«مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه والْوَاقِعِ فِيهَا…»
فعن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ، قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقَوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا».
هذا الحديث يحمل معنى كبيرًا، وهو يفتح بابًا واسعًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصور حال المجتمع الذي تقع فيه المعصية، ويبين أن سفينة المجتمع لا تسلم إلا بالاستقامة على أمر الله؛ فبالاستقامة تنجو، وبالمعصية والمخالفة تغرق، ويشير إلى أنه لا بد للمجتمع الإسلامي من سلطان يقوم على أمر الله وحدوده للحفاظ عليه…
فقوله ﷺ: «القائم في حدود الله»، بحسب الحديث، هو الذي يقود السفينة، يدافع عن حدود الله، ويذبّ عنها، ويحفظ حياة الناس في المجتمع، صالحهم وطالحهم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيمنع أي سفيه من خرق السفينة ومن غرقها، ويغار على دين الله عزَّ وجلَّ…وهذا لا يكون إلا من خليفة وصفه الرسول ص بقوله “الإمام جنة”.
وقوله ﷺ: “الواقع فيها” فهو الذي ينتهك حدود الله -عز وجل- ويفعل ما حرمه عليه، ويتبع هواه، ويجترئ على المخالفة…
وقوله ﷺ: «كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها » هو تصوير حسي يتعلق بتركيب المجتمع، يقرب المعنى الذي يريده الرسول ص بأجلى صورة؛ فهو من الأمثلة التي لا يعقلها إلا العالِمون. فالاستهام يعنى: الاقتراع بين الناس الذين أرادوا أن يركبوا السفينة (سفينة المجتمع)، وهذه السفينة مكونة من طابقين؛ فأجروا بينهم قرعة فخرجت سهامهم، فريق في الأعلى، والآخر في الأسفل، وصار حق هؤلاء أعلى السفينة، وحق هؤلاء أسفل السفينة…
وقوله ﷺ: «وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا» أي: وكان الذين في أسفلها، إذا أرادوا أن يأخذوا من ماء البحر يحتاجون إلى الصعود إلى أعلى السفينة، فقالوا: نحن أشغلنا هؤلاء الناس وآذيناهم وضيَّقنا عليهم بصعودنا المتكرر إليهم، فاقترحوا كحل لهذه المشكلة أن يحدثوا خرقًا في نصيبهم، ويستقوا مباشرة من ماء البحر، فهل يتركونهم وما أرادوا، باعتبار أنهم يمارسون حقهم في الاستقاء، وحريتهم في اتخاذ الوسائل والأساليب المناسبة…
وقوله ﷺ: «فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا». فإن تركهم الذين أصابوا أعلى السفينة، دخل عليهم الماء، وغرق الجميع. وإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجَوا جميعًا، وهكذا المقارف لحدود الله عزَّ وجلَّ العاصي الذي أظهر معصيته، وأظهر المنكر أمام الناس وأعلنه، فماذا يفعل الناس معه؟ هل يتركونه بحجة أن له الحق أن يفعل في نصيبه ما يشاء، وله الحرية في ذلك، فيغرق عندها المجتمع جميعًا. طبعًا الجواب معروف، يخرج به كل عاقل، وهو أنه لا بد من الأخذ على يدي كل ظالم.
إن هذا الحديث يحوي من جوامع الكلم ولآلئها الشيء الكثير والنفيس:
إن الرسول الكريم لم يقسّم ركاب السفينة بحسب مستويات الفقر والثراء والحسب والنسب. كلا، وإنما التفاضل جاء في هذا الحديث مرتبطًا بـ «القائم في حدود الله»، وهو المنفذ لشريعة الله. وهو المهتدي بهدي الله. وبـ «والواقع فيها». وهو المجترئ على دين الله الواقع في الحرام. فالقوة الحقيقية لا تستمد من عرض الأرض، ولا من القيم الأرضية المنقطعة عن الله. إنما تستمد من الله، من الإيمان به والاعتزاز بهذا الإيمان؛ وذلك على مثل ما قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣٩﴾ فالإيمان والقيام بأمر الله هو مصدر “العلو” ومصدر التوجيه…
إن هذا الحديث يظهر أن المجتمع الإسلامي يجب أن يقوم على تنفيذ منظومة الأحكام الشرعية كلها بشمولها، وبشكل حصري دون غيرها؛ حتى يحفظ هذا المجتمع. وهذا ما هو واقع اليوم في سفينة المسلمين.
لا بد للسفينة من وجود ربَّان يحسن القيادة، وهو تشبيه يعني أنه لا بد للمجتمع من وجود من يملك سلطانًا لمنع الواقع في حدود الله والأخذ على يديه أي لا بد من وجود الدولة الإسلامية.
إن المعصية إذا ظهرت ضرت من عملها، ومن لم يعملها، تضرهم في آخرتهم، وتضرهم في دنياهم، قال تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25]
الحديث يصور أنه على المسلم أن لا يترك نفسه لشهواته ولا لانحرافاته، بل عليه أن يعمل حسابًا لكل خطوة يخطوها وكل حركة يتحركها حرصًا على نجاته هو ونجاة الآخرين…
إن المجتمع كله هو هذه السفينة… يركب على ظهرها البر والفاجر، والمتيقظ والغفلان، وهي تحملهم جميعًا لوجهتهم، فهي تستقيم بالقائمين على حدود الله وتضطرب بالمعصية.
والحديث يصور أن السفينة تجري في رحلة الحياة، ولها وجهة تسعى للوصول إليها، ولا بد لها من بر ترسو فيه، فهي لا تبقى هكذا في عرض البحر تستوطنه، وهذا يشير إلى أنه لا بد من وجود غاية في هذا المجتمع يسعى لتحقيقها، وهي أن عاقبة الاضطراب ستكون الهلاك في الدنيا والآخرة، وعاقبة الاستقامة النجاة في الدنيا والآخرة، فهذا موبق نفسه في جهنم لأنه واقع في حدود الله، وذاك معتق نفسه في الجنة؛ لأنه قائم في حدود الله…
إن لهذا الحديث مؤيدات أخرى من الأحاديث التي توافق معناه وتؤيده وتؤكده. فالنبي ﷺ لما سألته زينب بنت أبي سلمة: أنهلك وفينا الصالحون؟، قال: «نعم، إذا كثر الخبث» أي: إذا كثر الفساد والمنكر، فإن ذلك يؤذن بهلاك المجتمع. وها هو سيدنا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، ينبه المسلمين إلى هذا المعنى عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ﴾ [المائدة: 105] فقال: “يأيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس إذا رأَوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» رواه أبو داود والترمذي. وكذلك قول الرسول ﷺ: «إذا لم تقل أمتي للظالم يا ظالم فقد تودع منها». وقوله ﷺ: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدع خياركم فلا يستجاب لهم» وقوله ﷺ: «مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم».
إن هذا الحديث يعارض كليًا ما يعمل الغرب على جعله عرفًا عامًا بين المسلمين، ويقول عنه إنه حرية شخصية، متهمًا من ينكر المنكر بأنه فضولي، يتدخل في شؤون الناس، وخصوصياتهم وما أشبه ذلك… فالمنكر يجب إنكاره -إذا ظهر- على كل قادر، وإلا غرقت السفينة… فالمجتمع لا بد له من خصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا على عكس ما هو سائد اليوم من مفاهيم الحرية الشخصية، وحرية إبداء الرأي، وحرية التملك، وحرية الاجتماع التي تبيح للإنسان أن يهتك ويفجر ويكفر… من غير مساءلة لأنه يعتبر ذلك حقًا له مصانًا في الدستور…