لماذا فشلت أوروبا في إيقاف عمليات الإبادة في البوسنة
1993/08/09م
المقالات
2,392 زيارة
بقلم: بن كوهين
ترجمة: الدكتور رياض العاني ـ النرويج
لا يوجد شك في أن أوروبا منفردة قد فشلت في حل النزاع في البوسنة. ولا يستطيع أحد غض النظر عن المفارقة الموجودة بين سعي الجماعة الأوروبية نحو الوحدة فيما لا يزال جيرانهم البؤساء في الشرق والجنوب يواجهون عملية التجزئة والتفتت العنيف. إن الحرب الدائرة الآن في يوغسلافيا السابقة تهدد بأن تصبح نموذجاً لباقي أجزاء العالم ما بعد الشيوعي، خاصة فيما يعرف «بكومنولث الدول المستقلة» الذي انبثق عن الاتحاد السوفياتي المتهدم. والعامل المشترك هو بروز أشكال جديدة من الدول قائمة على أساس القومية وليس المواطنة.
ولعل صربيا هي افضل من يمثل المنطق اللاعقلاني القائم خلف فكرة الخصوصية القومية. فبعد وفاة جوزيف بروز تيتو، الرئيس السابق ليوغسلافيا، في عام 1980، انغمست القيادة الصربية بشكل متزايد في التوجه نحو إنشاء «صربيا الكبرى» حتى ولو أدى ذلك التضحية بيوغسلافيا. وقد كشفت صربيا عن نواياها أثناء الثمانينات بحملتها القمعية في مقاطعة كوسوفو ذات الأغلبية الألبانية: وعد حلول عام 1991 كان الاتحاد اليوغسلافي قد دخل في حرب شاملة، بدءاً بمحاولة فاشلة من قبل الجيش اليوغسلافي للحيلولة دون انفصال سلوفينيا، وحتى المواجهة الدامية مع كرواتيا ووصولاً إلى مرحلة الإبادة العرقية أثناء حرب البوسنة.
ومع انقضاء السنة الأولى على الحرب في البوسنة فإن التكلفة الحقيقية لها مقدرة بالخسائر البشرية أصبحت معروفة جيداً: حوالي مليوني لاجئ يواجهون مستقبلاً قاتماً في أوروبا معادية. حوالي 140,000 قتيل وحوالي 750.000 «مفقود»، حسب الأرقام التي نشرها معهد الصحة العامة في سراييفو، عاصمة البوسنة. وهناك حوالي 30,000 امرأة تم اعتصابهن بشكل منظم من قبل الصرب، حسب ما اكتشفته لجنة التحقيق التي ترأستها البريطانية ديم آنا واربرتون. إنها حرب دفعت بقرى مجهولة في البلقان إلى واجهة الأحداث وكشفت عن وحشية لم تعهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم كل ذلك، فإن الدول الأثنتي عشرة الأعضاء في الجماعة الأوروبية لا زالت تصر على أن المفاوضات هي الحل الوحيد.
إن التردد الأوروبي بدعم تدخل عسكري ذي أهداف سياسية واضحة هو المانع الرئيسي من تأمين حل، كما أثبتت الوقائع والظروف. ومظاهر الفشل الأوروبي مذهلة: العديد من قرارات وقف إطلاق النار تم خرقها، كما لم يتم احترام أي من التعهدات الرئيسية من جانب الصرب. وهذا لا يدعو إلى العجب. فالصرب ليس لديهم دافع لإيقاف حملتهم طالما أن الجماعة الأوروبية ترفض استخدام عضلاتها لمعاقبة الانتهاكات السابقة. وعليه فإن بلغراد قد تقلت الضوء الأخضر لتنظيم «كل الصرب في ودولة واحدة»، على حد قول الجنرال زيفوتا بانيك من الجيش اليوغسلافي.
إن تساهل الجماعة الأوروبية أمام الواقع الذي تفرضه صربيا قد أغضب الرأي العام البوسني، كما أنه استفز مشاعر العالم الإسلامي وأثار غضب الولايات المتحدة. وعلى المستوى الأخلاقي والمعنوي فإن الجماعة الأوروبية قد فشلت بشكل واضح في تطبيق الدرس الأساسي لمحاكمات نورمبرغ: «ليس مرة أخرى، أبداً». مع ذلك فإن هذا الفشل الأخلاقي والمعنوي قد حمل معه بعداً استراتيجياً أيضاً.
إن فشل الجماعة الأوروبية أمام عمليات الإبادة العرقية في يوغسلافيا السابقة يطرح سؤالاً فيما إذا كان بإمكان هذه الجماعة أن تدير سياسة خارجية واحدة في يوم من الأيام. إن هذا هو التحدي الرئيسي لهؤلاء الذين يحاولون إيجاد بنية أمنية في أوروبا خارج نطاق التحالف الأطلسي، الذي تشكل إبان الحرب الباردة، والبوسنة هي المحك.
إن خطأ الجماعة الأوروبية الأول كان اعتبارها النزاع البوسني «حرباً أهلية»، معتمدة في ذلك على الكراهية العرقية المتوارثة منذ قرون. لقد رفض القادة الأوروبيون الاعتراف بأن حرب البوسنة تحمل طابعاً دولياً. والأمر على عكس ذلك لدى الأمم المتحدة والولايات المتحدة، ففي «مؤتمر لندن حول يوغسلافيا السابقة» المنعقد في آب 1992 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي أن البوسنة قد أصبحت عضواً في الأمم المتحدة، وأن النزاع دولي. وفي شباط (فبراير) 1993 انتقد وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر خطة تقسيم البوسنة المقترحة من قبل وسيطي الجماعة الأوروبية والأمم المتحدة اللورد ديفيد اوين وسايروس فانس مع حماية سيادة البوسنة. مع ذلك إن ساسة الجماعة الأوروبية استمروا خلال العام المنصرم على اعتبار النزاع حرباً أهلية، متخذين مبدأ عدم التدخل في حروب كهذه كذريعة.
وراء الفشل
إن الجماعة الأوروبية لا تستطيع أن تدعي أنها لم تكن شاعرة بالانفجار الحتمي في يوغسلافيا، فأحداث كوسوفو دليل واضح على ذلك. وعلى كل حال فإن الجماعة الأوروبية لم تتخذ خطوتها الجدية الأولى في الأزمة اليوغسلافية حتى أيار (مايو) 1991، عندما عرض رئيس الجماعة جاك دولور على القادة اليوغسلاف مساعدات اقتصادية لتجنب النزاع العنيف، إلا أن ذلك كان قليلاً جداً ومتأخراً جداً. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً أصبحت بلغراد هي التي تحدد جدول الأعمال. فتحت قيادة الرئيس سلوبودان ميلوسفيتش رفضت صربيا كل النداءات الداعية للتحكيم والمساومة على الأرض.
كما أن الخلافات داخل الجماعة الأوروبية لم تساعد في حل الأزمة. فمن ناحية كانت بريطانيا وفرنسا، تسندهما الولايات المتحدة، ومصممتين على الحفاظ على الاتحاد اليوغسلافي، غاضتي النظر عن حقيقة كون مفهوم «يوغسلافيا» هو مجرد غطاء لطموحات صربيا. ومن ناحية أخرى كانت ألمانيا تضغط من أجل الاعتراف المباشر بكرواتيا وسلوفينيا.
إن موقف بريطانيا وفرنسا كان مبيناً على الحيلولة دون تفتت يوغسلافيان إلى دول قومية: فدول البلقان كانت بؤراً تاريخية للتوتر في أوروبا، وقد وقعت حربان في المنطقة في عامي 1912 و13. وحسب هذا الرأي فإن النزاع المتجدد بين الدول الناشئة سوف يؤدي حتماً إلى إشعال فتيل حرب إقليمية مع جر أقدام الجماعة الأوروبية إليها.
أما الألمان فإن اهتمامهم الرئيسي كان منصباً على أن يقودوا رد الفعل لأول تحدٍ في السياسة الخارجية تواجهه الجماعة الأوروبية، وفي الوقت نفسه إعادة إحياء نفوذهم التاريخي في الجزء الغربي من البلقان. (في عام 1941 احتضنت ألمانيا النازية دولة كرواتية فاشية ضمت أيضاً البوسنة). وبضغطها من أجل الاعتراف بكرواتيا فإن ألمانيا أهملت نصيحة لجنة التحكيم التابعة للجماعة الأوروبية التي يرأسها القاضي روبرت بادينتر، التي تقول بأنه يجب عدم الاعتراف بكرواتيا ما لم تتحسن ظروف الأقلية الصربية فيها.
وقد تطورت الأمور بحدة في يناير 1992 عندما اعترفت الجماعة الأوروبية بكرواتيا. فحينها لم تجد البوسنة مفراً من إعلان الاستقلال. وبدلاً من حماية أمن البوسنة المهددة بالتحركات العدوانية لصربيا، فإن الجماعة الأوروبية عزمت على تقسيم الجمهورية إلى مقاطعات عرقية. وهذه العملية قد توجهت بخطة فانس ـ أوين.
وكما أشار رئيس البوسنة علي عزت بيكوفيش مرة، فإن الخريطة السكانية للبوسنة «أشبه بلوحة للرسام جاكسون بولوك». فقوميات الجمهورية متداخلة بشكل بحيث أن الوسيلة الوحيدة للتقسيم هي العدوان. فقبل الحرب كان 4 ملايين بوسني موزعين على 109 بلديات، منها فقط 32 ذات أغلبية صربية مطلقة. إضافة إلى ذلك فإنه في بلد تصل فيه نسبة الزواج المختلط إلى 30% فإن عبارة أغلبية/ أقلية عرقية يصعب تطبيقها في الواقع، فحسب إرشادات الجماعة الأوروبية حول البوسنة فإن أكثر من 50% من السكان سيجدون أنفسهم يسكنون كأقليات في صغيرة غير مستقرة.
إن الجماعة الأوروبية تحتضن فكرة التقسيم ـ الذي تسميه الكنتنة (من كانتونات) ـ كبديل عن التدخل. وبهذا فإنها تنتهك مبدأ السيادة وتتقبل فكرة «التطهير العرقي» التي تمارسها صربيا كأمر واقع. وقد خدم هذا التوجه مصلحة القوميين الصرب والكروات، الذين سيحصلون على 42% و30% على التوالي من أراضي البوسنة حسب خطة فانس ـ أوين.
هل ستتغير أوروبا؟
هل تستطيع الجماعة الأوروبية تغيير موقفها؟ إن السوابق غير مشجعة. فالجماعة قد دعمت صراحة التقسيم. هي قد غضت النظر عن الانتهاكات الكثيرة للحقوق المدنية والإنسانية. فحتى وقت قريب لزمت الجماعة جانب الصمت في مواجهة أكثر من ثلاثمائة انتهاك للحظر الجوي المفروض من الأمم المتحدة فوق البوسنة. وبتقديمها دعماً معنوياً مهلهلاً لجهود الولايات المتحدة فإن الجماعة الأوروبية تتحمل المسؤولية بعدة طرق عن تراجع إدارة الرئيس كلينتون عن التدخل العسكري ورفع حظر تصدير الأسلحة إلى البوسنيين.
أكثر من ذلك فإن عضوين في الجماعة الأوروبية قد اتخذا موقفاً معرقلاً بشكل صريح. فاليونان قد أصبحت حليفاً موثوقاً لصربيا، مساهمة في ذلك بخرق المقاطعة المفروضة على بلغراد وبعرقلة عملية الاعتراف بجمهورية مقدونيا التي على حد تصريح زعيم الصرب البوسنيين رادوفان كارادزيش، يجب أن لا يسمح لها أن تقف حاجزاً بين صربيا واليونان.
كذلك اتهم رئيس البوسنة عزت بيكوفيش «بريطانيا بأنها أكبر معرقل أمام أي تقدم». فبسبب وجود قوات بريطانية على أرض البوسنة قامت حكومة جون ميجور بعرقلة كل المبادرات السياسية والعسكرية الطويلة الأمد، مسببة بذلك غيظاً لدى مارغريت تاتشر وعدد من الشخصيات البارزة في أحزاب المعارضة، العمل والليبرالي الديمقراطي. ولعل وزير الدفاع البريطاني مالكولم ريفكيند هو أشهر وأكبر نصير ومؤيد للرأي القائل بأن البوسنة تعاني من حرب أهلية وأن الجهود يجب أن تتركز على تقديم المساعدات الإنسانية.
إن الجماعة الأوروبية يجب أن تدرك أن هناك مصالح استراتيجية في دول البلقان، إن الموضوع لا يتعلق بوصول المساعدات إلى شرق البوسنة أو عدمه أو بإعادة الكهرباء إلى سراييفو. فعلى المحك مبادئ أوسع هي السيادة والديمقراطية وحقوق الأقليات. إن سياسة الاسترضاء الحالية تتصادم مع مجموعة من الاتفاقيات الدولية بمستوى ميثاق الأمم المتحدة، واتفاقية الإبادة العنصرية لعام 1948 واتفاقية الأمم المتحدة للحقوق السياسية والمدنية لعام 1966. فإن كانت هذه قد فقدت الاعتبار في البوسنة، فإنه يصعب تطبيقها في روسيا أو جورجيا أو رومانيا أو أي مكان آخر.
إن الإرادة السياسية ضرورية إذا أريد أن تتدخل أوروبا بشكل مؤثر في البوسنة والتوسط في نزاعات أخرى، فمركزياً يجب أن تتعاون ضمن مغامرة عسكرية تستخدم فيها القوة البحرية لتحييد مدفعية الصرب البدائية، لكن المدمرة، وتسلح قوات البوسنة البالغة مائتي ألف مقاتل وتوفر دعماً لوجستيكياً براً وبحراً. إن الدعم الاقتصادي والتوجيه السياسي ضروريان للبوسنة بعد الحرب لتسهيل تحولها إلى دولة ديمقراطية متعددة القوميات. وأخيراً يجب المحافظة على باقي البلقان، وذلك بالاعتراف بمقدونيا وإيجاد تسوية لمشكلة كوسوفو تنطبق مع أماني سكانها.
إن استراتيجية كهذه تتطلب موارد ضخمة، وهو ليس بالأمر السهل، رغم ذلك فإنه يمكن تنفيذها، خاصة بدعم من الولايات المتحدة والبلدان الإسلامية. أما الطريق البديل فإنه يقود إلى حرب إقليمية، وإلى تحول «التطهير العرقي» إلى أسلوب وسلوك مقبولين، وفي النهاية إلى تدخل سيكون أكثر تكلفة بشرياً ومادياً. والموضوع الأصعب هو أن الحكومات الأوروبية ستجد نفسها في خصام مع العالم الإسلامي ومع المسلمين في أوروبا. وكما أشار المعلق الآسيوي موحّد شاه في مؤتمر واشنطن حول البوسنة وأمن البلقان المنعقد في 15 ـ 16 مارس 1993، «كثير من المسلمين يتساءلون: إذا كان هذا هو رد فعل العالم إزاء شعب مسلم علماني إلى حد كبير، فماذا يخبئون لنا إذن؟».
إضافة إلى ذلك فإن الجماعة الأوروبية مع المجتمع الدولي قد قبلا بأن خطة فانس ـ اوين ستحتاج إلى القوة لدعمها على الأرض. وبينما ذكر فانس واوين أن الأمر يحتاج إلى 25,000 من القوات البرية، وهو رقم مستبعد لقلته، فإن حلف الناتو قد قدّر أن الأمر يحتاج إلى 100,000 رجل. وإذا تقبلت أوروبا سياسة التقسيم العرقي للبوسنة، فإن البلقان سيتحول إلى ايرلندا شمالية أخرى، وستدفع الثمن في النهاية أوروبا نفسها، فبدلاً من حلم الوحدة لن يبقى سوى الفراغ.
1993-08-09