناوئة للحل الإسلامي في سوريا إلى اعتماد شيخ لها، علَّ وعسى يتمكنون من خلاله من تسويق أنفسهم ومشروعهم المعادي لمشروع الدولة الإسلامية دولة الخلافة. فالائتلاف الوطني الذي يرأسه الشيخ أحمد معاذ الخطيب لا يرى حلاً غير الحل الدولي، ويحاول هو وائتلافه العمل على تثبيط عزيمة الشعب والحط من همة الكتائب والألوية في الميادين، وإقناعهم بأنهم أعجز من إنجاز التغيير بعيداً عن إرادة الدول الكبرى وحفظ مصالحها. والحقيقة هي أن كثيراً من هؤلاء يتمنون حقاً أن تتدخل الدول الكبرى كي تسقط النظام قبل أن تسقطه الثورة على الأرض، حتى يكون لهم نصيب من السلطة، وحتى يقطعوا الطريق على البديل الإسلامي الذي ينعتونه بالتخلف والرجعية وفي أحسن الحالات بالجهل والجمود، مع أن الحل الدولي سواء أكان بريطانياً أم أميركياً أم خليطاً من هذا وذاك هو حلٌّ معادٍ لمشروع الأمة وعقيدة الأمة ومصالح الأمة قطعاً. وكل من يعمل لتحقيقه أو المساهمة في إنجاحه هو عميل من الدرجة الأولى، لا يغير من حقيقة الأمر كونه داعيةً أو عالماً أو مفكراً إسلامياً أو مناضلاً أو سجيناً سابقاً في سجون النظام.
إلا أن من الجدير ذكره أن انتشار الحالة الإسلامية بشكل جماهيري وتوجهها نحو المطالبة بتطبيق الإسلام وإقامة دولته يتطلب وعياً ورعاية وتحصيناً، وإلا فإن أعداء الأمة جاهزون لاختراقها وللمكر بها واستغلالها ومن ثم الإجهاز عليها أو حرفها عن مسارها الصحيح. سيما أن هذه الحالة انتقلت إلى الكفاح المسلح ضد النظام، وهذا عمل مكلف جداً بطبيعته، وقد جرت العادة أن يُجَرجَرَ حَمَلَةُ السلاح إلى الارتباط بالدول الكبرى أو عملائها بدافع الحاجة الماسّة للمال والسلاح. ويمثل هذا الارتباط خطراً ماحقاً على الحالة الإسلامية برمتها، ولا داعي لتبريره أو التذاكي فيه، فبمجرد التقام الطعم والاستناد إلى معونة هذه الدولة أو تلك، فإنه سيتم تجيير العمل لصالح جهة ضد أخرى، وستفقد تلك الجهة استقلاليتها، وستجد نفسها متورطة بما لا قبل لها بالخروج منه بحال من الأحوال.
لهذا نؤكد بشكل جازم لا لبس فيه بأن الارتباط بأي شكل من الأشكال بأي دولة كبرى أو دولة تابعة هو نحر للحالة الإسلامية وقضاء على إرادتها واختطاف لمشروعها. ولطالما ظهرت حالات مماثلة مكرت بها الدول الكبرى وأتباعها، فجيَّرتها لتحقيق أجندتها وحالت دون إنتاج المشروع الإسلامي. فقد وَجَدَ “مجاهدو الأفغان” وكل من ناصرهم من “مجاهدي العرب” والعجم أنفسهم في مستنقع بائس من الحروب المحلية والدولية بعد أن استنفد حلف الناتو بقيادة أميركا غرضه منهم في حربه ضد الاتحاد السوفياتي. وكذلك وَجَدَ “مجاهدو البوسنة” وكل من ناصرهم من “مجاهدي العرب” والعجم أنفسهم ضحية اشتباك دولي بين أميركا وأوروبا وروسيا، أدى إلى تفكيك يوغسلافيا بعد صراع دموي للهمينة على وسط وشرق أوروبا. كما وجد “مجاهدو العراق” وكل من ناصرهم من “مجاهدي العرب” والعجم أنفسهم فريسة الصحوات والمشاريع السياسية المسمومة بعد أن حققت أوروبا مصلحتها من استنزاف أميركا على ظهورهم. ولائحة الأمثلة في هذا المضمار تطول، سواء على الصعيد المحلي أم الدولي، لكن القضية هنا تتقصد لفت نظر الأمة والعاملين الناشطين في الميادين والساحات والجبهات إلى ما يمكن تدبيره لهم إن لم يتنبهوا للمخاطر التي تتهددهم!
لهذا كان لا بد من التنبيه دائماً وأبداً إلى دور الكتلة الواعية والصادقة في قيادة الحالة الإسلامية لربطها بقوى من جنسها وبأجندة واضحة تعبر عن تطلعاتها وبمعايير محددة حتى لا يتم العبث بها، فتتجنب أن يصيبها ما أصاب غيرها، ولا يتأتى هذا بحال سوى من خلال التنبه إلى أن الارتباط بأي شكل من الأشكال بأي دولة كبرى أو دولة تابعة هو نحر للحالة الإسلامية. كما يجب العمل على ترسيخ مشروع الخلافة الإسلامية كنظام حكم وحيد مقبول لديها.
إن العمل الجاد والواعي من قبل العاملين لإقامة الخلافة والمناصرين لهم في صياغة الحالة الإسلامية وقيادتها في سوريا يدفع مشروع الخلافة إلى الأمام ويمنع محاولات استبدال عميل بآخر أو استبدال نفوذ دولة استعمارية بدولة آخرى. كما يمنع الأخذ بما ذكرنا من أمور من وصول سوريا إلى ما وصلت إليه تونس ومصر واليمن وليبيا، حيث تحولت الانتفاضات الشعبية هناك من حراك باحث عن كرامة إلى فوضى عارمة تقوده شلل وعصابات وأحزاب محترفة التجارة بالسياسة تتصارع بشكل مسعور لتقاسم السلطة فيما بينها.
إن حركة التغيير القائمة اليوم في سوريا قد تحولت بفضل الله إلى مشروع تغيير إسلامي يطالب بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، وهذا التحول أشعر العاملين المخلصين من الإسلاميين بوجود إرادة ربانية وتدخل ربانيٍّ جعلهم يثوبون إلى ربهم ويصححون مسارهم ويعوِّضون به عن التآمر والتخلي الدولي عنهم، وكان في هذا رحمة منه تعالى وتفضُّلاً. ولكن تبقى النقطة الأهم لاكتمال هذا المشروع وإتيانه أُكُلَه هو أن يتولى من أعدَّ نفسه لهذا الأمر عدته، وأعدَّ دستوراً إسلامياً مبنيةً على العقيدة الإسلامية مواده كلها، ومنبثقة من الأدلة الشرعية كل أحكامها، وعنده القدرة والخبرة السياسية للقيام بفرض الحكم بما أنزل الله تعالى… فمتى وجدت هذه الجهة القادرة على ذلك يصبح فرضاً على المسلمين العمل معها لإقامته بإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية التي تكون على غرار دولة الخلافة الراشدة الأولى: خلافة على منهاج النبوة. وعندها تتحقق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: ” ثم تكون خلافة على منهاج النبوَّة” وتتحقق بشرى أخرى لرسولنا الصادق المصدوق في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني بقوله: “عقر دار الإسلام بالشام”. وهنا لا بد من لفت نظر المسلمين إلى أن مقصود حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشام هو ما يعرف اليوم ببلاد كل من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن؛ لذلك فإن خير التغيير الذي يحدث اليوم في سوريا يجب أن يشارك فيه جميع أهل هذه البلاد، فضلاً عن أنه يلحق جميع المسلمين في جميع أقطارهم، ولا يتركوا أهل سوريا من المسلمين لوحدهم، هذا والله سبحانه وتعالى من وراء القصد.
قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وقال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ).
2013-02-28