سؤال وجواب
1987/11/26م
المقالات
2,807 زيارة
تتوالى على أسرة التحرير الاستفسارات الشرعية. ومن الملاحظ أن الأسئلة بدأت تأخذ بعداً عملياً، بحيث ينبني على الإجابة عليها أمور عملية مهمة، وهذه بادرة جيدة. وها هنا كوكبة من الأسئلة تقدم بها القارئ الموقع ع.ف ـ بيروت.
س1:إذا لم تكن هناك دولة إسلامية تقيم الحدود الشرعية فهل يجوز أن يتولى الأفراد ذلك؟
ج1: الحالة الأصلية للمسلمين أن تكون لهم دولة واحدة وإمام واحد يحكمهم بما أنزل الله. وحين بحث الأئمة في موضوع من هو صاحب الصلاحية في تنفيذ الحدود اتفقوا على أنه السلطان، أي خليفة المسلمين. ولم يَدُرْ في خلد الأئمة في السابق أن المسلمين سيصبحون بدون جماعة وبدون إمام، كما ورد في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. ولذلك فإنهم لم يبحثوا: من هو صاحب الصلاحية في تنفيذ الحدود في حالة عدم وجود دولة إسلامية.
أما في الحالة الأصلية فإن الخليفة وحده (ومن ينيبه عنه) هو الذي يقيم الحدود.
قال النووي في شرح صحيح مسلم عند شرحه لحديث: «اذهبوا به فارجموه»، قال: (فيه جواز استنابة الإمام أو من فوض ذلك إليه) ا.هـ.[ج11/ص 139].
وقال القرطبي: (اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد حقّه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان، أو من نصبه السلطان لذلك. ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض) ا.هـ. [تفسير القرطبي ج2/ص 237].
وقد لخص محمد على الصابوني أقوال المذاهب في هذه المسألة كالتالي: (وقد اتفق العلماء على أن الذي يقيم الحدود على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه، أما الأرقاء فقد اختلفوا فيهم على مذهبين:
أ- مذهب مالك والشافعي وأحمد، قالوا: يجوز للسيّد أن يقيم الحدّ على عبده وأمته في الزنا والخمر والقذف، وأما السرقة فإنه من حقّ الإمام.
ب- مذهب الأحناف، قالوا: إقامة الحدود كلّها من حق الإمام، ولا يملك السيد أن يقيم حداً ما إلا بإذن الإمام) ا.هـ. [ تفسير آيات الأحكام ج2/ص 32].
إذاً فإن هناك اتفاقاً بين أئمة الفتوى على أن السلطان وحده هو صاحب الصلاحية في إقامة الحدود. وهناك فرع اختلفوا فيه وهو: هل للسيد أن يقيم الحدود على عبده وأمته أو ليس له ذلك؟ وهذا فرع لا وزن له الآن من الوجهة العمليّة لأن وجود الرقيق نادر.
أما الآن فلا يوجد للمسلمين دولة ولا إمام والحدود معطّلة، فهل يقوم الأفراد بإقامة الحدود حسب استطاعتهم؟ كلا، فإن ما حصره الشرع بالإمام فإنه لا يجوز لغيره. وواجب المسلمين في هذه الحالة أن يوجدوا الإمام، لا أن يتكيفوا بحسب الواقع الفاسد. لأن هذا التكيّف هو قبول عملي بالواقع الفاسد وإهمال للواجب الحتمي السريع.
وإذا كان الشرع قد منع الأفراد (أي حرّم عليهم) من عمل معيّن؛ فإن هذا المنع يستمر إلى يوم القيامة إلا إذا وجدت رخصة، وفي هذه الحالة لا توجد رخصة.
أما حادثة الرجل الذي قتل زوجته لأنها سبّت رسول الله ﷺ فلا تصلح دليلاً على أن الأفراد ينفذون الحدود بأنفسهم، ذلك أن هذا الرجل قتل زوجته غضباً لرسول الله ﷺ وليس إقامة لحد. وهذا الرجل شعر أنه تصرف تصرفاً ربما يؤاخذ عليه، ولذلك ذهب إلى رسول الله ليدافع عن نفسه، وقد أجازه الرسول، فكانت حادثة عين، كما جعل ﷺ شهادة خزيمة بشهادتين.
ومن جهة أخرى فإن إقامة الحدّ تحتاج إلى محاكمة، وتحتاج إلى ثبوت البينة في المحكمة، ولا يكفي القاضي أن يحكم بموجب علمه الذي حصل عليه خارج جلسة المحاكمة. ولم يحصل شيء من ذلك من هذا الرجل الذي قتل زوجته. ولذلك فلم تشكل هذه الحادثة أية شبهة عند الأئمة.
س2: إذا ثبت أن فئة من المسلمين تتعامل مع العدوّ (إسرائيل)، فهل يجوز قتالهم وقتلهم؟
ج2: التعامل مع العدوّ جريمة، وعقوبة هذه الجريمة تعتمد على نوع التعامل وظروف التعامل. هناك مسلمون تحت حكم إسرائيل، وهناك مسلمون في مصر قامت حكومتهم بالصلح مع إسرائيل وصاروا يتعاملون معها، وهناك مسلمون في بلاد مختلفة مثل الأردن ولبنان وأوروبا وأميركا لهم أقارب وأموال داخل إسرائيل ويذهبون إلى هناك. وهناك من يقوم بتهريب بعض البضائع من إسرائيل وإليها. وهناك من يعمل جاسوساً لإسرائيل…
إذاً فمن البديهي أن التعامل يحتاج إلى محاكمة وبينات كما ذُكر في الجواب السابق. والذي يحاكِم ويعاقِب لا بد أن يكون صاحب صلاحية شرعية (إذ أن بحثنا كله مبني على الشرع). فإذا كان الحكام الحاضرون هم أصحاب هذه الصلاحية فإن لهم أن يحاكِ,ا ويعاقِبوا. وفي حالة الجاسوس لهم أن يقتلوا لأن الجاسوس عقوبته القتل.
ولكنا نرى أن حاميها حراميها، كما يقال. إن الحكام الحاليين هم الذين يتعاملون مع العدو، منهم من يتعامل علناً ومنهم من يتعامل سراً. وتعاملهم هو ترويض للأمة وإعداد لها بالتضليل تارة وبالحرب طوراً وبالوقاحة السافرة أطواراً. فإذا أرادت الأمة أن تعمل عملاً جذرياً فعليها أن تبدأ بهؤلاء.
س3: هل يوجد في القضاء الإسلامي محاكم استئناف؟
ج3: لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محاكم استئناف ولا كان ذلك على أيام الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يرد في قرآن ولا سنّة. ولم تدخل محاكم الاستئناف إلى القضاء في البلاد الإسلامية إلا بعد أن غزا الكفار هذه البلاد وطُبِّقت فيها أنظمة الغرب.
تكلّم الفقهاء في مسألة: هل يحقّ لقاضٍ أن ينقض حكم قاض آخر؟ وكان رأيهم أنه لا يجوز.
إذا حكَم القاضي بحكم يخالف نصّ الكتاب أو السنّة أو إجماع الصحابة فإن حكمه مردود، وذلك لقول الرسول عليه وآله الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» ولقوله: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
جاء في كتاب المغني: (ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه إلا ما خالف نص كتاب أو سنّة أو إجماعاً.) وقال: (وبهذا قال الشافعي وزاد: إذا خالف نصاً جليّاً نقضه. وعن مالك وأبي حنيفة أنهما قالا: لا ينقض الحكم إلا إذا حالف الإجماع). وتابع صاحب المغني: (وأما إذا تغيّر اجتهادُه [أي القاضي] من غير أن يخالف نصّاً ولا إجماعاً، أو خالف اجتهاد من قبله لم ينقضه لمخالفته، لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك. فإن أبا بكر حكم في مسائل باجتهاده وخالفه عمر ولم ينقض أحكامه وعلي خالف عمر في اجتهاده فلم ينقض أحكامه. وخالفهما عليّ فلم ينقض أحكامهما) ا.هـ. [ج9/ص 57].
والشبهة التي وردت على بعض الفقهاء جاءت من عدم فهمهم لكتاب عمر رضي الله عنه الذي أرسله إلى أبي موسى ويقول فيه: “لا يمنعنّك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل”. لقد ظنّوا أن عمر يطلب من أبي موسى أن ينقض أحكام نفسه السابقة إذا تبين له أرجح منها. والحقيقة أن كلام عمر هذا يعني أنه منذ يتبين للقاضي ضعف اجتهاده السابق وقوة رأي جديد فإنه يجب عليه أن يقضي من عندها فصاعداً بالرأي الأرجح، أما الأحكام التي كان قد أصدرها وبلغت إلى أهلها فإنه لا يطلب نقضها. وذلك أن عمر نفسه حكم في المشركة بإسقاط الأخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال: «تلك على ما قضينا وهذه على قضينا»وقضى في الجدّ بقضايا مختلفة. ولم يردّ الأول.
وقد وردت عن رسول الله ﷺ حكاية أن داود عليه السلام حكم بالولد للمرأة الكبرى، فخرجنا على سلميان عليه السلام فقضى به للصغرى. وقد قال النووي في شرح مسلم عند هذا الحديث [ج 12/ص 18]: (والمجتهد لا ينقض حكم المجتهد،.. ولعله كان في شرعهم فسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافة) ا.هـ.
إذاً فالمسالة واضحة عند المسلمين: المجتهد لا ينقض حكم المجتهد. والقاضي لا ينتقض حكم قاض آخر ولا حكم نفسه السابق. ولكن إذا حكم القاضي بحكم يخالف نص كتاب أو سنّة أو إجماعاً، فإن مثل هذا الحكم يُنقض.
ولكن من الذي له صلاحية نقضه؟ ألا يعني ذلك أن علينا أن نقيم محكمة استئناف لتنظر في الأحكام التي يصدرها القضاة في المحاكم البدائية؟ كلا ليس علينا ذلك لأن الشرع لم يأمرنا به، وإذا فعلناه، فإن علينا أن نشكّل محكمة للنظر في أحكام محكمة الاستئناف وهكذا.
كان الناس إذا لمسوا من حاكم ظلماً أو من قاضٍ انحيازاً، كانوا يشكون أمرهم للخليفة وكان الخليفة ينظر في هذه المظالم أو ينيب عنه من ينظر فيها، فتشكلت محكمة المظالم. وتشكيل هذه المحكمة يستند إلى قوله تعالى: ]أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول[. ومحكمة المظالم هذه ليست هي محكمة استئناف، ولا تنظر في المشاكل بين الناس إلا إذا كانت من نوع الدعاوى المقامة من الناس على الحكام. وإذا أقام شخص دعوى على قاض لأنه بنظره منحاز فإن محكمة المظالم تنظر في دعواه على القاضي. فإن وجدت أن القاضي لم يخالف نصاً ولا إجماعاً فإنها لا تنقض حكمه، فحكم القاضي ماضٍ ما دام حكماً اجتهادياً سواء أصاب أم أخطأ، قال رسول الله ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر».
1987-11-26