الخدمات والمرافق العامة (3)
المبحث الثالث: الإنفاق على الخدمات الاجتماعية.
الخدمات الاجتماعية المقدمة للناس تختلف من بلد لآخر، ويتفاوت حجم ما يقدم من مكان لآخر؛ لذلك يمكن ملاحظة رعاية زائدة في مجموعة من الدول، ورعاية متوسطة في مجموعة دول أخرى، ورعاية شبه منعدمة في مجموعة دول ثالثة. وبعدما كانت الدول تتبارى في إظهار بطولاتها في مجال الرعاية الاجتماعية؛ أصبحت الآن تتباهى في الهروب نحو الخصخصة؛ بذريعة أن هذا الاتجاه أكثر ترشيدًا من الناحية الاقتصادية.
وفيما يلي أهم الخدمات الاجتماعية التي يفترض بدولة الخلافة تأمينها لرعيتها:
أولًا : الإنفاق على التعليم:
تصدر قرارات وقوانين التعليم والإشراف الدائم عن الدول والحكومات، فيما يختلف تأمين الخدمة التعليمية من دولة لأخرى؛ بحيث يطغى القطاع العام على الخاص في بعض الدول، أو يطغى القطاع الخاص على العام في دول أخرى، أو يتقاسم الخدمة كلا القطاعين.
فدولة الخلافة هي التي تحدد مراحل التعليم الإلزامي، وتحدد كيفية مكافحة الأمية، وتصدر قوانين التعليم المستمر، وتحدد المناهج المقررة للتدريس، وتشجع تنويع التعليم بين مهني وأكاديمي، وتجري امتحانات رسمية بإشرافها في المرحلة التي تسبق الجامعة. وقد تتدخل في تنسيق الطلبة على الجامعات بحسب التخصصات التي تلزم للدولة، وهي التي تصلح هيكلية التعليم بكافة أنواعه، وتضع السياسة التعليمية لعشرات السنين المقبلة، وهي التي ترسل بعثات من الطلبة المتفوقين إلى جامعات مرموقة لدراسة تخصصات نادرة داخل أراضيها أو خارجها؛ فدور الدولة هنا لا يستهان به في تحديد النوعية، والكمية، والجودة، والجدية.
وقد ارتبط التعليم في بدايات دولة الخلافة بالمساجد لتعلم القراءة، والكتابة، والدِّين، والعلم، فقد جاء التنزيل الحكيم وفيه الحث المتكرر على العلم، كما جاءت السنة النبوية تحض على العلم ولو في الصين.
وكانت أول مدرسة في الإسلام في المدينة المنورة أيام الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنشئت حينما طُلب من كل أسير من أسرى مشركي قريش في بدر أن يعلِّم عددًا من المسلمين: القراءة، والكتابة، مقابل فك أسره، وكان موقعها في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وقد اتخذها مركزًا يلتقي فيه بأصحابه، ومن تبعهم ليعلمهم الدين الجديد، وكانت تدعى “دار القرَّاء” [مصطفى شاكر: المدن في الإسلام حتى العصر العثماني، 2/689]. وتم ذلك بأمر من رأس الدولة حينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعلم لم يكن مكلفًا لمن يريده، إلا أن مشيئة الآباء كانت الاستفادة من جهد أبنائهم في معونتهم على العيش.
وكانت لطالب العلم حيث نزل، الأوقاف الموقوفة تساعده على العيش، وهي كثيرة جدًا، لا تخلو منها مدينة إسلامية قط. وكان الطلاب والعلماء يجدون فيها فيها السند المادي المتوفر لمعونة الحركة الثقافية ولازدهارها.
لذا، لم يكن يخلو أي مسجد جامع في أي مدينة من حلقات العلماء والمدرسين، ومجالسهم، فقد اشتهرت جوامع بغداد، والقاهرة، ودمشق، والقيروان، وقرطبة، وفاس، ونيسابور، بكثرة الحلقات فيها. يقول المقدسي عن جامع عمرو بن العاص بالفسطاط: إنه “ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه” [المقدسي: أحسن التقاسيم، ص: 197، 205].
وقد ظلت المدارس أكثر من قرن ونصف مجرد مدرسة تابعة للمسجد، ثم بدأت تنفصل عنه. وتنوعت المواد التي تدرَّس، وكان التشجيع، والتحفيز، والإنفاق، يتم من دولة الخلافة، ومن بيت المال، ومن مال الوقف. ولم تكن دولة الخلافة بعيدة عن هذه الخدمة التعليمية التي خرَّجت العلماء في مختلف وجوه العلم.
ثانيًا: الإنفاق على الصحة:
تحدَّث تقرير الأمم المتحدة عن التنمية في العالم الصادر عام 1993م عن أدوار الحكومة والسوق في مجال الصحة عن ثلاثة مسوغات لقيام الحكومة بدور كبير في القطاع الصحي ينبغي الاهتداء بها في إصلاح النظم الصحية [مؤشرات التنمية الدولية، ص 17]، وهي:
1- إن كثيرًا من الخدمات والمعلومات الصحية ومكافحة الأمراض المعدية هي “سلع عامة”، أي يحتاجها كل الناس، ويستعملونها كلهم.
2- إن توفير الخدمات الصحية مردودة التكاليف للفقراء، يقلل من الفقر، وينسجم مع شعار”الصحة للجميع بحلول عام 2000م” الذي تبنته الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) ومنظمة الصحة العالمية.
3- قد يدعو الأمر إلى إجراء من جانب الحكومة للتعويض عن مشكلات ناشئة عن عدم اليقين، وعن تقصير سوق التأمين، فأوجه عدم اليقين الكبيرة التي تكتنف احتمال حدوث المرض، وكفاءة الرعاية من شأنها أن تفرز طلبًا قويًا على التأمين.
ويضيف التقرير: فإن تدخلت الحكومات وجب أن يكون تدخلها بفطنة، وإلا خاطرت بأن تفاقم المشكلات نفسها التي تبذل جهدًا لحلها. ومتى صار للحكومات ضلع مباشر في القطاع الصحي واجه راسمو السياسة قرارات صعبة تتعلق بتخصيص الموارد الحكومية [مؤشرات التنمية الدولية، ص 18].
ويقترح التقرير نهجًا ذا ثلاث شعب للسياسات الحكومية الرامية إلى تحسين الصحة هي:
-
النهوض ببيئة تمكن الأسر من تحسين الصحة.
-
تحسين الإنفاق الحكومي على الصحة.
-
النهوض بالتنوع والمنافسة.
أما في دولة الخلافة، فإن الذي يحدد واجب الدولة في تأمين الخدمات الصحية ليس مرده إلى التنافس على المناصب السياسية، ولا إلى زهد الدولة وعزوفها المزاجي عن تأمين هذه الخدمة، بل المحدد هو الموقف الشرعي الذي يبقي الراعي راعيًا، أو يخرج به عن دور الرعاية للرعية، فإذا كانت هناك مستشفيات ومستوصفات وصيدليات خاصة لا تكفي لتأمين “الصحة للجميع”، فإن من واجب دولة الخلافة الرعاية الصحية ابتداءً، وليس لتعويض النقص الحاصل في هذه الخدمة، وينطبق الشيء نفسه على دور المسنين، وذوي الحاجات الخاصة، وهذا الأمر ينطبق على الطب الوقائي والطب العلاجي. فدولة الخلافة هي الملاذ الأول والأخير حتى لو قصَّر أو تخلف القطاع الخاص عن أداء دوره.
ويقول المقريزي : “أمر السلطان – يعني صلاح الدين يوسف بن أيوب بفتح مارستان للمرضى والضعفاء، فاختير له مكان بالقصر، وأفرد برسمه من أجرة الرياع الديوانية مشاهرة مبلغها مئتا دينار، وغلات جهاتها الفيوم، واستخدم له أطباء وجراحين ومشارف وعاملًا وخدامًا [المقريزي: الخطط المقريزية، 2/160]. وجعل لكل عاجز خادمًا ولكل أعمى قائدًا [الطبري: تاريخ الطبري، 4/29]. وأنشأ هارون الرشيد (بيمارستان) في بغداد، وعهد إلى صيدلي إدارته، وقام الخلفاء ببناء عدد من (البيمارستانات) في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين، أي (9 – 10 ميلادي)، وكان عدد (البيمارستانات) سنة 304ه خمسة، وكان راتب الطبيب في البيمارستان المقتدري 220 دينار في الشهر، وفي بيمارستان السيدة 600 دينار [ ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء، 302].
ثالثًا: الإنفاق على الرعاية الاجتماعية:
أصبحت الدولة المعاصرة أكثر ميلًا إلى رفع أعباء الإنفاق العام عن كاهلها، وتحويله إلى قطاعات (المجتمع المدني) أو ما يعرف بالقطاع الخاص، فأخذت تشجع الجمعيات الخيرية، وتثير فيها الحماس، وروح الحماس، وروح المنافسة، وتدعمها ببعض الهبات والأعطيات حتى تجنب نفسها المساءلة والاتهامات بالتقصير، وآخر ما تفتقت عنه عبقرية العقل الغربي هو خصخصة هذه القطاعات لتقعد الدولة مراقبة عن كثب تحرك الخيوط عن بعد.
وإذا ما قورن ذلك بتصرف دولة الخلافة في الماضي، فإنه يمكن رؤية الاهتمام الزائد للخلفاء بهذا الجانب اهتمامًا يكاد لا يصدقه إنسان هذا العصر، ويظنه من باب المبالغة في ردة الفعل. وهذه بعض الأمثلة على حالات رعاية اجتماعية اشتهرت في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي إنشاؤه لدواوين بيت المال (ديوان الجند، ديوان الرسائل، ديوان العطاء، ديوان الجباية). وفي ديوان العطاء كان يفرض العطاء للنساء والأطفال، وكان يفرض للطفل بعد فطامه، فعلم أن بعض الناس يتعجلون فطام أطفالهم ليحظوا بالعطاء، فأمر مناديه فنادى: الَّا تعجَّلوا أولادكم بالفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في الإسلام، ففرض لكل مولود مئة درهم، فإذا ترعرع بلغ به مئتي درهم، فإذا بلغ رشده زاده في العطاء [الماوردي: الأحكام السلطانية، ص 252-البلاذري: فتوح البلدان، ص 437].
ومن أرقى أنواع الرعاية الاجتماعية التي حصلت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من اتخذ دار الدقيق؛ فوضع فيها الدقيق والسويق والتمر والزبيب وما يحتاج إليه المنقطع والضيف وإغاثة الجياع [العقَّاد: عبقرية عمر، ص 97-99].
وفي حادثة أخرى ، حضر والد أحد الأبناء إلى عمر، وشكا إليه شوقه إلى ابنه، وأنه رجل انقرض أهله، وقتل إخوته، ولم يبقَ له ناصر ولا معين غير ابنه الذي تركه وذهب مجاهدًا في سبيل الله؛ فكتب عمر ليردَّ الابن إلى أبيه، ووضع قاعدة عامة لا تسمح بأن يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد أن يؤذن له [د.علي إبراهيم حسن وشقيقه: النظم الإسلامية، ص 99]. وذهب شاب إلى الجهاد، وأبوه شيخ كبير قد كف بصره، وكان كثير الحنين والبكاء لغيبة وحيده؛ فلما بلغ ذلك عمر، أحضر الشاب، وقال له: أبويك، فجاهد فيهما ما بقيا، ثم شأنك بنفسك بعدهما. وأمر له بعطائه، وصرفه مع أبيه. [د.علي إبراهيم حسن وشقيقه: النظم الإسلامية، ص 99].
هذه أحداث قد حدثت قبل 14 قرنًا، قبل أن يسمع الناس بمصطلح (الرعاية الاجتماعية)، ومصطلح (رعاية المسنين)، وهي حجة على كل من يتباهى بالسبق في الرعاية. وهذه الأمثلة لا ينقصها المزيد من التأكيدات على اهتمام دولة الخلافة بالطفل، والشيخ، والشاب، والعاجز، لدرجة لم تكن موجودة لدى الأمم الأخرى في ذلك العصر الباكر.