لا يجوز تأجيل تطبيق الشريعة في انتظار الشروط والظروف
1993/03/08م
المقالات
2,061 زيارة
بقلم: محمود السيد الدغيم
كانت جريدة «الحياة» قد نشرت مقالاً في 21/01/93 لكاتب عراقي اسمه محمد عبد الجبار تحت عنوان: (شروط لا بد من توافرها قبل المطالبة بتطبيق ما قد يتفق عليه). واعتبر هذا الكاتب أن للمجتمع شروطاً للتكليف على غرار الشروط التي وضعها الشرع لتكليف الأفراد.
وقد قام الكاتب محمود السيد الدغيم بالرد على مقال محمد عبد الجبار في المقال التالي الذي نشرته «الحياة» أيضاً في 8 و9/02/93. وقد رأت «الوعي» أن تنشر هذا الرد لما فيه من خير وإسهام في حث المسلمين على العمل لإقامة الدولة الإسلامية (الخلافة) التي تطبق الشريعة الإسلامية وتحمل دعوة الإسلام إلى العالم، وتعيد الاعتبار والعزة للأمة الإسلامية، خاصة في ذكرى هدم الخلافة الإسلامية التي قام الكفار بهدمها في 3 من آذار 1924 على يد عميلهم مصطفى كمال الماسوني الذي هو من أصل يهودي. وفيما يلي كلام الكاتب:
بدأ الكاتب طرح أفكاره فقال: «تحاول هذه المقالة طرح مسألة الشروط الاجتماعية للتكليف الشرعي، وأعني بها الشروط والمواصفات التي يتعين أن تتوفر في المجتمع ليصح تكليفه بأحكام الشريعة الإسلامية، أسوة بالشروط الفردية للتكليف الشرعي، والتي يتحدث عنها الفقهاء عادة. فالمعروف أن فقهاء الشريعة الإسلامية يربطون بين فعلية إلزام الفرد بأحكام الشريعة، وبين وجوب توفر أمور أطلقوا عليها عنوان: شروط التكليف، وهم يقصدون بذلك: أن الفرد غير مكلف بالأحكام، ما لم تتوفر فيه هذه الشروط، وعليه لا يعتبر عدم امتثاله للحكم الشرعي إثماً يحاسبه الله عليه، طالما كانت الشروط غير متوفرة…».
إن ما طرحه الكاتب يثير نقاطاً تستوجب الجدل المحمود بغية تقويم النقاط المخالفة للأصول وأولها: عنوان المقال، حيث اشترط توافر الشروط «قبل المطالبة بتطبيق ما قد نتفق عليه»، وتوافر الشروط التي اشترطها أمر مستحيل لمخالفته أسس الطرح الشرعي، وإضافة إلى ذلك يشترط الاتفاق قبل المطالبة، وهذا يعني أنه يُنَصِّبُ نفسه وصياً على الشريعة، التي لا تُطَبَّقُ ما لم يوافق، وموافقته مرهونة بتوافر الشروط غير المتوافرة، وهذا يعني: أنه لا يوافق على تطبيق الشريعة، بل يرى تعطيلها في انتظار توافر الشروط أولاً، وموافقته ثانياً، ومن ثم تطبق الشريعة. وهكذا يسلت الكاتب الصفة الشرعية عن الشريعة ويتعامل معها كالقوانين الوضعية التي تخضع للتصويت والاقتراع والأمزجة والمنافع الشخصية وإلى آخر ما هنالك من الدوافع والرغبات البشرية التي توجه القوانين الوضعية، وهذا ما لا يمكن سحبه على الشريعة السماوية حيث أن النصوص والأدلة القطعية المستنبطة منها توجب الإلزام.
رأى الباحث أن مقالته تحاول «طرح مسألة: الشروط الاجتماعية للتكليف الشرعي…»، وهنا يتوجب علينا أن نوضح حَدَّ التكليف الذي ذكره ابن فورك (ت 406 هـ/ 1015م) فقال: «حد التكليف: هو ما على العبد فيه كُلفة ومشقة» (كتاب الحدود رقم: 69). والأحكام الشرعية التكليفية هي خمسة: (1) الإيجاب (2) الندب (3) الكراهة (4) التحريم (5) الإباحة. وأفعال المكلف المتعلقة بهذه الأحكام هي: (1) الواجب (2) المندوب (3) المكروه (4) الحرام (5) المباح. وقد قال الشهيد يوسف بن عبد الرحمن ابن الجوزي (ت 656 هـ/ 1258م):
1- «الواجب: ما وُعِدَ على فعله بالثواب، وأُوْعِدَ على تركه بالعقاب.
2- المندوب: ما يُحْمَدُ فاعِلُهُ، ولا يُذمُّ تاركهُ شرعاً.
3- المكروه: نقيض المندوب.
4- الحرام: ما تُوُعِّدَ على فعله شرعاً.
5- المباح: ما خيّر فيه بين الفعل والترك لتَساويهما شرعاً». (كتاب الإيضاح لقوانين الإصلاح الورقة 10/أ ـ 10/ب).
ومن الجدير بالذكر أن الفرض والواجب مترادفان عند المتكلمين، و«الفرض: آكد من الواجب» حسب رأي الشهيد ابن الجوزي، وقد أطلق الفقهاء على الفرض اسم: الفرض الاعتقادي، وهو ما ثبت بدليل قطعي من القرآن الكريم أو السنة النبوية المتواترة المطهرة، ومن جحد الفرض فهو كافر مرتد، أما تارك الواجب فهو آثم فاسق.
إن تطبيق الأحكام التكليفية الشرعية فرض عين، وليس فرض كفاية، وفرض العين: «ما يلزم الكفاية: ما يلزم جميع المسلمين إقامته، ويسقط بإقامة البعض عن الباقين…. كصلاة الجنازة» (أنظر التعريفات للجرجاني ص: 165).
يقول الكاتب: «وأعني بها الشروط والمواصفات التي يتعين أن تتوفر في المجتمع ليصح تكليفه بأحكام الشريعة الإسلامية أسوة بالشروط الفردية للتكليف الشرعي…» وهذا القول عليه اعتراضات:
الحج والاستطاعة
يستند الباحث في تعريف الاستطاعة على قول «أحد الفقهاء المعاصرين» دون ذكر اسم ذلك الفقيه، وهذا تضليل من الناحية العملية التي تقتضي إسناد الأقوال لأصحابها حتى يمكن التوصّل إلى نقدها جرحاً وتعديلاً، لأن أقوال المجهول خارجة عن نطاق الأدلة. وما بُني على المجهول مجهول، ومسألة الاستطاعة بالنسبة للحج مسألة مشهورة، وقد تناولها المفسّرون في تفاسيرهم للآية 97 من سورة البقرة، كما استشهد بها الفقهاء في كلامهم عن فريضة الحج «وهذه الآية من المجمل لعدم إشعار اللفظ بما هو المراد منه بعينه من الأفعال المخصوصة، لأنه مجمل بالنسبة إلى الوجوب» (أنظر الأحكام للآمدي 3/ 13، وشرح مختصر المنتهى للايجئ 2/277، وتفسير النصوص 1/ 330. والإيضاح لابن الجوزي 105/ أ ـ ب) «والمجمل: ما فُهِمَ منه معنى على الجملة لا على التفصيل والتعيين» (الكافية في الجدل ص: 50). وجاء في الحديث النبوي أن السبيل إلى الحج «من وجد الزاد والراحلة» (سنن ابن ماجه 2/ 967، وسنن الدار قطني 2/227، ومصابيح السنَّة للبغوي 2/ 299،واختلاف الحديث للشافعي ص 288، وسنن الترمذي 3/ 176) وروى الترمذي رضي الله عنه في صحيحه، عن علي كرّم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: «من ملك زاداً وراحلة تُبلغه إلى بيت الله الحرام، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً». (انظر سنن الترمذي 3/ 176، ومصابيح السنَّة للبغوي 2/ 228، وإيثار الإنصاف لسبط ابن الجوزي ص: 99).
إن ورود الحديثين يدحض حجة الباحث فينهدم ما بناء على أساس ما أقاله فقيهه المعاصر المجهول، لاستدلاله بما ليس عليه الدليل. وهذا يؤيد إلى دحض قوله: «أن توفر العامل الديني ـ الإيماني ـ الشخصي وحده لا يكفي لاعتبار الفرد ملزماً بالامتثال للأوامر والنواهي الواردة في الشريعة الإسلامية، ما لم تتوفر الشروط الدنيوية، والمادية التي وضعتها الشريعة ذاتها لتطبيق الأحكام الشرعية». وهنا يجب التأكيد على أن الشريعة الإسلامية لا تُ؛كم المادي بالروحي، ودليل ذلك هو الأخذ بالنص المنقول نقلاً صحيحاً ولو تعارض مع المعقول، لأن العقل معرّض للخطأ والصواب، أما الشارع فمعصوم عن الخطأ. وما ساقه الكاتب ينسجم مع القوانين المادية الديالكتيكية الماركسية، المنهارة، ويتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، ويلاحظ عليه اعتماد آراء بعض الفرق الخارج على السنّة والجماعة.
واستعمل الكاتب التمويه في قوله: «يشترط الفقهاء الحرية والقدرة على الاختيار في صحة الكثير من المعاملات القائمة على أساس الشريعة الإسلامية…». فهو لم يذكر ولو واحداً من أولئك الفقهاء، كما لم يذكر ولو كاتباً من كتبهم، وهذا تمويه مرفوض، ومفهوم الحرية مرن يحتمل أكثر من وجه، وقد حدّد الفقهاء الفارق بين العبد والحرّ، فقال أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ «في الرونق: يفارق العبدُ الحرَّ في خمسين مسألة:…» (انظر الأشباه والنظائر للإمام السيوطي ت 911 هـ. ص 257 وما بعدها). وهنا تجدر الإشارة إلى أن العبد كالحرّ في بقية المسائل، واستثناء خمسين مسألة من عموم المسائل التي لا تعدّ ولا تحصى لا يعني «الكثير من المعاملات القائمة على أساس الشريعة الإسلامية» إنما يعني أقل القليل.
السلوك الفردي والاجتماعي
«إن دراسات الفقهاء تتناول فقط الشروط الفردية للتكليف. فهي في حقيقة الأمر تبحث في السلوك الفردي، وليس سلوك المجتمع… وبقيت الشروط الاجتماعية للتكليف بالأحكام الشرعية مساحة فارغة، وغير مطروقة في البحوث الفقهية…».
هكذا وبكل بساطة يحكم على الفقه الإسلامي بالقحط في المجال الاجتماعي، وهذا ادعاء مجانب للحقيقة لأن اهتمام الإسلام بالفرد هو اهتمام بالجماعة لأن الفرد الصالح لبنة صالحة في بناء المجتمع الصالح، والالتزام الفردي العام يؤدي بالضرورة إلى التزام المجتمع، وقد شمل الفقه الإسلامي الشروط الاجتماعية مثلما شمل الشروط الفردية، ودليل ذلك وجود فروض العين وهي شخصية، وفروض الكفاية وهي اجتماعية، لأن ما يقوم به البعض، يغني عن الكل، واستعراض أصول فروض الكفاية وفروعها أوسع من أن نحيط به في مقالة صحافية. وقضايا الزواج والطلاق والميراث قضايا اجتماعية من وجه، وشخصية من وجه آخر، وكونها شخصية من وجه لا يسلب عنها الشمولية من الوجه الآخر، وانقسام الفقه الإسلامي بشكل عام إلى عبادات ومعاملات وكفارات وعقوبات يؤكد شموله نواحي الحياة الشخصية والاجتماعية، لأن ما يبدو شخصياً هو في الحقيقة شخصي واجتماعي، فعقوبة السارق شخصية من ناحية واجتماعية لأن الغاية منها حفظ مال الغير، وقس على ذلك. وما ذهب إليه الباحث من أن اعترافات الفقهاء والمفكّرين «الإسلاميين» تؤيد ما ذهب إليه ليس إلا من باب الوهم. واستخدامه كلمة إسلاميين مفضولة بكلمة مسلمين لأن المسلم غير الإسلامي، وهذا ما لا يخفى على الباحث الحصيف!!!
«إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية بحاجة إلى باب جديد في الفقه. يمكن تسميته بفقه تطبيق الأحكام العامة، ويتعين على هذا الباب أن يبحث ويحدد شروط التكليف بالنسبة إلى المجتمع، وليس شروط التكليف بالنسبة إلى الفرد، كما هو حاصل الآن… إن هناك شروطاً خاصة يتعيّن توفّرها في المجتمع قبل أن يكون بالإمكان اعتباره مكلفاً فعلاً بالأحكام الشرعية».
إن هذه الدعوى تقتضي تعليق تطبيق الشريعة الإسلامية حتى يفتتح الباحثون الجدد باب «فقه المجتمع» والدعوى مرفوضة لأنها تنطوي على خطط المعطلة، وهي أقرب إلى رسائل إخوان الصفا والأفلاطونية، وأبعد ما تكون عن الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً وقولاً وعملاً. وقول الباحث: «وعند عدم توفر الشروط فإن عمل (الإسلاميين) يجب أن ينصرف إلى السعي من أجل توفير الشروط، وعدم جواز القفز على حقيقة عدم توفرها»، إن هذا القول ليس إلا من باب القفز غير الواقعي والأمثلة شاهدة على دفع هذه المخططات.
وتطبيق الشريعة وعدمه يتوقف على الإرادة الفاعلة، وليس على ما ذهب إليه الكتاب من تعسّف في إطلاق الافتراضات المخالفة للشريعة الإسلامية، حيث بنى افتراضاته على أقوال ابتدعها من خياله، وحوّرها لتخدم مخططه إذ يقول: «أن القول بأن الفرد غير مكّلف بالأحكام ما لم تتحقق الشروط أولى بالتطبيق على المجتمع…» وقد سبق أن فنّدنا هذا الزعم وبيّنا أنواع التكليف، وأن الفرد مكلّف، وتكليف الفرد ينسحب على المجتمع، وتطبيق الشريعة الإسلامية هو رحمة للأفراد والمجتمع لأنها تمنع العدوان وتعطي لكل ذي حق حقه. أما ما قرّره عبد الجبّار فمرفوض ومردود لمخالفته أحكام الشريعة الإسلامية، وخروجه على إجماع الأمة في قوله: «من التعسّف بمكان أن نفرض على مجتمع ما تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية قبل أن تتوفر هذه الشروط» أي: «الشروط الاجتماعية للتكليف الشرعي» التي ابتدعها.
إن تطبيق الشريعة موجّه إلى المسلمين بالدرجة الأولى، والتبليغ لكافة الأمم، والفرد المسلم المؤمن بدينه قابل لتطبيق الشريعة، فلا مبرر للتهرب من تطبيق الشريعة الإسلامية السمحة التي تحل مشاكل المسلمين وغيرها من الناس، وما يجري الآن في العالم الذي يدّعي المدنية والحضارة والتقدّم العلمي من جرائم فردية واجتماعية هو خير دليل على ما ذهبنا إليه، أما تم إعداد المجتمع الروسي للشيوعية، وفشلت بعد سبعين سنة من التطبيق، ونتائجها ما نراه، على رغم ما كانوا يدّعون من أن «حركة المادة تسمو بشكل لولبي» والتقدم مستمر، وضمان ذلك قانونهم المسمّى: «نفي النفي» ألا ساء ما يدّعون.
ويتساءل الكاتب قائلاً: «كيف يمكن أن نطالب مجتمعاً بتطبيق الشريعة، وإقامة الدولة الإسلامية قبل أن يتحقق لديه الوعي العام بأنه مكّلف شرعياً بهذا الأمر؟».
والجواب على هذا التساؤل هو: أن الوعي الخاص هو أساس الوعي العام لأن العام ما تناول أكثر من واحد مطلقاً، فإذا تحقق الوعي الشخصي أدى إلى الوعي الاجتماعي حكماً، و«إقامة الدولة الإسلامية» ما هي إلا إعادة لبنيان كان قائماً ثم أنهار على الصعيد العام، وبقي على الصعيد الخاص، حيث نجد عدداً لا يحصى من المؤمنين بالشريعة وإقامة الدولة الإسلامية، ولكنهم لا يستطيعون تطبيق ما يرغبون على المجتمع بشكل عام، وذلك لأن القوى المناوئة للإسلام هي التي تسيطر على مواقع القرارات السياسية والعسكرية في أكثر دول العالم الإسلامي، وتعتمد على قوة الدعم الخارجي المعادي للإسلام، وعلى الدعم الداخلي الذي يقدّمه المارقون والخارجون على الإسلام، وهم أقلية متحكمة مكروهة من قبل السواد الأعظم، ومبرر وجودها وبروزها هو الأوضاع المغلوطة التي لا يمكن تصحيحها إلا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية التي تضع حداً للمفاسد الاجتماعية والسياسية التي تعصف بالعالم الإسلامي الذي يملك من مقومات الحضارة والنهضة ما يؤهله لاحتلال مكانة سامية في العالم. عكس ما هو عليه اليوم من الضّعة والضعف والتخاذل الذي جعل المسلمين فريسة لأعدائهم في الداخل والخارج. والمجازر الممتدة من الهند إلى البوسنة ـ الهرسك خير دليل على ما آل إليه حال المسلمين في زمن غياب الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية التي تحفظ حق المسلم والذمي على حد سواء c
1993-03-08