النظام الدولي الجديد (1)
1992/07/31م
المقالات
2,853 زيارة
نظام أميركي أم (بلطجة) أميركية؟!
بقلم: محمد موسى
لم يأت النظام الدولي الجديد من فراغ، كما لم يولد بعملية قيصرية، فهو في حقيقته نظام دولي جديد قديم، جاء اثر تطور في العلاقات الدولية طويل، وصراع بين الدول الكبرى مرير ودامٍ. لذلك فإنه لا يتسنّى إعطاء وصف مفهم للنظام الدولي الجديد من غير إعطاء صورة عن ماهية الموقف الدولي والنظام الدولي، ومن غير إعطاء لمحة معبّرة عن العلاقات الدولية التي أدت إلى ولادته. وقد بشّر بولادة النظام الدولي الجديد، معطياً له اسمه هذا، رئيسُ الولايات المتحدة الأميركية بوش، مما يعني أن النظام نظامُ الولايات المتحدة. لذلك فإن البحث يقتضي إعطاء لمحة عن الأعراف السياسية الأميركية وعن السياسة الأميركية وتطوّرها.
الموقف الدولي والنظام الدولي
الموقف الدولي هو هيكل العلاقات القائمة بين الدول الفاعلة في المسرح الدولي، أو النسبة بين قوى تلك الدول. وهذه الهيكلية إنما يمليها واقع كل دولة من هذه الدول، ولما كان واقع كل دولة يعتريه التغيّر والتبدل قوة وضعفاً، فإن العلاقات بين هذه الدول يعتريها التغيّر والتبدّل تبعاً لذلك. وقد يحدث هذا التغير والتبدل بسبب حرب كبرى تطيح بدولة وتضعف أخرى فتخرجها من التأثير في المسرح الدولي، فيندفع غيرها ليحلّ محلها. ففي الحروب يأفل نجم دول، ويسطع نجم دول أخرى وقد يحدث التغيّر والتبدل وقت السلم من خلال عملية التطور التدريجي للقُوى، فتضعف دول وتقوى أخرى، إلا أن الحروب افعل في التغيير. ومع هذا التغيّر والتبدل في أحوال الدول يتغيّر الموقف الدولي إن في تغيّر هيكلية العلاقات أو في تغيّر أطرافها، ونظراً لأن تغيّر أحوال دول الفاعلة في المسرح الدولي ليس سريعاً، فإن تغيّر الموقف الدولي يحتاج لفترات طويلة ليتغيّر.
ومع كثرة الدول العاملة على المسرح الدولي، فإن الدول الفاعلة فيه فردياً قليلة. وفعل الدولة في المسرح هو قدرتها على التأثير في قرارات الدول الأخرى، وذلك بالطاقات التي تستطيع الدولة تعبئتها وحشدها خارج حدودها. ولهذا فإن تأثير الدول الأقوى أوسع وأعمق، ولكن هذا لا يمنع الدول الصغرى من التأثير في المسرح الدولي. وهي تفعل ذلك بتهديدها لمصالح الدول الكبرى أو بحفاظها عليها ورعايتها لها. وتحتاج الدولة الصغرى في كلتا الحالتين إلى يقظة فائقة وحرص شديد، لأنها في الحالة الأولى قد تقامر بمصيرها، وفي الحالة الثانية قد تقامر بحريّة قرارها أي بسيادتها فتصبح دولة عملية.
ومن هنا فإن تتبع الموقف الدولي وتبدّلاته يقتضي تتبّع أحوال الدول المؤثرة فيه لمعرفة ما يستجد عليها من قوة أو ضعف في جميع عناصر قوِّتها. وتكون الدراسة وقت السلم كما تكون وقت الحرب.
وقد أخذ الموقف الدولي خلال القرنين الماضيين يتجسّد فيما يسمّى بالنظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام النقدي، بل وفي جهة النظر عن الحياة. وإيجاد النظام الدولي وإضفاء الشرعية الدولية عليه يمثل قمة نجاح الدولة الأولى في العالم أن الدول المشكّلة للموقف الدولي، لأنه يضفي الشرعية على مركزها وعلى مصالحها وتصرّفاتها.
فالنظام الدولي يمثل الشرعة الدولية، والشرعة الدولية هي شرعة الأقوى. فإن انفردت في القوة دولة واحدة كانت الشرعة الدولية شرعتها منفردة، وإن شاكرتها في القوة دول أخرى كانت الشرعة الدولية شرعة الدول الكبرى متجمعة، تحقق كل دولة منها من هذه الشرعة بنسبة قوّتها. والشرعة الدولية تمثل في العرف الدولي العدل الدولي، والعدل الدولي لا يعني العدل الفعلي بالمعنى المعروف، كما لا يعني العدل المطلق بالنسبة للدول الكبرى نفسها، فهو عدل القوي لنفسه لا للآخرين، أي عدل نسبي للدول الكبرى تحقق كل واحدة منها لنفسها منه بقدر ما تزنه قوّتها في ميزان القوة الدولية فالنظام الدولي إذن يحقق لكل دولة من الدول الكبرى المتشاركة بقدر ما تزنه قوّتها في الميزان الدولي. وعندما تتغيّر النسبة بين قوى الدول تلك، فتضعف الأقوى وتقوي الأضعف، تحصل إعادة نظر، أو محاولة إعادة نظر، أو مطالبة بإعادة نظر في توزيع العدل الدولي، فتجري مراجعة للنظام الدولي تعديله. وقد تجري المراجعة للنظام الدولي باتفاق، وقد تجري بعد صراع. وتعمل الدولة التي تكون المستفيد الأول من النظام الدولي على إعاقة التعديل أو الحيلولة دونه، فهي دولة محافظة لأنها تحافظ على الوضع الراهن. أما الدولة التي تطلب التعديل فهي دولة إصلاحية لأنها تسعى لإصلاح النظام. والمطالبة بالإصلاح لا تعني المطالبة بهدم النظام، إذ سبق لها وارتضت بالنظام كميزان لتوزيع العدل الدولي ولا زالت، فهي تسعى إلى إعادة توزيع العدل لا إلى تغيير الميزان.
أما الدول التي لحقها الظلم من النظام الدولي، والدول التي لا أثر لها في المسرح الدولي ولم تشارك في إنشاء النظام الدولي مشاركة فعالة ولا يضمن لها النظام الدولي شيئاً من العدل الدولي، والدول التي لا تؤمن بالنظام الدولي لأسباب أيدلوجية، فلا ناقة لها ولا جمل فيه تدفعها للمحافظة عليه. وعلى أمثال هذه الدول أن تعمل على تغيير النظام الدولي ليس لأنه فقط لم يمنحها شيئاً من العدل الدولي وإنما لأنه أيضاً يعمل ضدها وضد مصالحها، إذ هي غنائم الدول الكبرى فيه. فإن لم يكن لديها القدرة على تغيير النظام الدولي فهي من الكثرة التي تجعل لديها القدرة على شلّه بعدم الامتثال للكثير من طلباته، وأن عليها أن تتطلّع في الوقت نفسه إلى تغييره لا إلى تكريسه وتقديسه.
وكل دولة تعمل على تغيير النظام الدولي دولة ثورية لأنها تعمل على هدم النظام، أي تعمل على تغيير الميزان. وخروج الدولة على النظام الدولي خروج على الشرعية الدولية يضعها في مواجهة مع الرأي العام الدولي الذي تسخره الدول الكبرى، والرأي العام العالمي. لذلك يتوجب على كل دولة تعمل على هدم النظام الدولي، أو حتى الخروج عليه، أن تبدأ أولاً بتعريته من الشرعية، ثم تهيئ نفسها للصدام مع القوى الهائلة التي تحرسه. وهدم النظام الدولي لا يتم في الغالب إلا بحرب مدمّرة لأن هدمه يعني ضرب مركز الدولة الأولى في العالم ومصالحها، بل ومصالح الدول الكبرى المستفيدة منه.
وليس أدلّ على قوة النظام الدولي وعتوّ القوى التي تحرسه من أن ولهلم وهتلر تحطما على أبوابه بالرغم من القوة الهائلة التي تمكنت ألمانيا من حشدها في الحربين العالميتين. أما نابليون فقد تمكّن من هدم النظام الدولي وإقامة نظام دولي جديد يقوم على انفراد فرنسا، بعد أن مزّق الجيوش الأوروبية وأجبر ملوك أوروبا على الجثوّ على ركبهم أمامه مرّتين. لكنه فشل في إضفاء الشرعية على نظامه الجديد، فهبّت الدول الأوروبية من جديد وأطاحت به وبنظامه الدولي.
ولهذا فإن الدول العاملة على المسرح الدولي، كما تحرص على أن تعمل، أو تظهر أنها تعمل، تحت مظلّة الشرعية المحليّة حتى تضمن الدعم المحلي لها، (فإنها) تحرص على أن تعمل، أو تظهر أنها تعمل، تحت مظلة النظام الدولي والشرعية الدولية، حتى تضمن الدعم الدولي لها وتعاطف الرأي العام العالمي معها، أو على الأقل لسحب مبرّر وقوف المجتمع الدولي في وجهها.
أنواع الموقف الدولي
لا يتعدى الموقف الدولي حالات أربعاً، أحداها نظرية غير واردة عملياً وهي:
الدولة العالمية: وهي حالة تتنازل فيها الدول عن سيادتها طواعية، وتعطي صلاحياتها لدولة واحدة تكون دولة عالمية، بنفس الطريقة التي يتوهم البعض أن دول المجموعة الأوروبية تسير فيها. وهذه الحالة نظرية خيالية والبحث فيها خيالي.
أو أن تقوم دولة ما باحتلال العالم وتوحيده بقوة السلاح. وهذه الحالة غير محتملة بالرغم من أن بعض الدول وصلت إلى أقل بقليل من ذلك المستوى كالاسكندر الأكبر، والإمبراطورية الرومانية، والدولة الإسلامية. كما تبين للاتحاد السوفياتي أن الثورة العالمية وهم. فاعتناق الشيوعية والرأسمالية لا يعني التنازل عن السيادة، لأن الرأسمالية والوطنية والشيوعية والاشتراكية والوطنية تبقى بديلاً للصفة العالمية لهذه المبادئ،. والتصور الوحيد، وإن كان مستبعداً، وهو في اعتناق العالم للإسلام، لأن وحدة الدولة جزء لا يتجزأ من المبدأ وهو الإسلام.
ولذلك فإن الموقف الدولي لا يتعدى عملياً إحدى حالات ثلاث وهي:
1- التفرّد. 2- ميزان القوى أو توازن القوى. 3- الأمن الجماعي.
1- التفرّد: وهو أن تعمل كل دولة بمفردها، فلا تعقد الأحلاف ولا تعطي التعهدات، ولا تشعر أحد بالمسؤولية تجاهها. وهذه الحالة لا تمنع قيام دولة من الاستعانة بأخرى لدى قيامها بالعمل أو تعرضها للعدوان ولكن بدون التزامات مسبقة. وقد ساد هذا النمط من العلاقات قديماً عندما لم يكن للدول قدرة على نقل قواتها بالسرعة المطلوبة عبر المسافات الطويلة. ولذلك فإن حروبها لم تكن واسعة وإنما كانت حروباً محدودة المكان. وقد انتهى هذا النمط بعد أن اختصرت الصناعات الحديثة المسافات وانتهى تأثير الحواجز الطبيعية وتداخلت العلاقات الاقتصادية بشكل واسع.
ومن هذا النمط تتمكن دولة ما من الاتساع والهيمنة على أجزاء كبيرة من العالم احتلالاً أو نفوذاً، فتفرض رغبتها على غيرها من الدول، تعطي وتمنع، تصل وتقطع، كما هو حال أميركا في الوقت الراهب بعد انفردت في السياسة الدولية وهيمنت عليها.
2- ميزان القوى: يطلق مصطلح ميزان القوى، وتوازن القوى، في العرق الدولي، ويقصد به معنى واحد. فهو يطلق على تمحور القوى في تجمعين أي حلفين متضادين، كما يطلق على الدافع لذلك التمحور أو على نتيجته.
فلحل مشكلة القوة ومأزقها لدى الدول، تقوم الدولة بضم قوتها إلى قوة دولة أو دول أخرى، لتطابق ولو مؤقتاً في المصالح، من أجل العدوان أو ردّ العدوان. فهو تخالف من جهة وتحالف مضاد من جهة أخرى. وحدوث التوازن الفعلي بين الكفتين ليس غاية. فقد يحدث وقد لا يحدث، وإن حدث فإنه يكون نتيجة. وفي الغالب يكون الحلف الأول من أجل العدوان، بينما يكون الحلف الثاني من أجل الردع عن العدوان، ولذلك فإنه يقتضي جمع قوة أكبر من قوة الحلف الأول لردعه.
وعند اختلال ميزان القوى تحدث الحروب. وقد وصفت الحروب الأوروبية، ومنها حربان عالميتان، بأنها كانت بسبب اختلال ميزان القوى ، مما دفع النقّاد إلى مهاجمة سياسة توازن القوى. وكون ميزان القوى يؤدي إلى حروب واسعة أو حتى عالمية، فإنه لا يعني أن ترفضه الدول كحل لمأزق قوتها. والأحلاف وإن كانت من أجل الردع فإن الدول لا تقوم بإلغائها إذا فشل الردع وإنما تركها لخوض الحروب.
وقد أصبح ميزان القوى في أوروبا من الوضوح والرسوخ بحيث أصبح سياسة أوروبية رسمية، وقد أملى هذا النمط من العلاقات تعدد الدول الأوروبية في حيز ضيق من العالم، كما أملاه حلم دولة ما فهيا بين فترة وأخرى بالهيمنة على أوروبا التي كانت المسرح الدولي الرئيسي، لأن الهيمنة على أوروبا كانت تعتبر مفتاح الهيمنة على العالم.
3- الأمن الجماعي: في حالة التفرّد تكون كل دولة مستعدة للدفاع بنفسها عن نفسها وعن مصالحها. وفي ميزان القوى تمد كل دولة من الدول المعنية تعهدها ليشمل الدفاع عن كل دولة موقّعة على الحلف، أما منظومات الحلف الدفاعي أو العائلة الدولية، فإن كل دولة تمدّ تعهدها ليشمل جميع الدول من أجل أن يكون العالم أكثر أمناً وأشد إصراراً على مقاومة العدوان. وتساهم جميع الدول في ذلك بوحدة الإرادة، ووحدة التوجه ووحدة العمل. فردع العدوان مسؤولية الجميع، والحفاظ على أمن جميع الدول من مسؤولية الجميع.
وقد جرت محاولتان عمليتان لإيجاد هذا النمط، وذلك من خلال عصبة الأمم والأمم المتحدة، لكنها كانت محاولات فاشلة، لأن الجزء الأكبر من تشريعاتها قد وع للحفاظ على مصالح الدول الكبرى، وإضفاء الشرعية الدولية على تلك المصالح. ونظراً لأن المنظمتين الدوليتين ليستا بديلاً للأحلاف، فقد عملت الدول المشاركة فيهما، ومنها الدول الكبرى، على حل مشكلة أمنها بإقامة أحلاف خارج المنظمات الدولية، مما جعل تلك المنظمات منبراً للخطابة ومركزاً للمناورات أكثر منها توجهاً لحل مشاكل الدول كما أن تلك المنظمات قد خَلَتْ من آلية لتنفيذ عقوبات رادعة حتى في حالة اتفاق الدول الأعضاء على تحديد العدوان والمعتدي.
وما دامت هناك دول كبرى ودول صغرى، وما دامت هناك مصالح متباينة للدول، فإن التعاون الدولي للوفاء بالرسالة الظاهرية والخادعة للمنظمات الدولية نظري وغير قابل للتطبيق. وحل مشاكل كل العالم والوفاء بالتزامات جميع الدول من خلال عائلة دولية أمر لا يمكن تحقيقه. وكل ما يمكن تحقيقه هو مصالح بعض الدول الكبرى من خلال هذه العائلة دون ما حاجة من تلك الدول لأن تلجأ للحروب. (يتبع)
1992-07-31