الحاجة إلى الدين والحاجة إلى الإمام
1993/03/08م
المقالات
2,326 زيارة
الموضوع التالي مأخوذ من كتاب «أدب الدنيا والدين» للماوردي. وقد رأت «الوعي» أن تنشره في الذكرى 69 لهدم الخلافة الإسلامية. فيما يلي كلام الماوردي رحمه الله:
ما تصلح به حال الدنيا
إعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، في قواعدها وإن تفرعت، وهي: دِين مُتَّبَع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عامٌّ، وخِصْبٌ دائم، وأمل فسيح.
فأما القاعدة الأولى: وهي الدّين المتَّبع: فلأنه يصرف النفوس عن شهواتها، ويَعْطِف القلوب عن إرادتها، حتى يصير قاهراً للسرائر، زاجراً للضمائر، رقيباً على النفوس في خلواتها، نصوحاً لها في مُلمّاتها. وهذه الأمور لا يُوصل بغير الدين إليها، ولا يصلح الناس إلا عليها، فكان الدّين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعاً في انتظامها وسلامتها، ولذلك لم يُخْلِ الله تعالى خلقه مذ فطرهم عقلاء من تكليف شرعي، واعتقاد ديني، ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرف بهم الأهواء.
العقل والشرع أيهما سبق الآخر: وإنما اختلف العلماء رضي الله عنهم في العقل والشرع: هل جاءا مجيئاً واحداً، أم سبق العقل، ثم تعقبه الشرع؟ فقالت طائفة: جاء العقل والشرع معاً مجيئاً واحداً، لم يسبق أحدهما صاحبه.
وقالت طائفة أخرى: بل سبق العقل، ثم تعقبه الشرع، لأنه بكمال العقل يُسْتَدَلّ على صحة الشرع. وقد قال الله تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)؟ وذلك لا يوجد منه إلا عند كمال عقله. فثبت أن الدّين من أقوى القواعد في صلاح الدنيا، وهو الفَردْ الأوحد في صلاح الآخرة، وما كان به صلاح الدنيا والآخرة، فحقيق بالعاقل أن يكون به متمسكاً، وعليه محافظاً. وقال بعض الحكماء: الأدب أدبان: أدب شريعة، وأدب سياسة، فأدب الشريعة: ما أدّى الفرض، وأدب السياسة: ما عَمَر الأرض، وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان، وعِمارة البُلْدان، لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خَرَّبَ الأرض فقد ظلم غيَره.
وقال سعد بن حُمَيد:
ما صِحَّةٌ أبداً بنافعةٍ
.
|
حتى يصحَّ الدينُ والخلُقُ
.
|
وأما القاعدة الثانية: فهي سلطان قاهر، تتألف برهبته الأهواء المختلفة وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتَنْكَفُّ بسطوته الأيدي المتغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية، لأن في طباع الناس من حُبّ المغالبة والمنافسة على ما آثروه، والقَهر لمن عاندوه، ما لا ينكفُّون عنه، إلا بمانع قويّ، ورادع مَليِّ. وقد أفصح المتنبي بذلك حيث يقول:
لا يسْلَم الشرفُ الرفيعُ من الأذى
.
|
حَتّى يُرَاقَ عَلى جَوانبهِ الدمُ
.
|
والظلمُ مِن شِيَمِ النفوسِ فإن تجدْ
.
|
ذَا عِفَّةٍ فلِعلَّةٍ لا يَظْلِمُ
.
|
وهذه العلة المانعة من الظلم، لا تخلو من أحد أربعة أشياء: إما عقلِ زاخر، أو دين حاجز، أو سلطان رادع، أو عجز صادّ؛ فإذا تأملتها لم تجد خامساً يقترن بها، ورهبة السلطان أبلغها، لأن العقل والدين ربما كانا مضعوفين، أو بداعي الهوى مغلوبين، فتكون رهبة السلطان أشدّ زجراً، وأقوى ردعاً. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «السلطانُ ظلُّ الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم». وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله حُرَّاساً في السماء، وحُرّاساً في الأرض، فحراسه في السماء الملائكة، وحراسه في الأرض الذين يقبضون أرزاقهم، ويذِيّون عن الناس». وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإمام الجائر خير من الفتنة، وكلٌّ لا خير فيه، وفي بعض الشر خيار». وقال عبد الله بن مسعود: «السلطان يَفْسُد، وما يُصْلح الله به أكثر، فإن عدل فله الأجر، وعليكم الشكر، وإن جار فعليه الوزر، وعليكم الصبر» وقال أبو هريرة رضي الله عنه: سُبَّت العجم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى عن ذلك، وقال: «لا تسبوها، فإنها عمرت بلاد الله تعالى، فعاش فيها عباد الله تعالى». وقال بعض البلغاء: (السلطان في نفسه إمام متبوع، وفي سيرته دين مشروع، فإن ظلم لم يعدل أحد في حكم، وإن عدل لم يجسر أحد على ظلم). وقال بعض الأدباء: (إن أقرب الدعوات من الإجابة: دعوة السلطان الصالح، وأولي الحسنات بالأجر والثواب أمره ونهيه في وجوه المصالح). فهذه آثار السلطان في أحوال الدنيا، وما ينتظم به أمورها. ثم لما في السلطان من حراسة الدين والذب عنه، ودفع الأهواء منه، وحراسة التبديل فيه، وزجر من شذّ عنه بارتداد، أو بغي فيه بعناد، أو سعى فيه بفساد. وهذه أمور إن لم تنحسم عن الدين بسلطان قويّ، ورعاية وافية، أسرف فيه تبديل ذوي الأهواء، وتحريف ذوي الآراء، فليس دين زال سلطانه، إلا بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وهيه أثر، كما أن السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب، حتى يرى أهله الطاعة فيه فرضاً، والتناصر عليه حتماً، لم يكن للسلطان لبث، ولا لأيامه صفو، وكان سلطان قهر، ومفسد دهر، ومن هذين الوجهين وجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت، زعيم الأمة، ليكون الدين محروساً بسلطانه، والسلطان جارياً على سنن الدين وأحكامه. وقد قال عبد الله بن المعتز:
الملكُ بالدين يبقَى
.
|
والدينُ بالملك يَقْوَى
.
|
واختلف الناس: هل وجب ذلك بالعقل أو بالشرع؟ فقالت طائفة: وجب بالعقل، أنه معلوم من حال العقلاء على اختلافهم، الفزع إلى زعيم مندوب، للنظر في مصالحهم. وذهب آخرون إلى وجوبه بالشرع، لأن المقصود بالإمام القيام بأمور شرعية، كإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وقد كان يجوز الاستغناء عنها، بأن لا يراد التعبد بها، فبأن يجوز الاستغناء عما لا يراد إلا لها أولى. وعلى هذا اختلفوا في وجوب بعثة الأنبياء، ومن قال بوجوب ذلك بالشرع، منع وجوب بعثة الأنبياء، لأنه لما كان المقصود ببعثة الأنبياء، لأنه لما كان المقصود ببعثتهم تعريف المصالح الشرعية، وكان يجوز من المكلفين أن لا تكون هذه الأمور مصلحة لهم، لم يجب بعثة الأنبياء إليهم.
فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد، وبلد واحد، فلا يجوز إجماعاً، فأما في بلدان شتى، وأمصار متباعدة، فقد ذهبت طائفة شاذة إلى جواز ذلك، لأن الإمام مندوب للمصالح، وإذا كان اثنان في بلدين أو ناحيتين، كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه، وأضبط لما يليه، ولأنه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد، ولم يؤّد ذلك إلى إبطال النبوّة، كانت الإمامة أولى، ولا يؤدّي ذلك إلى إبطال الإمامة.
وذهب الجمهور إلى أن إقامة إمامين في عصر واحد لا يجوز شرعاً، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بويع أميران، فولوا أحدهما». وروي: «فاقتلوا الآخر منهما». وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا وليتم أبا بكر تجدوه قوياً في دين الله عزّ وجلّ ضعيفاً في بدنه. وإذا وليتم عمر تجدوه قوياً في دين الله عزّ وجل قوياً في بدنه. وإن وليتم علياً تجدوه هادياً مهدياً». فبين بظاهر هذا الكلام أن إقامة جميعهم في عصر واحد لا يصح، ولو صح لأشار إليه، ولنبه عليه. والذي يلزم سلطان الأمة من أمورها سبعة أشياء:
أحدها: حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به، من غير إهمال له.
والثاني: حراسة البيْضة، والذبُّ عن الأمة، من عدوّ في الدين، أو باغي نفس أو مال.
والثالث: عمارة البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب سُبُلها ومسالكها.
والرابع: تقدير ما يتولاه من الأموال بسنن الدين: من غير تحريف في أخذها وإعطائها.
والخامس: معاناة المظالم والأحكام، بالتسوية بين أهلها، واعتماد النصفة في فصلها.
والسادس: إقامة الحدود على مستحقيها، من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها.
والسابع: اختيار خلفائه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفاية فيها، والأمانة عليها. فإذا فعل من أفضى إليه سلطان الأمة ما ذكرناه من هذه الأشياء السبعة، كان مؤدياً حق الله تعالى فيهم، مستوجباً طاعتهم ومناصحتهم، مستحقاً صدق ميلهم ومحبتهم؛ وإن قصر عنها، ولم يقم بحقها وواجبها، كان بها مؤاخذاً، وعليها معاقباً، ثم هو من الرعية على استبطان معصية ومقت، يتربصون الفرص لإظهارها، ويتوقعون الدوائر لإعلانها. وقد قال الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا). وفي قوله تعالى: (عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) تأويلان:
أحدهما: أن العذاب الذي هو من فوقهم: أمراء السوء والذي من تحت أرجلهم: عبيد السوء. وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
والثاني: أن العذاب الذي هو من فوقهم: الرجم، والذي من تحت أرجلهم: الخسف. وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير. وفي قوله تعالى: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) تأويلان:
أحدهما: أنه الأهواء المختلفة، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
الثاني: أنه الفتن والاختلاط، وهذا قول مجاهد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أمير على عشرة إلا وهو يجيء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، حتى يكون عمله هو الذي يطلقه أو يوبقه». وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم.وشرّ أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» وهذا صحيح، لأنه إذا كان ذا خير أحبهم وأحبوه، وإذا كان ذا شرّ أبغضهم وأبغضوه. وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: «إن الله تعالى إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فاعرف منزلتك من الله تعالى بمنزلتك من الناس، واعلم أن مالك عند الله، مثل ما لله عندك»، فكان هذا موضحاً لمعنى ما ذكرنا.
وأصل هذا أن خشية الله تبعث على طاعته في خلقه، وطاعته في خلقه تبعث على محبته؛ فلذلك كانت محبتهم دليلاً على خيره وخشيته، وبغضهم دليلاً على شرّه وقلة مراقبته. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض خلفائه: أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله. وقال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه: إني أخاف الله فيما تقلدت. فقال له: لست أخاف عليك أن تخالف الله، وإنما أخاف عليك أن لا تخاف الله، وهذا واضح، لأن الخائف من الله تعالى مأمون الحَيْف، كالذي روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لأبي مريم السّلوليّ، وكان هو الذي قتل أخاه زيد بن الخطاب: والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. قال: أفيمنعني ذلك حقاً؟ قال: لا. قال: فلا ضَيْرَ، إنما يأسى على الحب النساء.
وروى عبد الرحمن بن محمد قال: أصدق طلحة بن عبيد الله أم كلثوم بنت أبي بكر مئة ألف درهم، وهو أوّل من اصدق هذا القدر، فمرّ بالمال على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صَدَاق أم كلثوم ابنة أبي بكر. فقال: أدخلوه بيت المال، فأخبر بذلك طلحة، وقيل له: كلّمه في ذلك، فقال: ما أنا بفاعل، لئن كان عمر يرى له فيه حقاً لا يردّه لكلامي، وإن كان لا يرى فيه حقاً ليردّنه. قال: فلما اصبح عمر، أمر بالمال فدُفِع إلى أم كلثوم.
وحكي أن الرشيد حبس أبا العتاهية، فكتب على حائط الحبس:
أما والله إن الظلْْم لؤم
.
|
وما زال المسيء هو المظلومُ
.
|
إلى ديان يومِ الدّين نمضي
.
|
وعند الله تجتمع الخصوم
.
|
ستعلم في المعاد إذا التقينا
.
|
غدا عند المليك من الظلوم
.
|
فأخبر الرشيد بذلك، فبكى بكاء شديداً، ودعا أبا العتاهية فاستحله، ووهب له ألف دينار، وأطلقه c
1993-03-08