في مواجهة الغزو الفكري مفهوم الجهاد في الإسلام
1989/01/05م
المقالات
2,341 زيارة
بقلم: محمد الأنصاري ـ تونس
الكلام عن الجهاد في الإسلام قد أخذ دوراً مهمَّاً في حياتنا الحاضرة، وقد كثرت المؤلفات التي كتبت في هذا الموضوع في كل عام، ولعل هذا يرجع إلى ما يخيِّم على حياتنا العامة من الذلَّة والمهانة التي يشعر بها كل مسلم آناء الليل وأطراف النهار ما دامت إسرائيل تجثم فوق ديارنا وتحتل أغلى مقدسات المسلمين، والجهاد مفهوم خطير جداً وهو من المفاهيم التي إن انطلق بها المسلمون فإنَّهم يزلزلون بها الكفر وأركانه والاستعمار وأذنابه ولذا حرص الكافر المستعمر أكثر ما حرص على تشويه هذا المفهوم في أذهان المسلمين بل وبعث تكتلات تدَّعي الإسلام من أجل إبطال الجهاد في سبيل الله.
ولم يكتف الكافر المستعمر بهذه الحملة بل نفث سمومه على يد المستشرقين حتى يلوثوا ويشوهوا مفاهيم الإسلام الناصعة وأولها الجهاد، وإنني لا أشك لحظة واحدة في أن المسلمين قد تخبطوا في هذا المفهوم الخطير تخبطاً ملموساً في أفعالهم أحياناً وفي أقوالهم أحياناً أخرى. فالمسلمون في حروبهم اليوم ليسوا كما كانوا وحتى أقوال بعض علمائهم قد تهافتت حتى وصلت إلى الحضيض ورضيت من الإسلام أن يكون خانعاً وقابعاً في حدوده ساكتا عن نشر لواء الدين.
حقاً إن الأقوال قد اضطربت بل تقاربت وأصبحت أقرب ما تكون إلى الوهم والخيال فمن أقوالهم ـ وهي أخطر ما يكون ـ أن الجهاد حرب دفاعية، وللرد على هؤلاء القائلين بأنه حرب دفاعية الآتي:
أولاً: أن أدلة الجهاد أدلة عامة ومطلقة تشمل الحرب الدفاعية وتشمل الحرب المحدودة وغير المحدودة وتشمل كل أنواع قتال العدو لعمومها وإطلاقها، فتخصيصها بالحرب الدفاعية أو تقييدها بأن تكون حرباً دفاعية لا هجومية يحتاج إلى نص يخصصها أو يقيدها لأن تكون حرباً دفاعياً، ولم يرد نص يخصصها أو يقيدها. ولنأخذ آيات الجهاد التي وردت في سورة التوبة لأن سورة التوبة من آخر ما نزل، حتى لا يبقى مجال لهؤلاء الادعاء التخصيص أو التقييد أو النسخ، قال تعالى: ]وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[ وقال تعالى: ]قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ[ وقال تعالى: ]يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[ وقال تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[ وقال تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[.
فهذه الآيات الخمس قد جاء فيها الأمر بالقتال عاماً ومطلقاً فكلها ظاهر فيها العموم والإطلاق فتكون دليلاً على أن الجهاد هو مقاتلة الكفار سواء أكان مبادأة العدو بالقتال أم كان دفاعاً عن المسلمين، وأما قوله تعالى: ]وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا[ وقوله : ]وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[ وقوله: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[ وما شاكل ذلك من الآيات فإنها كلها لا تصلح لأن تخصص عموم آيات التوبة ولا أن تقيدها مطلقاً لأنها كلها نزلت قبل آيات التوبة والمتقدم لا يخصص المتأخر ولا يقيده لأن التخصيص بمثابة نسخ لجزء من العام لأنه صرف الحكم على عمومه بإبطاله في البعض ووضع حكم آخر مكانه، ما دام التخصيص بمثابة النسخ والنسخ يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ ولذلك لا تصلح هذه الآيات لتخصيص آيات التوبة لأنها متقدمة عنها في النزول وآيات التوبة من آخر ما نزل في الجهاد، فلا يتأتى التخصيص وما قبل في التخصيص يقال كذلك في التقييد، فلا بد أن يكون النص المقيد متأخراً عن النص المطلق أو مصاحباً له حتى يكون قيداً له وما دامت آيات: ]وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا…[ وما شاكلها متقدمة على آيات التوبة فلا تصلح للتخصيص ولا للتقييد فيسقط الاستدلال بها على أن الجهاد حرب دفاعية، لعموم الأدلة التي نزلت بعد هذه الآيات، وعليه يبقى العام على عمومه والمطلق على إطلاقه ويكون الجهاد هو قتال الأعداء مطلقاً وبشكل عام يشمل الحرب الهجومية والدفاعية أو الوقائية أو الحرب المحدودة وغير المحدودة وجميع أنواع الحروب وعلى ذلك تسقط أقوال وافتراءات الذين لا يريدون للإسلام إلا الذلة والمهانة.
ثانياً: أن الجهاد الإسلامي ليس بجهاد لا غاية له وإنما هو الجهاد في سبيل الله وقد لزمه هذا الشرط ولا ينفك عنه أبداً وذلك أيضاً من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لتبنيه فكرته وإيضاح مفاهيمه وأحكامه وقد انخدع كثير من الناس بمدلوله اللغوي الظاهر وحسبوا أن إخضاع الناس لعقيدة الإسلام وإكراههم على قبولها هو الجهاد في سبيل الله. أما قول الرسول ﷺ فقد أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمر قال: قال ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى» وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله ﷺ إن أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله واغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدة وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام…» فهذان الحديثان واضح فيهما أن الجهاد هو مبادأة العدو بالقتال على أن الرسول ﷺ قد بين أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة. عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله لا تكفره بذنب وتخرجه من الإسلام بعمل والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجّال لا يبطله جوز جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار» يعني أن الجهاد ماض إلى قيام الساعة. قال ﷺ: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة». ولا يكون الجهاد إلى قيام الساعة إذا كان حرباً دفاعية فحسب، فأقوال الرسول ﷺ صريحة بأن الجهاد هو القتال لنشر الإسلام. فخروج النبي ﷺ إلى الشام هو خروج لقتال الروم فقد بدأ النبي ﷺ أعداءه بالقتال من أجل نشر لواء الإسلام بل كان يرسل السرايا كسرية عبد الله بن جحش إلى قتال أعدائه وحروب الرسول ﷺ وإن كانت فيها حروب دفاعية كأحد والأحزاب فإن أكثرها كان مبادأة بالقتال لنشر الإسلام. أما إجماع الصحابة على أن الجهاد هو القتال في سبيل الله لنشر الإسلام وأنه مبادأة بالقتال فإنه يكفي فيه فتح العراق وفارس والشام ومصر وشمال أفريقيا فإنها كلها فتحت في عهد الصحابة وبإجماع منهم.
فهذا كله دليل مسكت على أن الجهاد ليس حرباً دفاعية وإنما هو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى.
أن أي أمة تحمل فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وطريقة معينة في الحياة لا يمكن أن تكون إلا أمة مجاهدة أي أمة تبادئ الناس بحمل الدعوة والقتال في سبيلها، لأن الدعوة للفكرة الكلية المقرونة بطريقة معينة في الحياة تقتضي بطبيعتها مبادأة الناس بالقتال في سبيلها فهي قيادة فكرية تقود معتنقها لأن يحملها لغيره وتقود حاملها والمحمولة إليه الفكر والتفكير فينتج حتماً الصراع الفكري واقترانها بطريقة معينة في نظام الحياة يقتضي رؤيتها حية في تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات ويتحتم التطبيق إما بالاختيار أو بالإجبار وهذا يستوجب القتال إذا لم يحصل التطبيق بالاختيار.
من هنا كانت الأمة الإسلامية أمة مجاهدة تبادئ الناس بحمل الدعوة والقتال في سبيلها ومن هنا عرف الجهاد بأنه «حمل الدعوة إلى الإسلام والقتال في سبيل الله» وبديهي أن يدخل تحته الدفاع عن المسلمين وعن بلاد المسلمين باعتباره دفاعاً عن الدعوة لذلك فإنه من الغريب على الإسلام ومن المناقض لطبيعة الأمة الإسلامية باعتبارها حاملة دعوة أن يقال أن الجهاد حرب دفاعية وليس بمبادأة الناس بالقتال لأنه إن كان حرباً دفاعية لا يتجاوزها لا يكون جهاداً.
1989-01-05