«الثوابت الوطنية» ليست من الإسلام في شيء
2013/01/01م
المقالات
4,144 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
«الثوابت الوطنية» ليست من الإسلام في شيء
الــــــمــــهــــنـــــــــــــــدس هـــــــــــــشـــــام الــــــــــبـــــــابـــــــــــــــا
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير – ولاية سوريا
لما كانت هذه الأمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) هي الأمة الإسلامية، فقد بحثنا في القرآن الكريم بين دفتيه وفي معاجمه وفي أمهات كتب التفاسير وفي الصحاح وفي أمهات كتب الحديث الشريف لإدراك واقع الأمة ومكوِّناتها فلم نجد لعبارة “ الثوابت الوطنية” أي مدلول أو أي معنى أو أي مغزى أو حتى منبع، بل لم نجد هذه العبارة إطلاقاً. فلم ترد في قرآن ولاحديث ولا كلام الصحابة ولاكبار علماء الأمة علماء العصور الثلاثة التي مدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم . لذا كان لابد لنا من العودة للمنبع اللغوي لهذه العبارة وتحكيم الشرع الإسلامي الحنيف بها.
الوطنية من “الوطن”
– ورد في لسان العرب: “الوطن المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله والجمع أوطان…”.
– وفي معجم العين للخليل بن أحمد: “الوَطَنُ: مَوْطِنُ الإنسان ومَحَلُّهُ وأوطانُ الأغنام: مَرابضُها التي تأوي إليها، ويُقال: أَوْطَنَ فلانٌ أرضَ كذا، أي: اتّخذها مَحَلاًّ ومَسْكَناً يُقِيمُ بها، قال رؤبة:
حتّى رَأَى أَهْلُ العِراقِ أَنَّني أَوْطَنْتُ أرضاً لم تكُنْ من وَطني
والمَوْطِنُ: كلّ مكان قام به الإنسانُ لأمرٍ.”
– وورد في معجم الصحاح للجوهري:
“الوَطَنُ: محلُّ الإنسان. وأَوْطانُ الغنم: مرابِضها. وأَوْطَنْتُ الأرضَ، ووَطَّنْتُها تَوْطيناً، واسْتَوْطَنْتُها، أي اتَّخذتها وَطَناً. وكذلك الاتِّطانُ، وهو افتِعالٌ منه. وتَوْطينُ النفس على الشيء، كالتمهيد. ويقال: من أين ميطانُكَ، أي غايتك. والميطانُ: الموضع الذي يُوَطَّنُ لتُرسَل منه الخيل في السباق، وهو أوَّل الغاية. والمَوْطِنُ: المشهدُ من مشاهد الحرب. قال تعالى:( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ). قال طرفة:
على مَوْطِنٍ يخشى الفتى عندَه الرَدَى
متى تَعْتَرِكْ فيه الفوارِسُ تُرْعَدِ
– وورد في معجم تهذيب اللغة للأزهري
«قال الليث: الوَطنُ مَوْطِن الإنسان ومحلُّه. قال: وأوطان الغنم مرابضها التي تأوي إليها. ويقال: أَوْطَن فلان أرض كذا وكذا، أي اتَّخذها محلاًّ ومسكناً يقيم فيها، قال رؤبة:
حتى رأى أهلُ العراقِ أَنَّني
أوطنْتُ أرضاً لم تكن من وَطَني
وأما الوطن فكل مكان قام به الإنسان لأمرٍ فهو موطن له، كقولك: إذا أتيتَ فوقفتَ في تلك المواطنِ فادعُ الله لي ولإخواني».
– وورد في القاموس المحيط «المعنى اللغوي لكلمة وطن: منزل الإقامة ومربط البقر والغنم، الجمع أوطان، ووطن به يطن وأوطن: أقام. والإقامة قد تكون في قرية أو مدينة، وبذلك تصلح المدينة أو القرية لأن تكون وطناً».
إذاً، فإن أوسع مدلول لكلمة وطن هو القرية أو المدينة التي يعيش فيها الإنسان، أما سائر المدن والقرى فهي كلها بالنسبة له سواء، لا فرق بين مدينة أو قرية ضمن ولايته أو إمارته أو دولته وبين أخرى تقع خارجها، فكلها سواء من حيث إنه لا يستوطنها. فالمقيم في بيروت مثلاً قد يتعلق قلبه ببيروت لأنه عاش فيها واستوطنها واعتاد عليها، إلا أنه لا فرق بالنسبة له بين طرابلس الشام ودمشق أو بين صيدا والإسكندرية، أو بين بعلبك وبغداد… من حيث إنها كلها مدن لا يستوطنها.
وفي صفته صلى الله عليه وسلم : كان لا يوطن الأماكن أي لا يتخذ لنفسه مجلساً يعرف به، أما المَواطن فكل مقام قام به الإنسان لأمر فهو موطن له .
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن نقرة الغراب، وأن يوطن الرجل في المكان بالمسجد كما يوطن البعير، قيل معناه أن يألف الرجل مكاناً معلوماً من المسجد مخصوصاً به يصلي فيه كالبعير لا يأوي من عطن إلا إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخاً، ومنه الحديث „أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إيطان المساجد، أي اتخاذها وطناً.»
والوطن كلّ مكان قام به الإنسانُ لأمرٍ. فكل مكان قام به الإنسان لأمرٍ فهو موطن له، أَوْطَن فلان أرض كذا وكذا، أي اتَّخذها محلاًّ ومسكناً يقيم فيها. فالوطن ليس هو إلا محل إقامة الإنسان، سواء كانت إقامة دائمية أو مؤقتة، فالذي يسافر فترة لبلد آخر، فإنه يتخذه وطناً، أي مسكناً ومقاماً، ولو مؤقتاً. ويقول الحريري في مقاماته:
وَجُبِ البلادَ فأيها أرضاك فاتخذهُ وَطَنْ
وتوطين النفس على شيء هو تعويدها عليه، والتواطن والمواطنة بين شخصين يعني الاتفاق والتراضي وترويض النفس على ما اتفقا عليه.
ولم يكن عند المسلمين قبل هدم دولة الخلافة أي معنى لكلمة الوطن غير هذا المعنى، الذي هو مكان السكن، ومكان الإقامة، ومكان الحلول في السفر.
ولم يرد في القرآن الكريم أي استعمال لهذا اللفظ.
أما في السنة، فقد ورد في معجم الطبراني الأوسط، في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر، في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد فيه: «ويا موسى، وطِّن نفسك على الصبر تلقَ الحكم»، وطّن نفسك، أو عوّد نفسك وروِّضها.
وفي شعب الإيمان للبيهقي نص لغوي وليس حديثاً، ينقله الأصمعي عن أعرابي من الأعراب: (أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا علي بن محمد الحبيبي ، بمرو ، أخبرني محمد بن عبد الله اليعمري ، أخبرني المبرد ، عن الأصمعي ، يقول : سمعت أعرابياً يقول: «اليأس حر، والطمع عبد، والغنى وطن، والفقر غربة، وقد وجدنا من لذة العفو ما لم نجد من لذة العقوبة» وفي مسند أبي يعلى، حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال، ورد فيه: „يقول رجل منهم، وقد وطن نفسه على أنهم يقتلونه فيجدهم موتى، فيناديهم: ألا فأبشروا، فقد أهلك الله عدوَّكم»، وطّن نفسه، أي هيَّأها وروَّضها.
وورد في كتاب نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية: «وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَوْطَنَ غَيْرَهُ، ثُمَّ سَافَرَ فَدَخَلَ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ قَصَرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ وَطَنًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ دُونَ السَّفَرِ ، وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ وَبِالسَّفَرِ وَبِالْأَصْلِيِّ.
انظر تغيير الوطن في النص السابق، وأنه قد جعل مقياساً للقصر، وانظر كيف ضرب مثالاً برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في مكة عدَّ نفسه مسافراً، ولم يعتبر نفسه في وطنه، لأن وطنه قد صار المدينة، أي أنه قد اتخذها مسكناً ومقاماً دائمياً.
فهذا رسول الله عليه سلام الله قد اعتبر مكة محل سفر وقصر فيها الصلاة، أي لم يعتبرها وطناً، حيث الوطن في اصطلاح اللغة محل الإقامة، فاعتبر نفسه عليه الصلاة والسلام في مكة مسافراً لا مقيماً، وقصر الصلاة، فمن أين جئنا بمفهوم الوطنية والانتماء إلى الوطن طالما لم يعتبر مكة له وطناً له بعد أن أقام في غيرها؟
إن مصطلح الوطنية إنما ظهر في المجتمع الأوروبي على أثر تطورات فكرية وسياسية هامة أدت إلى إعادة صياغة المجتمعات الأوروبية. وبإيجاز نقول إن مفهوم الوطن كونه بلداً ترتبط فيه جماعة من الناس تتفق أن تلتزم بسيادة الوطن وإطاعة الحاكم، وما يتبعه من أجهزة حكومية، إنما ظهر بعد أن سعى سياسيون وفلاسفة في كسر شوكة الكنيسة، والحد من تدخلها في الحياة العامة في المجتمعات الأوروبية، وذلك على أثر الصراع الدامي الذي دار لعقود من الزمن واستهلك الكثير من الدماء والثروات، من هنا تنادى المفكرون إلى ضرورة وضع أسس جديدة تربط بين الناس، لا على أساس الدين والمذاهب الدينية التي أدت إلى سفك الدماء، وإنما على الولاء للوطن، أي إن تحويل الولاء من الكنيسة ورجالاتها وأيضاً من رجال الإقطاع إلى الحاكم الوطني كان من أبرز التحولات الفكرية السياسية التي عصفت بالمجتمع الأوروبي، والتي تُوِّجت بتكريس مفهوم “فصل الدين عن الحياة” وهو أساس الفكر العلماني الديمقراطي والعقيدة العلمانية الديمقراطية التي تقوم على إنكار دور الدين والخالق في تصريف شؤون المجتمع، وان كانوا تساهلوا بعض الشيء بحيث سمحوا للأفراد بالتديُّن، ولكن على أن لا يتدخل هذا التدين بالشؤون العامة.
وبناء على هذه النظرية العلمانية، قام المفكرون والفلاسفة من أمثال روسو وجون لوك وفولتير ومونتسيكيو بوضع أسس نظرية “العقد الاجتماعي” وهو عبارة عن عقد بين الحاكم والمحكومين بحيث تكون للمواطن حقوق قانونية دستورية على الحاكم أن يحترمها، ومن هنا جاءت نظرية الحقوق الغربية ومن ثم حقوق المواطن و..إلخ
يرى الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله، في كتابه “الاسلام والحضارة الغربية” أن أول ما وردت لفظة «الوطن» إنما جاءت من خلال الأزهري المتفرنس رفاعة الطهطاوي الذي أُشرب حب فرنسا والحضارة الفرنسية حينما أقام فيها من 1826م الى 1832م، فلما عاد إلى مصر، عاد يصدح بالحضارة الفرنسية وجمالها، وصار يدندن حول الوطنية، ولعله بدأ بداية خجولة، إلا أنه في الواقع طرح بذرة الفكرة التي جاء غيره من المضبوعين بحضارة الغرب ليكملوا سقيها ورعايتها، ومن هؤلاء بعض نصارى الشام الذين رأوا خلاصهم من حكم الإسلام بالعمل على نشر فكرة القومية والوطنية.
والوطنية يعرضها أصحابها رابطة تجمع الناس في وطن معين. أما ما هو هذا الوطن؟ فواقع الذين يدعون إلى الوطنية أنهم يعدون الوطن هو ذلك الكيان السياسي الذي تقوم فوقه دولة ذات حدود مرسومة على الخريطة بغض النظر عمن رسم تلك الحدود؛ فيتكلمون عن الوطنية السورية، والوطنية العراقية، والوطنية المصرية… وهكذا.
إلا أن أدعياء فكرة «الوطنية» لما أرادوا أن يبتدعوا فكرة يكرسون بها الكيانات التي أقامها الكافر المستعمر في بلادنا بعد أن قسمها إلى دويلات هزيلة، حرفوا كلمة «الوطن» لتصبح دالة على «لبنان» الذي أسسه غورو سنة 1920م، وعلى «العراق» و«الأردن» و«فلسطين» و«سوريا» و«مصر» التي أوجدتها معاهدات الغربيين و مؤامراتهم، وعلى رأسها سايكس بيكو.
ففكرة الوطنية جزء لا يتجزأ من المؤامرات الغربية لتكريس تجزئة بلاد المسلمين على لبنان وفلسطين وسوريا والأردن ومصر وليبيا… إلخ، وقد تجلت هذه الفكرة بشكل خطير في الشعارات التي تراها في كل زاوية: «الأردن أولاً»، «مصر للمصريين»، «القضية الفلسطينية شأن فلسطيني»، والآن «الوطن السوري».. وهكذا كرست الوطنية تفتيت الأمة الإسلامية، وجعلت أهل كل بلد غير معنيين بما يجري في البلد المسلم المجاور لهم، فحمامات الدم تراق في أرض الشام، سواء في فلسطين أم في سوريا، ولا ينتخي رجل في جيش مصر أو الأردن أو السعودية أو تركيا لأنها ليست «وطنه» !
كما إنها كرست تفتيت الأمة إلى دويلات، مع أن الإسلام حرَّم أن يكون للمسلمين أكثر من حاكم، بل أمر بإطاحة رأس الحاكم الثاني إذا ظهر وللمسلمين إمام يحكمهم، ثم إن الوطنية كرست الاعتراف بالاستقلال، أي استقلال البلاد الإسلامية بعضها عن بعض وتجزئتها، فتفرقت الأمة التي أمر الله أن تكون واحدة، تفرَّقت بفعل الوطنية إلى أمم؛ فضعفت الأمة أمام أعدائها فكانت الوطنية سهماً بغيضاً مكَّن للكافر المستعمر احتلال البلاد ومصَّ دمائها وخيراتها.
و بذلك تصبح «الوطنية» هي الرابطة التي تجمع الناس الذين يعيشون داخل حدود دولة من هذه الدول، وتفصلهم عن سائر الناس الذين هم خارج تلك الحدود. وبذلك يصبح اللبناني مرتبطاً فقط باللبناني ويصبح المصري مرتبطاً فقط بالمصري، حتى تنقسم الأمة وتتعدد همومها، و لا تعمل سوياً في سبيل قضية واحدة هي قضية الأمة، فما يهمُّ الجزائري لا يهم التونسي… وهكذا. ومن أجل تكريس ذلك المفهوم، بثت بين الناس شعارات مضللة خبيثة مثل «الدين لله و الوطن للجميع» ومثل «نحن ننتمي إلى الوطن قبل أن ننتمي إلى الدين»، ومثل «الإسلام للمسلمين» وماذا عن غير المسلمين في الوطن الواحد؟! وغيرها من الشعارات التي تتعارض مع الإسلام من حيث الأساس. فأين الوطنية من قوله صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وهل حضَّ الإسلام على الوطنية وعزز الشعور الوطني لدى المسلمين؟
دعاة ذلك يستندون إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال حين خرج من مكة: « أنت أحب بلاد الله إلي، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك»، ويستندون إلى أن الإسلام أمر بالدفاع عن الأوطان، واعتبر ذلك جهاداً في سبيل الله.
أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استدلوا به، فلا شأن له بالوطنية لا من قريب ولا من بعيد. فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يحب مكة لأنها وطنه، وإنما كان يحبها لأنها البلد الحرام الذي يحتضن الكعبة الشريفة. والذي يوضِّح ذلك هو الحديث نفسه الذي يستدلون به غالباً مجتزأً، فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة و قال: «أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إلي، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك». إذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب مكة لأنها أحب البلاد إلى الله تعالى.
وأما قولهم إن الاسلام أمر بالدفاع عن الأوطان واعتبر ذلك جهاداً في سبيل الله، ففيه كثير من التدليس والتضليل. ذلك أن الاسلام لم يأمر بالدفاع عن «الوطن» وإنما أمر بالدفاع عن البلاد الإسلامية بغض النظر عن كونها وطناً للمجاهد أو غير ذلك.
فعلى هذا الأساس، فإن واجب الجهاد لتحرير فلسطين من دولة يهود، وتحرير الأندلس من الأوروبيين، والدفاع عن أراضي البوسنة والهرسك والشيشان وبلاد كشمير في الهند، والذود عن المسلمين في سوريا، لا يناط فقط بأهل تلك البلاد طالما لا يستطيعون رد العدوان وحدهم، وإنما يناط الواجب بكل المسلمين الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى يتحقق الفرض. وعلى هذا الأساس أيضاً، لايجب على المسلم الذي يعيش في غير البلاد الإسلامية كأوستراليا وأميركا أن يدافع عن تلك البلاد إذا نشبت حرب بين دولته ودولة أخرى، بل لا يجوز له ذلك، لأن هذا قتال في غير سبيل الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من قاتل تحت راية عمية، يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقِتلته جاهلية».
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتمسك بتراب «وطنه» مكة الذي أخرج منه بغير حق هو وصحابته الكرام، وقد كان في استطاعته ذلك بعد الفتح. لكنه رجع إلى المدينة عاصمة الدولة الإسلامية وأقام فيها ما تبقى من أيام حياته، ولم يوصِ المسلمين بدفن جثمانه الطاهر في تراب «الوطن» مكة المكرمة، وهكذا فعل أصحابه رضوان الله عليهم من بعده، فشهداء بدر وأحد دفنوا في البقيع في المدينة، وأبو عبيدة دفن في الشام بغور الأردن، وأبو أيوب الأنصاري دفن قرب أسوار القسطنطينية، وخالد بن الوليد دفن في حمص، وحفظة القرآن الكريم من الصحابة دفنت أعداد منهم في أطراف الهند وبحر قزوين خلال الفتوحات الإسلامية، ولم يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام أي اشارة «وطنية» أو حنين للديار، بل كان همهم الأول وقضيتهم المصيرية إعلاء كلمة الله ونشر الاسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
بل إن الإسلام اعتبر الوطنية من الدعاوى الجاهلية النتنة، من ذلك ما رواه جابر رضي الله عنه، حيث قال: «كنا في غزاة فكسع -وهو ضرب دبر غيره بيده أو رجله- رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين»، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هذا؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعوها فإنها منتنة». قال جابر وكانت الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ثم كثر المهاجرون بعد، فقال عبد الله بن أُبي أَوَقد فعلوا، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم : دعه لايتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه (رواه البخاري). فاعتبر عليه الصلاة والسلام الانحياز والتفرق على أساس أن أصل هذا من المدينة فهو أنصاري وذاك من مكة فهو مهاجري، وهذا ينصر قومه على هذا، اعتبر هذه الدعاوى منتنة وأمر بتركها ، وقال في رواية: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم!»
قال العلامة ابن تيمية رحمه الله «كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، وقال الأنصاري: يا لَلأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، وغضب لذلك غضباً شديداً» انتهى
وفي سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية».
ومن النصوص الواردة في ذلك ما رواه الترمذي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى».
ومن ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن الحارث الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فذكرها، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم» قيل يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله».
وهذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث وأبينها في إبطال الدعوة إلى القومية، والوطنية، واعتبارهما دعوة جاهلية، يستحق دعاتها أن يكونوا من جثي جهنم، وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون، فيا له من وعيد شديد، وتحذير ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية، والركون إلى معتنقيها، وإن زخرفوها بالمقالات السحرية، والخطب الرنانة الواسعة، التي لا أساس لها من الحقيقة، ولا شاهد لها من الواقع، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى، الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك.
فالوطنية تكرس انقسام الأمة وانفراط عقد جماعتها، أي تكرس الخروج عن الجماعة إلى دويلات متفرقة متناحرة مجزأة لا يمر المسلم فيها من أرض إلى أرض إلا بوثائق وتأشيرات وكأنه غريب في ديار الإسلام!! فتَبَّاً لوطنية فرقت الأمة الإسلامية، وتَبَّاً لثوابتها التي كلها تكريس لتجزئة هذه الأمة وإضعافها وهوانها.
لقد وصل الأمر ببعض دعاة «الوطنية» إلى افتراء الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم كقولهم (حب الوطن من الإيمان) فهذا ليس بحديث، ولم يقله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن حب الوطن شيء و“الوطنية“ شيء آخر.
فحب الوطن شيء طبيعي وغريزي لدى الإنسان ، ذلك أن قلب الإنسان يتعلق بالمكان الذي اعتاد عليه وترعرع فيه وكانت له معه ذكريات جميلة، فهو يحنُّ إلى البيت الذي ترعرع فيه، ويحب الحي أو القرية أو المدينة التي نشأ فيها أو سكنها فترة من الزمن، إلا أن هذا الحب «الغريزي» لا يتعدى القرية أو المدينة أو المنطقة التي عاش فيه الإنسان، وهو يشترك فيه مع الحيوان. أما «الوطنية» التي يروج لها مثقفو الحداثة وكتّاب الوسطية، فهي التي يريدون لها أن تكون رابطة تجمع سكان الدولة الواحدة وتفصلهم عن سائر إخوانهم في سائر العالم الإسلامي.
إن الدعوة إلى القومية أو الوطنية هي ترويج للفكر الغربي الغريب عن الإسلام. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». فالداعي إليهما آثم عند الله تعالى. فالواجب يحتم على المسلمين أن ينبذوا كل الأفكار والأطروحات الدخيلة، ويعودوا من جديد إلى إحياء الرابطة الإسلامية لإقامة مجتمعهم على أساس العقيدة الإسلامية، فتسوده أفكار الإسلام ومشاعره و أنظمته حتى تستأنف الأمة حياتها الإسلامية من جديد وتعود أرقى أمم العالم.
وحيث إن الإسلام يوجب على المسلم أن يتلقى دينه وشريعته من رب الكون لا من مفكرين وفلاسفة مصيرهم جهنم، فان الوطنية بقضها وقضيضها حرام بحرام بحرام، ولا يجوز الدعوة لها ولا السكوت عنها فانها من أكبر المنكرات التي تفرق بين المسلم وأخيه، وتؤدي الى سفك الدم المسلم بغير وجه حق، وتؤدي إلى جعل الولاء والبراء مبنيين على غير رابطة الإيمان، وتؤدي إلى اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ لذا فالواجب الشرعي على كل مسلم أن يتبرأ منها ومن أهلها، وأن يظهر العداوة لها ولمن عمل لها.
وبسقوط الوطنية كفكرة معادية للإسلام تسقط معها ثوابتها، أي مايسمى بالثوابت الوطنية، ولايبقى إلا الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وإلا الثوابت الإسلامية المنبثقة عن الأحكام الشرعية.
قال تعالى: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).
2013-01-01