الدعوة إلى الإسلام (25)
1994/12/31م
المقالات
2,058 زيارة
الاعتدال والتطرف
إن حرب الغرب على الإسلام تأخذ وجوهاً مختلفة، وتدخل مجالات متنوعة، يجمعها القيام بكل ما من شأنه أن يبعده عن وقاع الحياة. ولم تقتصر الحملة على تشويه صورته، وهدم خلافته، والطعن في أحكامه، وتصويره بأنه رسم قد عفا عليه الزمن… بل تشتمل على كل ما يمكن أن يعيده إلى قيادة العالم من جديد. فالخوف عندهم دائم من الإسلام، لذلك كان الكيد له لا يفتر لئلا يُسحب البساطُ من تحت رجليه إذا عادت للمسلمين كرّتهم.
فالغرب ينظر إلى المسلمين على أنهم أمةٌ حيّة بإسلامها. وأن دينهم دين عالمي، يصلح للبشر ويُصلحهم، وأن نفوسهم تطلع بشكل دائم إلى الوحدة، وأن مواقع دولهم المتفرقة ستصبح موقع دولة استراتيجية واحدة تمسك بخواصر القارات وتطل عليها. وأنهم يقبعون على ثروات ضخمة تفيض عن حاجة دولة كبرى لتجعلها دولة أولى. وأن عددهم يقارب ربع سكان العالم… وأن همهم، إن أظهرهم الله، ليس القتل ونهب خيرات البلاد التي يفتحونها بل فتح القلوب، وإخراج الناس، كل الناس، من عماية الكفر إلى هداية الإسلام، وفي قناعة الواحد منهم أن إدخال رجل واحد في الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها.
لذلك يشهد الإسلام كثيراً من الكيد على أحكامه وعلى العاملين المخلصين له لإبعاد تأثيره في أهله، وفي غير أهله. وهذا الكيد يتناسب مع حجم الخطر الذي يشعرون به.
ولولا أن الإسلام هو دين الله الحق، لانمحى، واندرس، وصار أثراً بعد عين. ولكن إرادة الله ماضية، ومشيئة غالبة. فقد بقي المسلمون على ولائهم لدينهم في اشد أيامهم انحطاطا، إلا أن الغرب نجح في جعل مقاييسهم خاطئة، ومفاهيمهم مغلوطة، وعقليتهم فاسدة… ذلك أنه رأي في حروبه الصليبية الأولى أن الإسلام متمكن في نفوس المسلمين، وأنه أقوى بكثير من أية محاولة لانتزاعه، لذلك غيّر خططه في حربه الصليبية الثانية، التي ما زلنا نعاني من ويلاتها، وجعلها تقوم على إبعاد المسلمين عن دينهم، وعلى نشر مفاهيمه وقناعاته ومقاييسه الفكرية ليضمن سيطرته المادية، فأوجد التبعية الفكرية له أولاً، ثم أتبعها بسيطرته المادية. ثم غرس حكاماً وأحاطهم بوسط سياسي وفكري فاسد، ثم راح يربط الدول فيه عن طريق جعل سياسية دول العالم تسير باتجاه واحد لتحقيق مصالحه، وعن طريق جعل العالم وكأنه شركة مساهمة يكون فيها هو الممول والمنتج، وتشكل فيه الدول الأخرى الطبقة العاملة والمستهلكة. وأحاط العالم بشبكات إعلامية ضخمة جعل فيها شبكات الدول الأخرى الإعلامية تابعة لها، ويريد بذلك أن لا نقرأ إلا ما كتبه، ولا نسمع إلا ما يذيعه، ولا نشاهد إلا ما يبثه، ولا نتحدث ونفهم الأمور إلا على ضوء ما يريد. إنه استعمار جديد، متطور، اشد وأدهى من الاستعمار القديم. فالاستعمار القديم كان يحتل الإنسان الخارجي بينما الجديد يحتل نصفه الداخلي ونصفه الخارجي، ليجعل التبعية مطلقة له، لا يهددها شيء.
حتى ديننا، فإنه يريد أن يفهمنا إيّأه على طريقته. ومن يشذّ عن نظرته تلك فإنه يجنّد وسائل إعلامه هذه ضده. فتصوره بصورة الشاذ الذي يريد أن يخرق الأعراف، ويخرج عن المعهود، ويشق الإجماع، وينعته بنعوت التطرف والإرهاب، والأصولية والتشدد، ويصفه بأنه عدو للإنسانية وظلامي لا يألف العيش إلا في الظلام، وعدائي لما يثيره في طرحه من عداوات وحزازات. وبعد أن يشوّه الصورة ويقلب الحقيقة،تقوم الأنظمة بضربه، على اعتبار أنه يستحق الضرب. متمدين في كل هذا على غفلة الناس عن إدراك الحقائق، ومستعينين بعلماء يباركون كل أعماله… ولكن ما نشاهده اليوم من صحوة بدأت تدب في جسم الأمة تنظر إلى الغرب والحكام والعلماء نظرة واحدة. فصارت تنظر إلى الغرب، أنه شيطاني وأن الحكام هم مريدون، وأن هؤلاء العلماء لم يتسنموا مراكزهم إلا بمقدار ما أهدروا من كرامة الدين على عتبات الحكام، وأنهم علماء لحالة الانحطاط، وأنهم سينتهون بانتهائها، وأن لعصر النهضة الإسلامية الصحيحة علماءها الشعث الغبر، الأتقياء الصادقين.
إننا اليوم في مرحلة يعيش فيها الغرب والحكام خوفاً فعلياً من عودة الإسلام، لذلك نراهم يتحسسون من كل طرح إسلامي يشكل خطراً عليهم، ويعملون على محاصرته ورميه بشتى التهم، واستخدام أبواق الإعلام والدعاية ضده، وتسخير أفواه العلماء لمهاجمته. لذلك وصفوا كل حركة إسلامية تطالب بالإسلام وحده بأنها متطرفة، وإرهابية، وقام علماء مسلمون، وكتّاب قوميون ووطنيون بتأليف المؤلفات وإلقاء المحاضرات عن نبذ التطرف والدعوة إلى الاعتدال. وكلهم ينطلقون من منطلق واحد في النظرة إلى هذا الموضوع وهي نظرة الغرب فحسب. ولولا أن هناك علماء مسلمين يشاركون في هذه المعمعة ويحاولون أن يضيفوا على طرحه هذا شرعية، ووجهاً مقبولاً لما كلّفنا أنفسنا ععناء الرد. لأن الآخرين ليس لهم وزن عند الأمة، شأنهم شأن الحكام، بل قد يؤدي إلى هجومهم إلى رد فعل معاكس لما يريدون، حتى أن هؤلاء العلماء المسلمين بدأوا بنعزلون عن الأمة، وبدأت الأمة تدير لهم ظهرها من كثرة تبريراتهم الشرعية، التي لا تحمل وجه حق وفتاويهم التي تخرج عن الأصول الشرعية المنضبطة، والتي جاءت في آخر مراحلها لا لتخالف فهماً إسلامياً فحسب بل لتعطل نصوصاً شرعية اتفقت الأمة على ثبوتها والعمل بها. وقد وصل ببعضها أنها راحت تأمر بالمنكر وتنهي عن المعروف. والعياذ بالله، وكل هذه الحمية التي يظهرها العلماء عند طرح أفكارهم الجديدة على الإسلام، الدخلية عليه، هي لا لإرضاء الله بل لإرضاء الحكام وأسيادهم، وإنهم وإن أظهروا الحرص على المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية في ظروحاتهم هذه فإن الأمة صارت تدرك خطر تلك الأفكار، واعوجاج أصحابها.
والآن، وبعد هذه المقدمة، التي لا بد منها لإدراك حقيقة طرح موضوع «التطرف والاعتدال» لا بد من طرحه من منظور إسلامي ليعلم المسلمون الحق من غير لبس، لأنه لا تكفي المشاعر وحدها في تحديد الموقف، وإننا كعادتنا سنجري في معالجة هذا الموضوع بحسب الأصول الشرعية، ليكون منسجماً مع أساس الإسلام، وهو العقيدة الإسلامية.
جاء الإسلام ليعالج الإنسان ككل. فعالج علاقته بنفسه عن طريق الأخلاق والمطعومات والملبوسات، وعالج علاقته بغيره من الناس عن طريق المعاملات والعقوبات، وعالج علاقاته بخالقه عن طريق العائد والعبادات، لذلك كان الإسلام شاملاً بمعالجاته لكل أعمال الإنسان. فهو فكر كلي يمكنه الإجابة عن كل ما يتعلق بشؤون الحياة.
ثم إن بناء الإسلام بناء متكامل يقوم على أساس تنبثق عنه كل معالجة ويبنى عليه كل فكر، لذلك كانت مفاهيم الإسلام وقناعاته ومقاييسه كلها من جنس فكره الأساسي. وتفصيل ذلك أن الإسلام يقوم على أساس إيمان المسلم بأن الله هو الخالق المدبر وأن الإنسان ضعيف وعاجز ومحتاج وناقص ومحدود. وأنه يعجز عن المعالجة. لذلك أرسل رسوله ليعلم الناس من هو الله المعبود، وكيف تكون عبادته، وماذا يترتب على العبادة أو عدم العبادة من ثواب أو عقاب في الحياة الآخرة. فنشأ عند المسلم من هذا مقياس لكل أعماله هو مقياس الحلال والحرام. وصار عقله يعمل لا ليكون حكماً على النصوص التشريعية، ولا ليشرع مع النصوص، بل يعمل فقط على فهم ما تدل عليه النصوص. فالنصوص التي تعالج هي من الله، وفهم المسلم لهذه النصوص هو من المسلم الذي قد يخطئ فهم ما يريده الله أو يصيب، وهو في الحالين مأجور شرط أن يكون خاضعاً لطريقة الاجتهاد الشرعية. ومن هنا جاء اهتمام المسلمين البالغ بإثبات النصوص والذي نتج عنه علم الحديث، واهتمامهم البالغ بفهم النصوص والذي نشأ عنه علم أصول الفقه والذي من قواعده أن الله هو الحاكم و(الأصل في الأفعال والأشياء التقيد بالدليل الشرعي) و(أن الخير هو ما أرضى الله، والشر هو ما أسخطه) و(أن الحَسَن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع) وكذلك نرى بأن المسلم يؤمن بأن سعادته يحصل عليها بنوال رضوان الله. وأن اطمئنانه واستقراره يقومان على إشباع حاجاته وغرائزه بناء على إيمانه بالله وتقيده بشرعه. وهكذا نرى أن بناء الإسلام كامل متكامل أفكاره كلها متجانسة، وتقوم على أساس واحد. فما أقره هذا الأساس أخذ وإلا ترك.
وما ينطبق على الإسلام كمبدأ، ينطبق على الفكر الرأسمالي لأنه كذلك فكر مبدئي، وبناؤه الفكري متجانس مع بعضه، وهو إما أن يؤخذ كله أو يترك كله. وتشكل فكرة فصل الدين عن الحياة الأساس الذي انبثقت عنه كل معالجاته، وبنيت عليه كل أفكاره. وفكرة (فصل الدين عن الحياة) التي قامت على الحل الوسط أدت غلى اعتبار أن الإنسان سيد نفسه. وحتى يكون سيد نفسه لا بد أن تُبعد عنه كل وصاية، ولا يكون ذلك إلا بأن يمارس حرياته الأربعة بنفسه. فنشأت عنده فكرة الحريات. هي لها عنده مفهوم معين. وأن يكون سيد نفسه فمعناه أن يسعى بتأمين حاجاته الأصلية بحسب نظرته هو من غير أن تحكمه أية نظرة خارجية من دين أو غيره فنشأت عند فكرة الديمقراطية. ويعتبر الذي يعتنق فكرة (فصل الدين عن الحياة) أن سعادته يحصل عليها بحصوله على أكبر قدر ممكن من اللذة. وصار ما يدركه عقله (لأن عقله هو المشرع) إنه مصلحة، هو مقصود أعماله.
وعندما يكون الفكر منسجماً فإنه لا يقبل الاختلاط. والاختلاط بالمعنى الشرعي يعني الشرك، سواء كان شركاً كفرياً، أو شرك معصية.
فكما أنه لا يمكننا أن نقول إن الديمقراطية من الإسلام لأن الديمقراطية هي حكم الشعب، بينما الحكم في الإسلام للشرع، والأمران متناقضان لا يلتقيان كذلك لا نستطيع أن نقول إن الفكر الرأسمالي يقبل أن يصل الإسلام إلى احكم لأن في وصول الإسلام إلى الحكم إلغاء للديمقراطية ولكل المفاهيم الناتجة عنها، ولهذا فإننا نرى أن الغرب يكافح الطروحات الإسلامية الجذرية ويحارب الحركات الإسلامية العاملة عليها للوصول إلى الحكم. ويرى أنها تشكل خطراً عليه وتقضي عليه من الأساس. ومن هذا المنطلق فإنه يحاربها ويعاديها ويرى فيها أنها خصمه اللدود. وينعتها بمختلف النعوت. فينعتها بالأصولية لأنها تنطلق من أصول لا تقر بوجوده، والمتطرفة لأنها لا تقبل التعامل معه لعدم وجود أمور مشتركة بينهما. وبالمتشددة لأنها لا تحابي طرحه ولا تحترم وجوده. ولو أنعمنا النظر قليلاً لرأينا أن ما يصف به غيره واقع فيه حتى أذنيه. ويمكن وصفه بما وصف به غيره، فهو من منطلقه يعتبر أنه أصولي لأنه ينطلق من أصل يؤمن به ولا يقبل بأصل غيره ينافسه. مع أن فكرته التي تقول بالديمقراطية تسمح للآخرين بالوصول طالما أن الناس هم الذين يختارون. ويعتبر كذلك متطرفاً وإرهابياً ومتشدداً لأنه لا يحترم وجود الإسلام السياسي ولا يقبل التعامل معه ولا يمكنه الالتقاء معه على أمور مشتركة. ولكم خالف مبدأه وأوقع نفسه فيما يصف به الآخرين. فأية ديمقراطية هذه التي تلغي الانتخابات وهي الطريقة التي تعبر بنظره عن إرادة الشعب لتفرض بدلها ديكتاتورية الحكام…
من هنا، فإننا إذا أردنا أن نحكم على فكرة أنها صحيحة أم خاطئة فما علينا إلا أن نردها إلى أصلها، ونحاكمها ثم نحكم عليها من خلال هذا الأصل، ولا يمكننا أن نحاكم أية فكرة جزئية من خلال أصل غيرها. فلا يمكننا أن نقول إن السعادة في الإسلام مثلاً يجب أن تكون قائمة على تحصيل اللذة، ولا نستطيع القول كذلك إن المسلم يؤمن بالحريات التي يؤمن بها الغرب، لأن الإسلام لا يقر ذلك ولا يقبل به، ومن رضي بالإسلام كأساس عليه أن يرضى بما ينبثق عنه، فإما أن نؤمن بالإسلام كله، أو نتركه كله.
أما أن تؤمن بالأساس، ونترك ما تفرع عنه، فهذا إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعضه، وجزاء من يفعل ذلك خزي في الحياة الدنيا، ويرد يوم القيامة إلى أشد العذاب.
ومن هذا المنطلق نرفض أن يأتي الكلام من دول الغرب بأن الإسلام دين الاعتدال وأنه ينبذ التطرق، فهو كلام حق يراد به باطل، لأنه ينطلق من أساسه الفاسد.
فالتطرف أو الغلو أو الإسراف أو الإفراد، لها معنىً شرعي إذا خالفه المسلم يقع في الحرام وكذلك فإن الاعتدال أو الاقتصاد أو الاستقامة أو الوسطية لها معناها الشرعي الذي يجب على المسلم التزامه. والأمر نفسه في التفريط والتساهل. فإننا إذا أردنا أن نعرف حكم الشرع بها فإنه لا يمكننا أن ننطلق من المفاهيم والمقاييس التي يؤمن بها الرأسمالي للحكم عليها، فهذا حرام، وهذا فيه خدمة للغرب وفكره، وفيه تحاكم لغير الإسلام للحكم على الإسلام ومفاهيمه.
هناك كثير من الأحكام الشرعية التي يجب على المسلم القيام بها ويأثم بتركها ويعتبرها الغرب بأنها تطرف وتشدد وإرهاب. وذلك كالجهاد في سبيل الله، والعمل لإقامة الخلافة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يشمل فيما يشمل الحكام ومقاومة الكفر ونشر الدعوة، ونبذ الديمقراطية ومهاجمتها، وحرمة التعامل بالربا، ولباس المرأة للحجاب. وغيرها الكثير من الفروض التي يجب على المسلم الالتزام بها… فهل يجوز لنا أن نحاكمها من خلال فكر الغرب الفاسد النتن الذي لم يحمل الخير لأتباعه فكيف يحمله لغيرهم. وهل يجوز للمسلمين أن يقولوا بقوله؟
وعلى هذا فإننا يجب أن نرفض طرح الغرب لفكرة التطرف والاعتدال. ويجب أن نرفض تدخله في أمور ديننا. لذلك فإن البحث هذا لم ينطلق من منطلق شرعي ابتداء بل من موقف سياسي يعمل على تكريس توجه عند الأمة يناسب الغرب، إنه بحث يتعلق باستمرار استعمار العقول.
والآن لننتقل إلى معرفة رأي الإسلام بهذا الموضوع من منطلق شرعي يخدم الدعوة ويقرب من الله.
المغالاة أو الغلو هو الزيادة والمبالغة. والمغالاة في التدين هي التشدد والتصلب في مجاوزة الحد المطلوب والمقدر شرعاً. ويسمى كذلك الإفراط ويقابله التفريط من فرط الأمر فرطاً أي قصّر به وضعيه وقدم العجز فيه. والتفريط في الدين هو التقصير في أحكامه وتضييع حقوقه، وإظهار العجز عن القيام بواجباته ومن هنا نشأت مقولة أن (لا إفراط ولا تفريط في الإسلام).
أما الاقتصاد لغة فهو التوسط والاعتدال والرشد والاستقامة. والمعتدل في الدين هو الذي على أمر الله ولا ينحرف نحو الإفراط ولا التفريط. قال تعالى: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) وتفسيرها أنها أمة معتدلة على أمر ربها أي تلتزم الحد الوسط الذي أمر الله به. قال الفيومي في المصباح المنير: «قصد في الأمر قصداً أي توسط، وطلب الأسد، ولم يجاوز الحد».
والناظر في هذه التعاريف يفهم منها أن المطلوب من المسلم أن يكون ملتزماً حدود الله فلا يتجاوزها، وأن يكون معتدلاً أي مستقيماً على أمره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم» أي التزم بما أمرك الله وانته عما نهاك. فاستقم هنا بمعنى اتق، ومن ثُمَّ يأتي قوله تعالى ليوضح المعنى: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ… ) فالله هو الآمر، والمسلم هو المطيع المؤتمر، والمسلم لا يستطيع أن يعرف سبيل التقوى، وطريق الاستقامة من عند نفسه. وهو إن اتبع نفسه يكن قد اتبع هواه. ومن ابتع هوان فسيخرف. لذلك لا تكون الاستقامة إلا باتباع ما أمر الله به حصراً، وعدم مجاوزته سواء كان عن طريق الزيادة أم النقصان. ولفهم ذلك لا بد من الرجوع إلى الأساس كعادتنا.
فالمسلم يؤمن بالله، يؤمن أن ما جاء به الإسلام من معالجات توافق فطرته التي فطره الله عليها، لأنها من لدن الخالق الذي خلقها وقدر خاصياتها، وخلق ما يصلح لها، ومؤمن في الوقت ذاته أن ما عليه الأديان والمبادئ الأخرى من معالجات هي ناقصة، وخاطئة ومنحرفة وتشقى ولا تسعد. وذلك إما لأنها من صنع الإنسان العاجز، المحتاج، الضعيف، العجول، المحدود، الذي يعجز عقله عن الإحاطة بواقعه كإنسان، وبالتالي يعجز عن المعالجة. وإما لأنها كانت إلهية من حيث الأصل، ولكننها جاءت خاصة بأقوام ولم تكن عامة. بالإضافة إلى أن يد الإنسان قد امتدت إليها بالتحريف والتغيير.
لذلك امتاز الإسلام عن غيره من المبادئ والأديان أنه دين إلهي تناول أعمال الإنسان جميعها وعالجه معالجة تؤمن له سعادة الدارين. قال تعالى: (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى @ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى @ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا @ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) فالذي لا يشير على هدى من الله في هذه الدنيا هو أعمى منحرف عن الصواب، حائد عن الحق.
كذلك فقد حفظ الله لنا هذا الدين من الضياع ومنع أن تمتد يد التغيير والتحريف إلى نصوصه قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ولكنه سبحانه لم يمنع أن ينحرف فهم الناس. فإبقاء النصوص وحفظها إبقاء للحجة من الله على الناس، أما الناس فيمكن أن يضلوا ويحرفوا، ويؤولوا النصوص بم لا تحتمله، ويزيدوا، وينقصوا… ولكن في الفهم لا في نصوص القرآن. لذلك يجب على المسلم أن يكون حسن الإيمان، قويم الالتزام، مستقيماً على أمر الله العليم الخبير، وأن لا يحيد عنه قيد أنملة.
وهذا الإسلام يقرر، والمسلم يؤمن بما يقرره، أن الإنسان، مطلق الإنسان، لا يستطيع أن يشرع مهما أوتي من سعة العقل، وعمق التجربة، وقوة الإيمان. فالإنسان في عملية التشريع لا بد له من الخضوع للنصوص حتى ولو كان أبا بكر الصديق. ولعل هذا ما عناه بقوله في خطبته الأولى بعدما تسلم مقاليد الخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم… إنما أنا متبع ولست بمبتدع» متمثلاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم».
وهذا الأمر نجده عند المسلم، ولا نجد له مثيلاً في أفكار الآخرين التي تحاول أن تعالج مشاكل الإنسان لأنه يختلف معها اختلافاً جذرياً.
من هنا كان على المسلمين أن يلتزموا ولا ينهزموا، وأن يتبعوا ولا يبتدعوا.
وإذا نظرنا إلى حال المسلمين تجاه هذا الدين، من بداية نزوله على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا نجد أن محبة الدين عند بعض المسلمين كانت تطغى على كل شيء. وكان البعض يرى في نفسه أنه يستطيع أن يعبد الله بشكل أقوى. وقد يستقلُّ عبادة الآخرين الصحيحة المنضبطة، لما يرى في نفسه من مقدرة على القيام بأكثر مما هو مطلوب شرعاً، فيذهب مع نفسه إلى المبالغة في العبادة من حيث الكم، وقد يخترع طريقة جديدة لم يأت بها دليل، انقياداً وراء ما تطلبه نفسه. وقد يشتط به الأمر كأن يريد أن يحمل الآخرين معه على هذا الأمر. ومن لم يستجب له ينعته بالتقصير، ونراه في كل ما يقوم به أو يقوله يعتمد على الأدلة الشرعية. مع تشدد في الفهم، وتصلب في الرأي. فهذا حرام، وإن صدر عن نفس محبة لله ولدينه، لأنه تغيير في الدين، ومجاوزة للحد الذي قدره الشارع الحكيم فالله هو الذي خلقنا ونحن لا نحيط به علماً، ولا نعلم حقيقة ذاته، ولا نعلم ما يتوجب علينا من عبادة، بل هو المحيط بكل شيء. وبما أننا نبتغي رضاه فإنه لا يرضيه إلا أن نستقيم على أمره. يقول تعالى لافتاً النظر إلى علمه في هذا الموضوع: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وقد ذكر البخاري عند عائشة: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوا الله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية». من هنا جاء التحذير من المبالغة وأمر بالدخول فيه والعبّ منه برفق. وقد ذكر البخاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا، وبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة» وفي رواية: «وقاربوا وأغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، القصد القصد تبلغوا».
وعن حسن النية التي تشكل باعثاً على التشدد والغلو يذكر البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه عن الرهط الذين أخبروا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم وفكأنهم تقالّوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وتعاهدوا على قيام الليل وصيام النهار واعتزال النساء. فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنتم القوم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما أني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء» وختم الحديث بقوله: «فمن رغب عن سنتي فليس مني».
ومما يدل على أن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما شرعه، وأنه لا يعتبر قربة من الله تعالى ما يضيفه الإنسان ويخترعه. فقد ذكر أبو داود في سننه عن رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يمن يصوم الدهر كله؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما صام ولا أفطر» وذكر الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن أخبره أن أمه نذرت أن تحج ماشية «مرها فلتركب، إن الله لغني عن مشيها» وذكر البخاري عن ابن عباس قال: بينا النبي يخطب، إذا هم برجل قائم. فسال عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروه فليتكلم، وليستظل وليقعد وليتم صومه».
ومما يدل على أن سبيل المغالاة يؤدي إلى الهلاك. قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: «هلك المتنطعون» قائلها ثلاثاً. وفيما رواه أحمد والنسائي وابن ماجه واللفظ له: «يا أيها الناس، إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».
وما يقال في من يتشدد كذلك يقال في من يتساهل. فهو يؤمن بالدين من حيث الأصل ولكنه يهمل الواجبات ويعتمد على الأماني. ويرتكب الموبقات ويعد نفسه بالتوبة قبل الموت، وكأنه قد علم غيب أجله. وهذا حرام بل يجب على المسلم أن يأخذ الإسلام كاملاً وعاجلاً ولا يرضى الأحسن الطاعة. وهذا يعتبر خروجاً عن منهج الله القويم.
والغلو والتفريط، كما يحذر الله ورسوله منهما المسلمين كأفراد، كذلك يحذرهم منهما كجماعات ودول وعلماء. وإننا اليوم نرى كثيراً من المسلمين من حملة الدعوة ومن علمائها انطلاقاً من محبة الإسلام، نراهم يريدون أن يعطوا صورة عن سماحة الدين ويسره وبعده عن الحرج فيذهبون بعيداً في ذلك، ويشتطون، ويخرجون عن الخط المستقيم الذي خطه الرسول صلى الله عليه وسلم ويتهاونون في كثير من أحكامه ويخرجون بآراء لا تمت إلى نصوص الإسلام بصلة. كل ذلك من أجل إعطاء الغرب صورة عن الإسلام بأنه يوافق العصر ويجري مع الواقع. حتى ذهب الأمر بهم إلى تعطيل النصوص الشرعية المتفق على العمل بها عند الأمة. ناهيك عن تأويل بعضها الآخر. صار المرتد عندهم لا يقتل بالرغم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه». بحجة أن الظرف والواقع الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يختلفان عن ظروفنا وواقعنا، وذلك لينسجم هذا الطرح مع طرح الغرب فيما يقوله من حرية العقيدة. وصارت المرأة بنظرهم يجوز لها أن تتقلد منصب الإمامة بالرغم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» بحجة أن هذا الحديث قيل في مناسبة خاصة ولا يصح تعميمها، وذلك من أجل أن يعطوا الغرب صورة عن الإسلام أنه يحترم المرأة بحسب مفهومهم… بالإضافة إلى إباحة التعامل بالربا بحجة أنه من العلاقات الدولية الملحّة التي لا يستغنى عنها.
كل هذا يؤدي إلى تضييع حقوق الإسلام وإظهار عجزه عن القيام بشؤون الحياة. وهذا العجز الذي يطهرونه هو في الحقيقة عجزهم وليس عجز الإسلام. ويقف وراء التفريط هذا ما يقف وراء الإفراط: جهل بالدين وجهل الإنسان. لذلك يهلك في الدين هذان من الناس (صنف غالٍ، وصنف قال) ويتحكم بهما جموح، والثاني يذهب مع نفسه في إرضاء الناس بعيداً عن إرضاء الله.
وإننا تُجاه هذين الطرحين، علينا أن نلتزم أمر الله فلا نغالي ولا نفرّط، ومن هذا المنطلق نفهم قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا… ) أي أن الله جعل هذه الأمة شاهدة عدل على الناس كما كان الرسول معها. وأنها بذلك تصبح خير الأمم وأشرفها. ومنـزلتها بين الناس كمنـزلة القمة ممن الجبل حيث تحتل أعلاه وأوسطه. ولا نفسرها كما يفسرها الغرب وانطلاقاً من مفاهيمه القائمة على الحل الوسط. لأن هذا حرام كما بينا. ففي موضوع العقيدة لا يمكن أن تقوم على الحل الوسط. فهاذ الحل هو الكفر بعينه. فالمسألة هي إما كفر وإما إيمان وإما نور وإما ظلام. وإما هداية وإما ضلال. وفي موضوع الحكم الشرعي فإنه سبق وتقرر أنه لا مشرع ولا حاكم إلا الله، وأنه لا معقب لحكمه، وأنه أحكم الحاكمين..
هذا هو مفهوم الغرب لموضوع التطرف والاعتدال، وهذا هو المفهوم الإسلامي، فهل يلتقيان؟ فالغرب يريد أن من وراء طرحه أن يقضي على ما يشكل خطراً على وجوده واستعماره. فهل نعينه ونحكّمه من رقاب المسلمين، فإن في إعانته إعانة له على المسلمين العاملين. قال تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) وقال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ @ وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ).
وأن نفوسنا لتحمل الخير لهذا الدين، وتتطلع بشوق إلى إظهاره، وبعون الله وتوفيقه تُفتح العقول والقلوب على نصرة هذا الدين. وأن الخير الذي أحببناه لأنفسنا أحببناه لغيرنا، ونسأل الله أن تقع نصيحتنا هذه كموقع الغيث الذي يحي به الله النفوس وعلى الله قصد السبيل ¨
1994-12-31