من الأطروحات التي روّجتها بعض التيارات السياسية في السنوات الأخيرة، ولا سيّما مع اندلاع الثورات منذ أكثر من خمس سنوات، أنّ الخلافة على الرغم من كونها فريضة إسلامية يتّفق المسلمون على وجوبها، لا تشكّل اليوم المخرج من المأزق المستحكم في الأمّة، ولا سيّما في سوريا التي غرقت في حمّام الدم مع جوارها العراقي. ويعمد البعض إلى تسويق نظرية مؤدّاها أنّ الدعوة إلى دولة خلافة في هذه الظروف من شأنها أن تعقّد الأمور بما تثيره من حساسيات محلّية وإقليمية ودولية، من حيث هي ليست محل اتّفاق، بل قد تكون مستفزّة لأطراف فاعلة في الداخل السوري فضلًا عن الأنظمة الإقليمية والقوى الدولية. ثمّ جاء إعلان تنظيم الدولة خلافةً وهميةً مع ما رافقها من تشويه واضح لصورة الخلافة في عيون الذين لا يعرفون معناها ولا دلالتها، ليدفع المزيد من التيّارات إلى تجنّب الدعوة إلى مشروع الخلافة. بل وصل الأمر بالمراقب العامّ للإخوان المسلمين في سوريا إلى أن يعلن موقف تنظيمه بوضوح: أنّ الخلافة لا أصل لها في الشرع، وأنّه لا مكان لها في عالم اليوم!
ولا يخفى على أحد أثر الضغوط الدولية والإقليمية في نأي التيّارات الإسلامية بنفسها وعلى نحو متفاوت عن مشروع دولة الخلافة.
من هنا وجب تنبيه المخلصين في هذه الأمّة إلى خطورة هذا التنكّب وتلك الاستجابات للضغوط التي لا يحدوها سوى عداوتها للإسلام وكيانه التنفيذي المتمثّل في الخلافة، من حيث هي «رئاسة عامّة للمسلمين جميعًا في الدنيا لتطبيق أحكام الشرع وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم»، ومن حيث هي نظام محدَّد ومفصَّل للحكم يتميّز عن سائر أنظمة الحكم الوضعية المعروفة في العالم.
لسنا في هذه السطور بصدد تكرار الأدلّة الشرعية الدالّة على وجوب وجود دولة الخلافة وتطبيق نظام الإسلام. فقد سبق وأسهبنا في بسط هذه الأدلّة، وما زالت مادّة أساسية في دعوتنا. ولكنّنا ههنا نريد أن نردّ الشبهات التي تُطرح في مواجهة هذه الفريضة في واقعنا الحالي، بل وأن نثبت بدلالة الواقع المحسوس أنّ قيام دولة الخلافة الراشدة اليوم ليس مجرّد مطلب شرعي، وإنّما هو الحلّ العملي الوحيد الذي يؤهّل الأمّة للخروج من المآزق التي تعيشها، وأركّز في كلمتي هذه على الواقع في بلاد الشام والرافدين.
إنّ مشكلات العالم الإسلامي التي يعانيها منذ حوالي قرن من الزمان كثيرة معقّدة إلّا أنّها على كثرتها وتعقُّدها تُعزى إلى عوامل ثلاثة أساسية:
1- تواري الهُويّة الإسلامية للأمّة بسبب تفشّي مفاهيم الحضارة الغربية وتطبيق أنظمتها الوضعية العلمانية الرأسمالية في بلاد المسلمين.
2- فقدان المسلمين سلطانَهم في بلادهم لصالح غيرهم، إمّا من خلال السيطرة المباشرة لدول الغرب، وإمّا من خلال تسلُّط عملائهم العلمانيين أو أبناء الملل المسمّاة بالأقليّات في البلاد الإسلامية.
3- انفراط عِقد العالم الإسلامي من الناحية الجيوسياسية؛ وذلك بسبب قيام كيانات سياسية قومية أو قطرية على أنقاض دولة الخلافة عقب الحرب العالمية الأولى.
هذه العوامل الثلاثة هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن ذلك الكمّ الهائل من المشكلات والأزمات والكوارث التي تعاني منها الأمّة على امتداد العالم الإسلامي، ولا سيّما في المنطقة المسمّاة بالشرق الأوسط.
أمّا عن تواري الهويّة الحضارية للأمّة الإسلامية، فلا يخفى أنّ هذا حصل بفعل دخول المفاهيم الغربية عن الحياة والمجتمع والسياسة إلى بلاد المسلمين. ثمّ كانت الطامّة بتطبيق أنظمة الغرب الوضعية (أحكام الطاغوت) في بلاد المسلمين، ما أدّى إلى تحوّل المسلمين عن الحياة الإسلامية وفقدان مجتمعهم هويّته الإسلامية. وعليه فإنّ الخروج من هذه المأساة، مأساة فقدان الهويّة، بعد التقدّم الكبير في استعادة الثقة بأنظمة الإسلام وسقوط الثقة والإعجاب بالغرب وحضارته وتشريعاته، يكون بالتطبيق الكامل لأنظمة الإسلام، أي بتطبيق الشريعة الإسلامية. وهذا لا يتأتّى إلّا بأن تكون الدولة إسلاميةً خالصةً، فتكون السيادة فيها لشرع الله تعالى وحده. أما الكلام العامّ والمموّه عن احترام الهوية وثقافة الشعب واحترام مقدساته، وعلى الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، دون حسم الأمور في اعتماد الثقافة الإسلامية مكوِّنًا للمجتمع والشريعة، ونظامًا وحيدًا تُرعى به شؤون الناس، فإنّه كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يبقى مدخلًا لقبول المكوِّن غير الإسلامي في ثقافة الأمّة وقوانينها المرعية.
وأمّا عن فقدان المسلمين سلطانَهم، فإنّه لا يخفى أنّه من أعظم المحرّمات في دين الله وأنّه من أكبر الكبائر. قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ . فخصّ الله تعالى ولاية الأمر بأن تكون «منكم» أي من المؤمنين. والواقع الذي لا مراء فيه هو أنّ انتقال السلطان في بلاد المسلمين إلى غيرهم، فضلًا عن أنّه جعل السيادة فيهم لغير شرع الله، قد حوّل مفهوم الحكم والسلطان من رعاية شؤون المسلمين ومَن يعيش معهم إلى رعاية مصالح الغرب وأوليائه وأتباعه في بلادنا، ولا سيّما الفئة الحاكمة منهم. لذلك فإنّه لا يُتصوَّر أن يخرج المسلمون من تبعية القرار السياسي للخارج إلّا بقيام دولة يكون السلطان الكامل فيها للمسلمين، وهذا لا يكون إلّا بدولة ذات شوكة وقوّة وهيبة، تستند في قرارها وسياستها إلى سيادة الشرع وسلطان الأمّة دون غيرهما.
أمّا أن تكون الدولة جزءًا ممّا يسمّى بالأسرة الدولية التي تفرض مفاهيمها السياسية على دول العالم، فتأسرَ الدولةُ نفسَها في عضوية الأمم المتّحدة وسائر المنظمات الدولية وتلتزم قوانينها ومواثيقها التي لم توضع إلّا لتكريس هيمنة الدول الكبرى وإخضاع الأمم الضعيفة، فهذا يعني الإصرار على البقاء في قعر الهوّة السحيقة التي سقطت فيها الأمّة منذ انهيار دولتها وخضوعها للأسرة الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، والتي جعلت البلاد والعباد رهن إشارة الدول الكبرى. وإنّ رفع الشعار القائل «نحن لا نعيش وحدنا في هذا العالم» هذه الأيام هو ترويج للاصطفاف في طابور الأمم الخاضعة للقانون الدولي وقرارات الدول الكبرى، وهو جريمة من أعظم الجرائم التي تعزز هيمنة دول الكفر على بلاد المسلمين. ولا شكّ أنّ الإصرار على اعتماد المشاريع القطرية، أي على خطوط سايكس-بيكو ومفرزاتها يعزّز هذه الأطروحة، لأنّ الكيانات القطرية القائمة في المنطقة العربية تحديدًا لا يملك كلٌّ منها منفردًا ما يؤهله الصمودَ طويلًا في وجه الضغوط الدولية، ومن هنا تأتي أهمّية – بل حتمية – أن يكون المشروع السياسي للأمّة الإسلامية عابرًا للحدود القطرية التي أنشأها الغرب في بلادنا، وهذا ما يؤكّد أهمّية النقطة الثالثة التالية.
وأمّا عن انفراط عِقد البلاد الإسلامية بانقسامها إلى عشرات الدول والدويلات، فإنّه آفة ومشكلة بحدّ ذاتها، فوق مشكلة فقدان الهوية وضياع السلطان. فسقوط الدولة الإسلامية كان عاملًا في انقسام البلاد الإسلامية وتَفتُّتِها إلى دويلات، إلّا أن التفتُّت الذي عرفه العالم الإسلامي عقب سقوط دولة الخلافة لم يكن من النوع الطبيعي الناشئ عن تمايز الخصائص بين سكان البلاد الإسلامية، وإنّما كان مصطنعًا إلى أبعد الحدود، ولا سيّما في المنطقة العربية التي قُسِّمت على نحو يخلو من أيّ منطق، سوى منطق التفتيت المتعمّد من قبل بريطانيا وفرنسا آنذاك، على قاعدة «فرِّق تسد». والغاية من هذا التفتيت هي القضاء على ما تبقّى من عوامل القوّة في هذه الأمّة، أعني بها ههنا الامتداد البشري والجغرافي للبلاد العربية مع ما تحويه من المقوّمات الاقتصادية والمادّية. فلم يكتف الاستعمار الأوروبي آنذاك بشرذمة المسلمين على أساس الفكرة القومية التي فرّقت المسلمين في الحرب العالمية الأولى إلى فريقين متقاتلين عربًا وتركًا، بل وجد أنّ الامتداد الواسع للعرب بشريًّا وجغرافيًّا يبقى خطرًا كامنًا ما دام للإسلام بقيّة في نفوس هؤلاء العرب، فكان أن رسم تلك الحدود المسطرية بين بلاد يجمعها عامل اللغة، فوق عامل العقيدة الأقوى والأمتن.
وإنّ من أخطر الأطروحات السياسية اليوم هي تلك التي تنظر إلى هذه الكيانات المصطنعة في العالم الإسلامي على أنها قدرٌ ماضٍ لا سبيلٍ إلى الانفكاك منه، وأن المشاريع السياسية يجب أن تفصّل على قياسها، بحيث يستبعد العاملون على التغيير فكرة عبور الكيانات القطرية وقيام دولة تمحو خطوط سايكس-بيكو وأخواتها. وخطورة هذه الفكرة تأتي من ناحية أنّ هذه الكيانات القطرية ليس مؤهلاً كلٌّ منها بمفرده ليكون دولة مستقلّة القرار، ذلك أنّها لا تملك أن تبقى ممتنعة طويلًا أمام سياسة الهيمنة التي تمارسها دول الغرب – وعلى رأسها الولايات المتّحدة – على سائر شعوب العالم وبلادها. ففي عالم اليوم لم يبقَ ثمّة مكان لدول صغيرة مستقلّة الإرادة كما كان يمكن أن يحصل في غابر التاريخ. فتحوُّل العالم اليوم إلى قرية صغيرة بفعل تطور المواصلات والاتّصالات مكّن القوى الكبرى من الوصول إلى أصغر زاوية في أبعد كيانٍ في العالم، وبات مطلوبًا من الدول الصغيرة والضعيفة أن تمتثل للأوامر التي تصدر عن الأسرة الدولية. وإنّ القبول بهذا الوضع هو دون أدنى شكّ موافقة على البقاء في دائرة الهيمنة الغربية وأدواتها المحلية. وإنّ نظرةً إلى ما آلت إليه الأوضاع في أقطار الثورة في السنوات الخمس الماضية يؤكّد أنّ رهن التغيير بالإرادة الغربية – أو حتّى على الأقلّ برضاه – يعيد البلاد بعد الثورة إلى ما كانت عليه قبلها، كما هو الحال في تونس التي عادت إلى طغمة الحكم السابقة، أو كما هو أسوأ في مصر التي آلت إلى أنكى مما كانت عليه قبل الثورة. فأنظمة الحكم القمعية القائمة في المنطقة العربية ليست موجودة إلّا بقرار من الدول الغربية، باعتبارها تشكّل الضمانة لبقاء البلاد والعباد تحت هيمنة الدول الكبرى. وإنّ التفكير بتغيير الأنظمة المحلّية دون الانفكاك من هيمنة دول الغرب والتخلّص من قيود الأسرة الدولية هو تفكير عقيم، بل تفكير مدمّر، إذ يبعث في الناس قناعة بأنّ التفكير بالتغيير لم يزد الأمّة إلّا خضوعًا وفشلًا. من هنا كان لا بدّ من اليقين بأنّ التحرّر المطلوب هو ليس التحرّر من الأنظمة الاستبدادية التي هي أدوات للهيمنة الغربية، وإنّما التحرّر هو تحرّر البلاد والعباد من إرادة الأجنبي الذي لم يضمر يومًا للإسلام والمسلمين إلّا شرًّا، ومن لا يقين عنده بهذا فليراجع نفسه، وليراجع كتاب الله تعالى، وليراجع التاريخ الحافل بالعداء بين الأمّة الإسلامية ودول الكفر، وفي مقدّمتها دول الغرب الذي لم يتخلّ عن صليبيته، في علاقته بالمسلمين على وجه الخصوص.
من هنا كان لا بدّ لثورة التحرّر التي انطلقت منذ أكثر من خمس سنوات أن تتزوّد بمشروع سياسي عابر للحدود القطرية ليجمع منذ بدايته من طاقات الأمّة وقواها ما يمتدّ على الأقل في إقليم من أقاليمها توصُّلًا إلى جمع الأمّة لاحقًا في كيان سياسي واحد. إذ لا يملك أيّ مشروع مفصّل على قياس الحدود القطرية أن يصمد في وجه الوحش الدولي المسمّى الأسرة الدولية بزعامة الولايات المتّحدة الأميركية.
هذه هي شروط التغيير التي لا بدّ للقوى العاملة للتغيير من أن تسلّم بها، وهي من جديد وباختصار:
1- ضرورة أن يكون المشروع السياسي مستعيدًا للهويّة الإسلامية والحياة الإسلامية بشكل كامل.
2- أن يستعيد هذا المشروع سلطان الأمّة المسلوب استعادة كاملة، ليكون معبّرًا عن إرادة الأمّة وحدها، دونما تدخّل من الإرادة الأجنبية.
3 – أن يمتلك المشروع السياسي من القوّة والامتناع أمام القوى الخارجية ما يتجاوز إمكانيات الدول القطرية القائمة في المنطقة العربية، أي أن لا يكون المشروع على قياس الحدود السياسية القائمة في المنطقة.
وإن لم تسلّم قوى التغيير بهذه الشروط والمقوّمات لعملية التغيير، فنحن أمام استحقاق في غاية الخطورة، ألا وهو إقناع ما يكفي من هذه القوى بها، ليحصل في الأمّة التغيير الحقيقي المنتج.
وبالمقابل، إن وجدت القناعة بهذه الشروط عند قوى التغيير، فلا مناصّ أمامها من أن توقن أنّ المشروع السياسي الوحيد الذي تتوفّر فيه هذه الشروط هو مشروع دولة الخلافة الراشدة. فالخلافة، من حيث هي «رئاسة عامّة للمسلمين جميعًا في الدنيا لتطبيق أحكام الشرع وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم»، هي الوحيدة التي تُفضي إلى استعادة الهوية كاملة، واستعادة سلطان الأمة المسلوب، وهي وحدها الكفيلة بتحطيم الحدود التي تمزِّق بلاد المسلمين وتقطع أوصالها. ونتحدى جميع من يرفض مشروع الخلافة، ولو مرحليًا – كما يعلن البعض – أن يتقدّم بأيّ مشروع سياسي آخر منتج يخرج الأمّة من حالة الغثائية والتبعية إلى التحرّر واستئناف الحياة الإسلامية.
قال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا