مع القرآن الكريم
(وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ ٢٢٢ نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢٢٣).
بعد أن بيَّن الله سبحانه تحريم الزواج من الكافرات – باستثناء الكتابيات العفيفات – وتحريم زواج المؤمنات من الكفار بشتى أنواعهم دون أي استثناء، بعد ذلك يبين الله في هاتين الآيتين أحكامًا تتعلق بمعاشرة الأزواج لزوجاتهم تؤدي إلى حياة زوجية طاهرة متآلفة.
ففي هاتين الآيتين الكريمتين يبين الله سبحانه ما يلي:
-
تحريم الجماع للزوجة في المحيض، أي في مكان الحيض وهو الفرج إلى أن ينقطع الدم.
-
إباحة إتيان الرجل زوجته بعد انقطاع الدم وندبه بعد الانقطاع والاغتسال.
-
تحريم إتيان المرأة في غير مكان الزرع وهو الفرج، فيحرم إتيانها في دبرها بل في مكان الزرع أي محل النسل فقط.
أما وجه الاستدلال من الآيتين الكريمتين فعلى النحو التالي:
-
يقول سبحانه: (وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ ).
و( ٱلۡمَحِيضِۖ) هو مكان الحيض أي الفرج، وهو أرجح من تفسيره بالمـصـدر؛ حـيـث إن السـؤال كان عن مباشرة النساء؛ فأمر الله سبحانه باعتزالهن بالنسبة للجماع وليس باعتزالهن في غير ذلك.
فإذا فسر ( ٱلۡمَحِيضِۖ) بالمصدر يكون السؤال عن سيلان الدم من حاض السيل وفاض، أي: سال، وإن كان السؤال كذلك وكان الجواب كذلك يكون المعنى: يسألون عن أيام سيلان الدم (حيض المرأة) والجواب: فاعتزلوا النساء في هذه الأيام، وليس هذا المقصود من الآية بدليل مناسبة نزولها؛ فإنها أمر بعدم اعتزالهن إلا في الجماع. أما إن كان السؤال عن مكان الحيض، يكون الجواب: فاعتزلوهن وبالتالي يكون المقصود اعتزال موضع الدم دون باقي الأمور.
وهذا هو المناسب بمدلول الآية وسبب نزولها: “عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة عندهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في البيوت وأخرجوها من البيت، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله – عز وجل -: ( وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ) إلـى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إنَّ اليهود قالت كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في أثارهما، فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما” (مسلم، والنسائي، والترمذي).
فقوله: ( فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ ) يعني الفرج لقوله صلى الله عليه وسلم: “اصنعوا كل شيء إلا النكاح“.
أما قولنا: إن هذا حرام؛ فلأن في الآية نهيًا عن الجماع للنساء مدة الحيض فهو طلب ترك.
وقوله سبحانه: (قُلۡ هُوَ أَذٗى) أي مستقذر، ووضع غاية لمنع الجماع حتى ينتهي هذا الأذى: ( وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ ) يفيد توقف المنع على انتهاء مدة الأذى فهو وصف مفهم يفيد الجزم؛ لأنه إن لم يفد الجزم فإن الزوج يستطيع أن يفعله في وقت الحيض؛ فلا تكون للغاية المذكورة أية دلالة، وحيث قد رتب منع الجماع على ذلك الوصف مع الغاية فإنه يدل على الجزم، فيكون طلب الترك طلبًا جازمًا أي أن الجماع في مدة الحيض حرام.
( وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ) أي عن (مكان الحيض).
( قُلۡ هُوَ أَذٗى ) قل هو موضع أذى في فترة الحيض.
(فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ) أي فاعتزلوا النساء في مكان الحيض.
( فَٱعۡتَزِلُواْ ) أي عدم الجماع.
وهكـذا يكون الحرام هو الجماع، أما غير ذلك من العيش معًا فلا شيء فيه. تقول عائشة – رضي الله عنها -: “كنت أَتَعَرَّقُ العَرْق وأنا حائض فأعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضـع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه” (مسلم، والنسائي) أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكمل الأكل من العرق – العظم الذي عليه لحم – الذي تأكل منه عائشة – رضي الله عنها – وهي حائض، وكذلك تشرب ويشرب بعدها.
أي أن العيش بين الرجل وزوجته الحائض لا شيء فيه إلا الجماع.
كلّ ذلك قبل أن ينقطع الدم، فإذا انقطع فلا حرمة؛ لأن الله سبحانه جعل غاية لذلك (وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ) ويَطْهُرْن أي ينقطع الدم عنهن، فالطُّهْرُ إذا نسب للمرأة لا يدل على الاغتسال لغة، بل معناه فيها انقطاع الدم فإنَّ (طَهُرَتْ) خلاف (طَمِثَتْ)، وامرأة طاهر ونساء طواهر: طَهُرْن من الحيض أي انقطع دمهن.
أما القول بأن هذه الآية تقرأ قراءتين متواترتين ( حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ ) بالتخفيف، وكذلك ( يطّهرن ) بالتشـديـد فـهـذا صـحـيح، والتخفيف تعني انقطاع الدم لا غير، فهي من المحكم. وقراءة التشديد تعني انقطاع الدم والاغتسال فهي من المتشابه؛ ولأنهما قراءتان متواترتان، والمحكم قاض على المتشابه؛ فإن المعنى في القراءتين يكون قد تعين بانقطاع الدم.
أي أن التحريم ينتهي بانقطاع الدم من مفهوم الغاية (وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ) فهو يعني: (ولا تجامعوهن حتى ينقطع الدم) فغايته انقطاع الدم.
فمن أتى امرأته قبل انقطاع الدم فقد ارتكب حرامًا وعليه عقوبة تعزيرية، إن وصل أمره للقضاء في الدولة الإسلامية، يقدرها القاضي بما تزجره، ويجوز للقاضي أن يحكم عليه بصدقة يخرجها كما أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس موقوفًا عليه في الصحيح: “أن من أتى امرأته وهي حائض يتصدق بدينار إن كان دمًا أحمر، أو نصف دينار إن كان دمًا أصفر” (أحمد، الدر المنثور) ويجوز للقاضي أن يقدرها بعقوبة أخرى تزجر فاعله، هذا إن وصل خبره إلى القضاء، وإن لم يصل فليتب الفاعل ويستغفر ربه، وعسى الله أن يغفر له ويتوب عليه إن كان صادقًا مخلصًا ( إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ ٢٢٢).
-
إن الآية تفيد جواز مباشرة النساء بعد الحيض في حالتين:
أ. إذا انقطع الدم بقوله سبحانه (وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ ) ومفهومه الحل بعد انقطاع الدم.
ب. وبعد الاغتسال بعد انقطاع الدم ( فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ ) فيجوز هذا وذاك ولا تناقض بين مفهوم الأولى ومنطوق الثانية.
غير أن الفارق أن قوله سبحانه: ( وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ ) جعل غاية لتحريم المباشرة وهي انقطاع الدم، فإذا انتهى هذا الأمر تعود المباشرة للمرأة كما كانت قبل وجود المانع وهو (الحيض) فتكون المباشـرة للمـرأة وبعـد انقطاع الدم مبـاحـة، أي لا إثم فيها.
أما قوله سبحانه: ( فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ ) فهي تعني أن إتيان المرأة بعد انقطاع الدم وبعد الاغتسال يكون مندوبًا، وذلك لأن قوله سبحانه: ( إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ ٢٢٢) هو مدح للمتطهرين وفيه دلالة إشارة على مدح الزوج الذي لم يأتِ زوجته إلا بعد أن ينقطع الدم وتغتسل؛ ولأن هذا المدح بدون قرينة جازمة فيكون مندوبًا كما هو مبين في الأصول.
ومما يجدر ذكره ويجب أن يلفت النظر إليه أن المندوب غير المباح، ففي المندوب ثواب وأجر بالنسبة لمن أتى امرأته بعد أن ينقطع دمها وتغتسل، وليس كالإباحة في إتيانها بعد انقطاع الدم؛ فإن ذلك الأجر في هذه الحالة يفوته.
-
أما إتيان المرأة فيحرم أن يكون في غير موضع الزرع، أي موضع الولد وذلك لأن الله سبحانه يقول: (فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ ) قال ابن عباس: أي الفرج، ولا تعدوه إلى غيره. وفي الآية الثانية بين الله ذلك فقال: (نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ ) أي هنّ حرث لكم بمعنى مكان الزرع لكم، فقد تحدد الإتيان بمكان الزرع أي مكان النسل.
(فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ ) أي كيف شئتم مستلقية، أو على جنب، أو من قدام، أو خلف، ولكن في مكان الزرع، مكان النسل أي القبل.
ولذلك يحرم على الرجل أن يأتي امرأته في دبرها، وتسمى هذه باللوطية الصغرى وعلى فاعلها عقوبة تعزيرية زاجرة يقدرها القاضي لتردعه وتردع غيره، وذلك إذا وصل أمره للقضاء فإن لم يصل فعقوبته تكون يوم القيامة إلا أن يغفر الله له، فالله غفور رحيم؛ ولكنه سبحانه كذلك شديد العقاب.
أما لماذا قلنا إن الآية تفيد تحريم إتيان النساء في أدبارهن؛ فلأن في الآية نهي عن إتيان غير محلّ الزرع؛ وذلك من مفهوم الآية (فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ ) وهناك قرينة على الجزم قوله سبحانه (وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ ) فهو وعيد من الله سبحانه لمن عصاه أن يعلم أنه ملاقيه، وفي هذا ما فيه من الوعيد. فالأمر بالتقوى والوعيد بأنه ملاقيه تعني تهديدًا من الله بالعقوبة، وهي قرينة على أن الإتيان في غير مكان الحرث أي الدبر منهي عنه نهيًا جازمًا، أي أنه حرام.
وقد وردت أحاديث صحيحة في ذلك بالإضافة للآية الكريمة:
أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول، فأنزل الله الآية: (نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ) أي أن الله بين كذب ما زعموه.
أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «إن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأته وهي مدبرة جاء الولد أحول. فأنزل الله ( نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مقبلة ومدبرة إن كان ذلك في الفرج» (الدر المنثور: 2/627، الكامل لضعفاء الرجال لابن عدي: 7/13، ووثقه، تاريخ بغداد: 12/484).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا، إن الله لا يستحي من الحق، لا يحلّ أن تأتوا النساء في حشوشهن» (الدر المنثور، الدارقطني) أي في أدبارهن.
أخـرج الإمـام أحمـد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى»(أحمد، الدر المنثور).
ثم يختم الله الآية مبينًا للمؤمنين أن يقدموا خيرًا لأزواجهم عند المعاشرة والمباشرة من عمل صالح وإحسان بينهم وتسمية عند الجماع وما يدعو للألفة وحسن الصحبة من مقدمات، وأن يتقوا الله في كلّ ما يفعلون، ويتذكروا دائمًا أنهم لا بدّ ملاقو الله سبحانه؛ فيجزيهم على كلّ معصية يعصونها أو خطأ يرتكبونه.
وفي الوقت نفسه بشر الله المؤمنين الملتزمين طاعته سبحانه الصادقين المخلصين بنعيم كبير ورضوان من الله أكبر (وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ).