بالفكر الإسلامي ننهض
1987/09/19م
المقالات
3,285 زيارة
ميّز الله تعالى الإنسان بالعقل، وجعل عنده القدرة على التفكير. فكان العقل في الإسلام مناط التكليف الشرعي، بوجوده يكون الإنسان مكّلفاً، وبفقدانه يسقط عنه التكليف. وقد ورد في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تحض الإنسان على التفكير.
قال الله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبّاً، ثم شقننا الأرض شقّاً، فأنبتنا فيها حبّاً) [عبس: 23]. وقال: (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب) [الطارق: 5]. وقال: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها، وزيناها وما لها من فروج) [ق: 6]. وقال: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت) [الغاشية:17]. وقال: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الأخرى، إن الله على كل شيء قدير) [يونس:20]. وقال: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) [البقرة: 219]. وقال : (أولم يتفكروا في أنفسهم، ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمّى) [الروم: 8]. وقال: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) [الروم: 21]. وقال: (كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكرون) [يونس:24]. وقال: (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) [الرعد: 23]. وقال: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) [آل عمران: 191]. وقال: (قل إنّما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفُرادى ثم تتفكروا، ما بصاحبكم من جِنّة، إن هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
ونلاحظ في هذه الآيات أن الله تعالى يطلب من الناس أن يُعْمِلوا نظرهم في مخلوقاته ليتوصلوا إلى وجوده. فكل ما في هذا الكون ليدل دلالة صارخة على وجود إله واحد أزلي واجب الوجود. هو الله تعالى. وإن طلب الله من الإنسان التوصل بالتفكير إلى عقيدة التوحيد لينبئنا عن أهمية الفكر في الإسلام.
يصبح الإنسان مسلماً حين يعتقد بقلبه، وينطق بلسانه أن “لا إله إلا الله، محمّد رسول الله”، غير أن ثمة فرق شاسع بين من يسلم مقلّداً، وبين من يتوصل بتفكيره إلى عقيدة الإسلام. فقد يكون المرء مسلماً دون أن يفكر ولو مرةً في حياته في إثبات وجود الله ونبوة محمد ﷺ عقلاً. ومن جهة أخرى، فإن المسلم يتوصل بتفكيره السليم إلى وجود إله واحد، وإلى نبوة محمد ﷺ، وذلك بإعمال النظر فيما يشاهده من مخلوقات الله. والله تعالى يطلب من الناس أن يؤمنوا عن بيِّنة، بإعمال النظر والتأمل في مظاهر الكون، فإن فيها من الآيات ما يكشف عن وجود من يُسيِّرها. وإنما الاعتقاد إيمان جازم عن يقين، واليقين لا بدّ أن يأتي عن طريق العقل والتفكير. ولا شك أن مثل هذا الإيمان لا يعطي أثره إلاّ إذا كان ناتجاً عن التفكير والتأمل. وحينئذ يكيِّف الإنسان حياته كلها بحسب هذه العقيدة التي توصّل إليها.
وقد كان الإنسان أفضل مخلوقات الله تعالى على الإطلاق، وكان فضله في عقله. لذلك يجب أن يكون التفكير أساس حياة هذا الإنسان بأن يكون مفكراً عاقلاً.
والإنسان ينهض بما لديه من فكر عن الوجود. فإذا كان هذا الكفر عن الوجود مستنيراً كان مؤثراً وأصبحت الحياة رهناً له. وإذا علمنا أن الإنسان يسير في حياته وفقاً لما لديه من مفاهيم عن الأشياء، لأدركنا كيف ينهض الإنسان بعقله. فمثل ذلك الفكر عن الوجود هو الذي يوجد المفاهيم عن الأشياء في الحياة، وهذه المفاهيم تحدد السلوك الإنساني.
إن من ينظر إلى الوجود على أنه مخلوق لله تعالى، وأنه محطة اختبار للوصول إلى الحياة الآخرة ليُكوِّن مفاهيمه في الحياة على هذا الأساس. فمثل هذا الإنسان يفهم المرأة مثلاً على أنّها عِرض يصان، والمجتمع على أنه تكافل وتعاضد، إلى غير ذلك من المفاهيم عن الأشياء. ومثل هذه المفاهيم تحدد سلوك الإنسان، تجاه المرأة وتجاه المجتمع، وتجاه كل شيء، ويصبح ناهضاً وراقياً.
أما من ينظر إلى الوجود على أنه الحياة الأولى والأخيرة وأنه موجود عبثاً يكوّن مفاهيم أخرى عن الأشياء. فإذا كانت هذه الحياة هي الأولى والأخيرة، فلا محل للقيم والمبادئ، وصار على الإنسان أن يتمتع بأكبر قدر من المباهج المادية. ولذلك فإن مفهوم المرأة مثلاً عند هكذا إنسان لينحدر إلى اعتبارها وسيلة للمتعة، ومفهوم المجتمع ينقلب إلى اعتباره جماعة أفراد فقط ليس بينهم أي رابط سوى المصلحة. وإذا جعل الإنسان سلوكه على هذا الأساس بلغ درجة الانحطاط.
وهذا الفكر عن الوجود إذا كان يُنهض الإنسان الفرد، فإنه يُنهض – ولا بد – مجموع الأفراد. فالمجتمع الإنساني تجمعه ولا بد مشاعر وتسوده أفكار وتحكمه أنظمة. ومَثَل هذا المجتمع كالإنسان الفرد، يكيف سلوكه في الحياة بناء على مفاهيمه التي يكوّنها عن الأشياء. وهذه المفاهيم إما أن يكوّنها من التفكير الجماعي، أو يكوّنها بناء على غرائزه وحاجاته.
فالمجتمع الذي يقوم على الإسلام، والذي يحكمه شرع الله وتسوده أفكار الإسلام، ليدرك أن لديه رسالة في الحياة هي إعلاء كلمة الله. وإن سلوكه في الحياة، والذي يبرز في أنظمته وفي أعماله الجماعية، لا بدّ أن يكون مبنياً على أساس الإسلام.
وأما المجتمع الذي يجمعه إشباع الحاجات والغرائز، فإنه لا يرقى أن يكون أمّة. فمثل هذا المجتمع يكوّن مفاهيمه عن الأشياء بناء على المصلحة والمنفعة. وبذلك وصل إلى الانحطاط في كل شيء، وتكالبت عليه سائر الأمم، وفقد كرامته وعزته.
ولكي ندرك مقدار التخلف والرقي بين هذين المجتمعين، نعطي مثلاً عن فكرة الاستعمار، وموقف كلٍّ من هذين المجتمعين تجاه خضوعه لسيطرة أمة أخرى.
قديماً كانت الأمة الإسلامية تحكمها قوانين الإسلام، وكانت تسيّرها حياتها ومواقفها بحسب ما أنزل الله تعالى. ولذلك اعتبرت الأمة رسالتها في الحياة نشر الإسلام، وإعلاء كلمة الله، وذلك بإزالة الحواجز المادية التي تحول دون ذلك. وجاء أمر الله تعالى لأمة الإسلام بالجهاد لتطبيق شرع الله في الأرض: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كلُّه لله)، وهبّت الأمة لا يشغلها شاغل عن محاربة أعداء الله حتى تعلي كلمة الحق ولو في أقصى العالم. عندها خاض عقبة بن نافع الأطلسي بفرسه، وقال: “والله لو علمت أن وراء هذا البحر أناساً لا يعبدونك لعبرت البحر حتى أقاتلهم”. وعندها بلغ المسلمون الصين وفرنسا في مئة سنة. وعندها علت مكانتهم بين الأمم فكانوا أعظم دولة في العالم.
وأما اليوم فقد انحطت أمتنا الإسلامية، وانخفض معها سلوكنا، وانحطت عقولنا، حتى صرنا نرى، في وضح النهار، الحق باطلاً والباطل هو الحق.
خضعنا لأفكار الكفر تغزونا وتعمل فينا هدماً وتفريقاً حتى هدمنا بأيدينا منارة عزِّنا وسر حياتنا ومنبع كرامتنا، دولة الإسلام، جُنَّتَنا وحاملة رايتنا. ولا زلنا نخضع لحكم الغرب حتى بعقولنا، ننشد الحياة في الغرب، ونتطلع إلى دولته قبلة أنظارنا. فمن قائل بالوطنية، وآخر بالعلمانية، وآخر يترك الإسلام وأمته ويتبنّى الشيوعية.
أيّها الإخوة، لقد بلغ بنا الانحطاط درجة صرنا نرى معها أن استعمار دول الغرب لنا وتحكّمه في أراضينا يمتص دماءنا ويسلب خيراتنا، ويذيقنا ألوان الهوان والذلّ طعناً وتفريقاً، صرنا نرى فيه غاية المنى. وكيف لا، ونحن نتمنى أن نكون في حمى الغرب المتقدم، وأن ندور معه حيث دار ولو تسلط علينا وأعمل فينا حكم الكفر، واقتطع من بلادنا أعزها، لألد أعدائنا اليهود شذّاذ الآفاق. ثم تجدنا نسعى إلى دول الشرق والغرب مستجّدْين طالبين منهم أن يحلّوا لنا مشاكلنا التي صنعوها بأيديهم مكراً بنا وإذلالاً لعزتنا.
أيّها المسلمون، قديماً جاء أمر الله تعالى: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله) فرأينا احتلال الكفار لنا عاراً يلطخ جبيننا ويلزم الموت دونه. فاستجبنا لأمر الله تعالى، وهببنا للذود عن أحكام الإسلام وراية الإسلام وبلاد الإسلام، ورأينا كل ما عدا ذلك من العيش الرغيد رخيصاً دون الإبقاء على دولة الإسلام ورايته. وبذلك رددنا الصليبيين على أعقابهم إذ جاؤونا غازين، وتصدينا للمغول وقلبناهم من كفار إلى مجاهدين في سبيل الله. وأما اليوم، صرنا نرى أن الاستعمار يقربنا من الغرب، وصرنا نرى في الغرب قبلة أنظارنا ومدار تفكيرنا ومحل احترامنا وتقديرنا، حتى صرنا نتمنى أن تأتي قوى الغرب لحمايتنا وحل مشاكلنا، مع علمنا بأن الغرب هو الذي صنع لنا هذه المشاكل ليتمكن من العودة إلى بلادنا حينما يرى فينا بشائر نهضة أو معالم صحوة، ومع سماعنا لقوله تعالى: )ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون) [هود:113].
أيها المسلمون، إن الفكر هو الذي يُنهضنا. وإذا استطاع الغرب أن يغلبنا في وقت فإنما كان لانحطاط تفكيرنا وجهلنا، وعدم فهمنا لأفكار الإسلام. فاستطاع الغرب أن يضللنا ويغزونا بفكره ومن ثم بقواته. وإننا، وقد أدركنا أن بعودتنا إلى الإسلام وأفكار الإسلام تكمن عزتنا ويكمن تحررنا من ربقة الاستعمار، إن شاء الله لمهتدون ولمستجيبون: )يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون).
إعداد: هيثم بكر
1987-09-19