طاعة أولي الأمر
1993/06/09م
المقالات
3,286 زيارة
الطاعة في الفكر السياسي الإسلامي تعني: الانقياد في الظاهر والباطن لتصريف الشؤون ورعايتها من قبل خليفة المسلمين، والالتزام بأوامره وتدابيره في كل ما يتعلق بإقامة الدين وحراسته، وحفظ حوزة الملة الإسلامية، وفي كل ما من شأنه تحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين في حدود ما شرعه الله تعالى. وفي تعريف الخلافة نلمح هذا المعنى. كما يقول الإمام الايجي الخلافة «هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة، بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة» فاتباع الخليفة مقيد بشروط وأحوال يجب مراعاتها، لتكون طاعة مشروعة واعية، لأنها ليست طاعة كهنوتية، وليست من باب الخضوع لنفوذ روحي يتمتع به الخليفة، ولا هي استحقاق شرعي ممنوح من قبل الأمة للخليفة بعقد البيعة، يتمكن الخليفة بموجبه من التصرف العام على المسلمين في حدود ما يمكنه من حراسة الدين، وإقامته وسياسة الدنيا به، فطاعة خليفة المسلمين أو ولي أمرهم، حكم شرعي يجب فهمه في إطاره الشرعي بعيداً عن المفاهيم والمصطلحات الغربية، كالاستبداد، والثيوقراطية، والديمقراطية، والخلافة الرسولية، ونحو ذلك. فمفهوم طاعة ولي أمر المسلمين لم يرتبط بذات ولي الأمر وشخصه، ولم تكسبه مهابةً تجعله فوق سائر البشر، ولم تمنحه حصانة تجعله فوق التشريعات والنظم، ولم تمكنه من الاستبداد بالأمر دون المسلمين، ولم يكتسبها لكونه مصدر القوة والسلطان والنفوذ، أو لكونه ملكاً أو جباراً، أو لكونه ظل الله في الأرض. وإنما الطاعة استحقاق شرعي اكتسبها بموجب عقد البيعة، لينوب عن الأمة في حراسة الدين.
فعقد البيعة يُلزم الخليفة الالتزام بسياسة الناس على مقتضى شرع الله تعالى، كما ويلزم الأمة بطاعته ما لم يأمر بمعصية. إذن الخليفة والرعية معاً مكلفون أن يسيِّروا إرادتهم بشرع الله سبحانه ليس غير. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ… ) وفي آية أخرى جاء خطاب الله تعالى عاماً للحكام والمحكومين، يلزمهم جميعاً بطاعة الله والرسول في كافة التصرفات. فقال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ). إلى أن قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا). فهذه النصوص تبيّن أن الفكر السياسي الإسلامي يقوم على أساس أن السيادة للشرع وليس لجهاز الحكم، وبناء على ذلك فإن طاعة ولي الأمر وخليفة المسلمين مرتبطة بطاعته لشرع الله تعالى. فالذي يحكم تصرفات البشر ويسيِّر إرادتهم هو أوامر الله لأنهم عباد له سبحانه. وفي هذا الصدد يقول الإمام النبهاني: «فالذي يتحكم في الأمة والفرد ويسيِّر إرادة الأمة والفرد، إنما هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالأمة والفرد يخضعون للشرع. ومن هنا كانت السيادة للشرع…». كما وأن الإسلام يفرق بين السيادة وبين السلطان فبينما السيادة تعني تسيير الإرادة والتحكم، فإن السلطان يعني القهر والغلبة والحجة والبرهان والنفوذ والقوة والتمكن، فهذه هي معاني السلطان في اللغة ولم يعطها الشرع معنى شرعياً اصطلاحياً خاصاً، فتبقى على معناها اللغوي، والسلطان بهذه المعاني اللغوية الشرعية يختلف في دلالته عن السيادة. يقول أصحاب القواميس والمعاجم: «السلطان: الوالي، ويأتي بمعنى: السيطرة والتحكم، والقوة، والتمكن، والغلبة، والحجة، والبرهان… » ويقول القلقشندي: «السلطان: اسم خاص في العرق العام بالملك… وسمي به السلطان لأنه حجة على الرعية يجب عليهم الانقياد إليه… وهو مشتق من السلاطة: وهي القهر والغلبة، لقهره الرعية، وانقيادها له أو لمعنى أمره ونفوذه…». فهذه المعاني للسلطان هي نفسها في الإطار الشرعي في الفكر السياسي الإسلامي. مع مراعاة أن الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية ـ الخليفة ـ إنما يستمد سلطانه من الأمة الإسلامية، لأن الدولة الإسلامية دولة بشرية وليست دولة إلهية فوق البشر، ولا هي حاكمة للناس بحق الهي مزعوم يجعلها ظل الله في الأرض، فمنصب الخليفة منصب شرعي، وهو في هذا المنصب نائب عن الأمة، وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن الله تعالى. وفي هذا الخصوص يقول القلقشندي: «… لا يجوز أن يقال في الخليفة خليفة الله… » ويقول في موضع آخر: «… الخليفة لقب على الزعيم الأعظم القائم بأمور الأمة… ». ويقول أيضاً: «وجمهور الفقهاء على منع القول (خليفة الله) وجواز أن يقال (خليفة رسول الله) لأنه خلفه في أمته». ويؤيد هذا بما يقول الماوردي: «… وامتنع جمهور العلماء من جواز القول ـ خليفة الله ـ ونسبوا قائلة إلى الفجور وقالوا يستخلف من يغيب أو يموت والله لا يغيب ولا يموت، وقد قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله، فقال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم… ». وكذلك عندما قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «يا خليفة الله، قال له: خالف الله بك… ».
فالخليفة إذن لا يتمتع بسلطان غيبي يجعله فوق العباد أو يجعله ظل الله في أرضه، فيكتسب بذلك قداسة وإنما هو بشر وثقت به الأمة الإسلامية فأنابته عنها في إقامة دين الله وسياسة الرعية بأحكامه، وحمل الدعوة إليه ونشره في ربوع الدنيا، فكان الخليفة بذلك أعظم مسؤوليةً من غيره وأكثر الناس تحملاً للأعباء والتبعات، فأمانة الحكم في الفكر السياسي الإسلامية تكليف لا تشريفاً. وسلطان الخليفة مكتسب بعقد البيعة من الأمة. فالأمة هي صاحبة السلطان، وهي المكلفة بمبايعة خليفة ينوب عنها في حراسة الدين، وحمل الكافة على مقتضى الشرع، وسياسة الدنيا به. وما يترتب على عقد البيعة من حقوق وواجبات للخليفة على الأمة، أو للأمة على الخليفة، إنما هي أحكام شرعية فرضها الله على كل منهما نحو الآخر. ومن هنا نجد أن الخليفة إنما يرتبط وجوده بعقد البيعة، وليس هو نائباً عن الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فالله قد فرض على المسلمين أن يبايعوا خليفة لينوب عنهم في إقامة دين الله في الأرض، وبعقد البيعة يصبح الخليفة المبايع من الأمة عن رضى واختيار هو رئيس الدولة الإسلامية المتصرف في رعاية شؤون الناس بالإسلام داخلياً وخارجياً.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة ثم يكون رحمة وخلافة ثم يكون ملكاً عضوضاً، ثم يكون عتواً وجبروتاً وفساداً في الأمة…» فالحديث يبيّن أن الملك يكون عند انقضاء الخلافة، كم كانت الخلافة بعد انقضاء النبوّة، فالملك غير الخلافة، إذ الخلافة نمط خاص من أنماط الحم جاء به الإسلام، وطريقة تنصيب الخليفة تنصيب الخليفة تنحصر في البيعة كما علم في هذه الدراسة، فالمسلمون مكلفون تكليفاً شرعياً بمبايعة خليفة ليكون رئيساً للمسلمين كافة ينوب عنهم في تنفيذ شرع الله وتطبيق أحكامه في معترك الحياة، وليتولى مسؤولية نشر الإسلام في ربوع الأرض. وفي هذا الصدد يقول القلقشندي: «… والذي عليه العرف من صدر الإسلام … إلا أن بعض السلف خصص ذلك بم كان الإمام جارياً على منهاج العدل وطريق الحق… » فالخليفة إذن عَلَمٌ على من بويع رئيساً للمسلمين لينوب عنهم في حراسة الملة ـ الشريعة الإسلامية ـ ولينهض بمسؤولياته في سياسة الناس بأحكام الشريعة الإسلامية وليقوم بنشر الإسلام في العالم بالجهاد في سبيل الله. أما من يتآمر على المسلمين أو يملك أمور سياستهم على مقتضى الغرض والشهوة، أو على مقتضى تحقيق المصالح الدنيوية ودفع المضار فذلك هو الملك.
وعلى ضوء ما سبق يتبيّن لنا أن الخليفة يتبيّن لنا أن الخليفة ليس له أية صفة كهنوتية، أو أية منزلة تميّزه عن باقي البشر، وإنما هو والمسلمون سواء في الخضوع للأحكام الشرعية وتطبيق الإسلام وتنفيذ أحكامه. وذلك لا يتأتى عملياً إلا بإنابة رجل مؤهل ليتولى مسؤولية ذلك بالنيابة عن مجموع المسلمين. لذلك نجد أنه لا يكون خليفة إلا إذا بايعته الأمة عن رضي واختيار. وعقدُ البيعة يدل دلالة بيّنة على أن الخليفة نائب عن الأمة. وعقد البيعة ينقل السلطان من الأمة إلى الخليفة. وبعقد البيعة يصبح الخليفة مسؤولاً عن تصرفاته أمام الأمة وممثليها من أهل الحل والعقد، فإن خرج عن حدود الشرع، أو أخلَّ بشرط من شروط الخلافة التي أهلته لانعقاد الخلافة له، فالأمة ملزمة بعزله أو تقويم اعوجاجه أي أنها مكلفة بنزع السلطان منه. إن طاعة الخليفة تجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجوز فيما كان لله فيه معصية. أما إذا كان المسلم يعيش في دار كفر، وهي الدار التي لا يحكم فيها بالإسلام، بمعنى أنه لا يعيش في ظل دولة إسلامية تحكم بالإسلام فإن طاعة ولي الأمر فيها جائزة غير واجبة.ونعني بقولنا جائزة أنها تكون طاعة في غير معصية الله كالالتزام بالقوانين الإدارية والتنظيمية وكافة القوانين التي فيها مصلحة العباد ولا تخالف أمراً أو نهياً من الله سبحانه.
فإن أمر الحاكم بمعصية الله كجعل الكفار أولياء على المسلمين، أو إعطاء أرض المسلمين للكفار، أو أمر بلباس غير شرعي للنساء، أو جعل الربا أساس المعاملات المالية، فإنه لا تجوز طاعته في كل ما يخالف أمر الله. ويتأكد ذلك بما قاله صلى الله عليه وآله وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» فلو أمر الحاكم بحرب فيها اقتتال بين المسلمين بسبب الخلاف على حدود وضعها الكفار فلا تجوز طاعته، ولو أمر الحاكم المسلمين أن يحاربوا في حلف مع الكفار فلا تجوز طاعته، ولو أمر الحاكم بالتفاوض مع الكافر على إعطائه أرض المسلمين أو نفطهم أو موانئهم فلا تجوز طاعته، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا طاعة لمن عصى الله» وقوله: «إنما الطاعة بالمعروف» وقوله تعالى لرسوله الكريم: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
أن انقياد الأمة للخليفة أو ولي الأمر إنما هو انقياد مشروط بالمعروف أي أنه انقياد في حدود شرع الله تعالى. وليس خضوعاً لأمر الخليفة لذاته. فأمر الخليفة مطاع ما دام بطاعة الله، فإن هو أمر بمعصية الله، أو تجاوز حدود الله في رعايته لشؤون المسلمين، فيجب على الأمة أن تحاسبه على ذلك، وأن تقوّم اعوجاجه، وتمتنع عن طاعته حينئذ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ويفهم من تلك النصوص أن سلطة الخليفة مكتسبة أوجبها الله له من أجل منصب الخلافة الذي تولاه نيابة عن الأمة. وليس سلطة دينية تكسبه قداسة خاصة. ومن هنا يجب عدم الخلط بين الخلافة في الفكر السياسي في الإسلام، وبين السلطان الإلهي. فالخلافة في الإسلام رئاسة عامة لجميع المسلمين نيابة عنهم في تطبيق الإسلام عملياً على الناس في السياسة الداخلية، ونشر الإسلام في ربوع الدنيا. أما الخلافة الرسولية أو الحق الإلهي: فهي معتقد نصراني عند الكنيسة البابوية، ومفاده أن الأساقفة خلفاء الرسل دون انقطاع منذ أن عيّن المسيح عليه السلام رسله إلى اليوم، وهؤلاء الأساقفة يتمتعون بحق الهي يجعلهم وكلاء الله على البشر، وهم المسؤولون عن حماية العقيدة النصرانية وقيادة الشعب الروحية. فالخلافة الرسولية، تجعل الأساقفة ينوبون عن الله في دنيا البشر، أما الخلافة الإسلامية، كنظام سياسي شرعه الله لسياسة الناس في الدنيا بأحكام الإسلام فهي منصب بشري ينوب فيه الخليفة عن الناس، فالأمة هي التي تنصبه حاكماً لها وفق شروط معية، وتبايعه على السمع والطاعة بالمعروف، فإذا انحرف عن النهج الإسلام أو أخل بشروط البيعة، أو ظهر اعوجاج في سياسته وتدبيره لشؤون الناس، كانوا له بالمرصاد ينصحونه تارة، ويقوِّمون اعوجاجه تارة أخرى حتى يستقيم على النهج القويم، وإلا فإنه ينزعون منه السلطان ويستبدلون به غيره.
ويظهر ذلك في سيرة الخلفاء الراشدين. فها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: «إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة». والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة مع إجماع الصحابة تؤكد في مجموعها على أن من حق الأئمة على المسلمين وغيرهم من أفراد الرعية وجوب الطاعة بالمعروف في غير معصية الله تعالى، كما أنها تؤكد على إسقاط حق الطاعة وتحريمها عند الأمر بمعصية الله ورسوله، أو الأمر بترك الواجب أو النهي عن فعله كأن يأمر الخليفة بترك الجهاد، أو ترك الدعوة للإسلام بالطريق الشرعي الصحيح الذي يكون بالصراع الفكري والكفاح السياسي، أو يأمر بالاختلاط بين الذكور والإناث، أو يأمر بالصلح مع اليهود، أو يجعل السبيل للكفار على المسلمين في شتى المجالات، أو يحكم الناس بغير شريعة الإسلام أو يبيح الربا ويجعل البناء الاقتصادي قائماً على أساسه. ونحو ذلك من أوامر تتضمن خروجاً عن الإسلام، أو تجاوزاً لحدوده وأحكامه، أو إظهاراً للكفر البواح في بلاد المسلمين. ففي هذه الحالات وأمثالها يجب على المسلمين الأخذ على يد ولي الأمر وتقويم اعوجاجه وإصلاحه بالمعروف، فإن استقام أمره فبها ونِعْمَتْ، وإلا فيجب القيام عليه وعزله عن الخلافة ونصب غيره ممن يستجمع شروط الخلافة. يقول ابن القيِّم: «… ولم يأمر الله بطاعة أولي الأمر استقلالاً بل حذف الفعل وجعل طاعتهم ضمن طاعة الرسول إيذاناً بأنهم يطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الله والرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا سمع ولا طاعة» .
1993-06-09