أميركا والعالم اليوم
1994/12/31م
المقالات
1,826 زيارة
بقلم: أبو عبد السالم
إن المراقب السياسي يدرك أن العالم قد استحال غلى كتلة من الصراعات، وشعلة حمراء متلظية، تحرق القريب والبعيد، كما يدرك الناس أن أميركا تحاول أن تنفرد بالهيمنة على العالم، وقد نجحت إلى حد ما، رغم سلسلة الفشل التي أصابتها في عهد كلينتون.
ومن دون شكل فقد ظهر الفساد في البر والبحر، وأصبحت أميركا رأس الحربة في الطغيان، حتى بريطانيا لم يعد لها تلك الصولة والجولة، لأنها أضحت خططها وعملاؤها، تحت مظلة الهيمنة الأميركية بالهراوة والعصا، لذلك فهي غير قادرة اليوم على أي أمر ذي بال يزعزع أميركا، أو يحرك البساط من تحت قدميها. وفرنسا حالها أضعف من حال بريطانيا أمام أميركا. وهذا هو حال بقية دول العالم.
وعلى الرغم من أن العالم يعيش على شفا جرف هار من الانهيار، وعلى الرغم من الفساد المستشري، فإن العالم يخضع لمشيئة الأخطبوط الأميركي. وأميركا تريد صبغة بصبغتها، وتصويره كما ترى هي لا غيرها. وهذا تجلّى في طروح أميركا المتعددة لمحاولة صياغة دستور عالمي شرعته عالمية، ومضمونه أميركا ووجهة نظرها.
ومؤتمر حقوق الإنسان الذي عقد في فيينا، قد طرحت فيه قضايا خاصة بالدول الأخرى، وبسيادتها، مما يناقض سيادة الدول، عن طريق اقتراح مفوض من الأمم المتحدة يتم تعيينه ليرعى حقوق الإنسان المزعومة لدى كل دولة، وليراقب مدى تقيد هذه الدول والتزامها بميثاق هذه الهيئة الدولية.
وقد انعقدت في عمان ندوة تحضيرية لمؤتمر عن المرأة، أقرت فيه حرية التزاوج بين الأجناس، بصرف النظر عن عقائدهم ودياناتهم، وحرية المرأة في اختيار صلاتها وعلاقاتها الجنسية في إطار بيت الزوجية.
وثم مؤتمر يقرر عده في كوبنهاجن، تدور فكرته حول فتح أسواق الدول النامية، لتكون سوقاً استهلاكية لمنتجات الدول الصناعة، ولصناعتها ولوضع الضوابط التي تحول دون نقلة هذه الدول من الاستهلاك إلى الإنتاج.
وأما مؤتمر اتفاقية الجات فتدور فكرته حول إلغاء سيادة الدولة على أسواقها الداخلية، تحت شعار (الحرية التجارية العالمية) وفتح أسواقها بالكامل أمام الواردات الخارجية ولو على حساب الصناعات المحلية أو عدم قيامها ابتداءَ.
وعقد أيضاً مؤتمر عن الطفل، ورأينا كذلك ما حصل في المؤتمر العالمي للسكان والتنمية. وكله من دفع أميركا، وتحت إطار عجلتها. ولا يكفي هذا بل هناك مؤتمر آخر على شكل ندوة، عقد ونوقش فيه نمط الأسواق الآسيوية والإنتاج الآسيوي، واقترحت مقترحات، تؤول إلى مطاردة البقية الباقية، من أفكار الاشتراكية، وتحويل دولها إلى سوق للبضائع، وربطه بالعجلة الأميركية.
ورغم أن أميركا في ضيع اقتصادي، فإنها تحاول أن تفلت من هذا المأزق، ولتوفر الرفاهية لشعبها على حساب الشعوب الأخرى. ورغم ذلك فالشعب غير راض عن سياسة أميركا التي يديرها كلينتون، رغم أنه ألّف كتاباً حول فكرته (أميركا أولاً). ووعوده كانت سخية أثناء الانتخابات، ولكنه لم ينفذ شيئاً بل لم يستطع محاربة الفساد في الداخل على الرغم من محاولته لفرض عقوبة الإعدام، ولكنه لم يشعر الشعب بالاهتمام إلا جزئياً، وأميركا كالديناصور، ما تلبث ضخامته أن تعيقه، ثم يشل عن الصيد فيموت، ولا بد أن يأتي سبع يفرسه ويدق عنقه على الرغم من ضخامته، وقوته. وهو آتٍ قريباً إن شاء الله.
والحقيقة أن المناقشات الدائرة حول الديمقراطية، والعلمانية في البلاد الأوروبية، والكتب التي تحلل الدول سياسياً، وعسكرياً، في شبابها وهرمها، وفي الأسباب الدافعة للحياة، وخصوصاً ما أثير في مقال (فوكوياما) الذي كان متوقعاً له النجاح في جعل نهاية التاريخ تقف عند عتبة الديمقراطية، ورغم تفاؤل المخابرات الأميركية بهذه المقدمة إلا أن الملاحظ أن نتائج النقاش أثارت قلقاً في أوساط المثقفين في الجامعات والهيئات التي زارها فوكوياما، لأن النتائج سلبية إذ كان السؤال المقلق هو لماذا هذا المقال؟ وظن أن الديمقراطية في خطر. وكان كتاب بول كيندي حول أسباب صعود الدول وسقوطها مثيراً للقلق إذ فيه توقعات انهيار أميركا، وأثار بريجنسكي في كتاب له (خارج دائرة سيطرة القرن العشرين) فكرة حساسة حول أن أميركا لم تصدر للعالم قيماً ولا رسالات، وإذا لم تبادر بذلك فإنها ستهوي تحت معاول المد المتصاعد لهلال على حد تعبيره.
وكل هذه الأبحاث والكتب أثارت حفيظة السياسيين، وهم واعون لهذه النقطة، ومن باب الطرافة أن الاقتصاد له الحظ الأوفر من الدراسات، فقد نشرت كتب اقتصادية على مدى أربع سنوات تحاول معالجة الاقتصاد الأميركي والاقتصاد العالمي، ولم تجد هذه الكتب الحول الطويلة المدى بل لاحظت أن العلاجات إنما هي مسكنات آنية ووقتية، وقد حاول هؤلاء إيجاد حل لمشكلة العمال المتمثلة بالبطالة فتخبطوا وتحيروا، لأن المشاكل أصبحت كثيرة والتضخم أصبح ملازماً لهذا الاقتصاد، خصوصاً وأن العالم يعاني ولا زال من جمود عظيم فليس سوى المسكنات، على الرغم من أنه ظهرت كتب جيدة مثل كتاب لكاتبة في الاقتصاد تدعو فيه إلى عودة الذهب كنظام وحيد للعالم (وهي أميركية). ولهذا كله أرادت أميركا أن تثبّت أقدامها بشرعية جديدة، هي صورتها وهي بصمتها وحدها، مستنجدة بالدول الأخرى، وهي متأخرة كثيراً لا شك في هذا الإجراء، وكان يمكن أن يقام في وقت مضى بأسهل من الآن. ولكن أميركا الخبيثة النتنة تريد محاربة الأفكار الإسلامية كذلك، فلم تكتف بطرح المفاهيم على الساحة الدولية بل لجأت إلى ديار المسلمين في أخطر النقاط وأشدها حساسية.
وأما أوروبا فقد ألقي بها خارج الميدان، كي تكون تابعة، وليست مؤثرة. وقد تجلى صرف أوروبا عن قضيتها الوحدوية بإثارة المشاكل الدولية، وتركها معلقة لتقض مضجع الدول هذه كي تسارع للانشغال بها، وما هذا الشد والمد الأخير في مشكلة البوسنة والهرسك إلا مثال على هذا الاشغال والإلهاء، فهي لا تكف عن تكرار مسالة السلاح، على الرغم من أن المسألة أصبحت تحتاج إلى احتواء وإلا تفجرت الأوضاع.
صحيح أن اتفاقية التعرفة الجمركية على هامش (الغات) أحدثت نشاطاً يجذب الرساميل أو الثروات لدى الدول العربية إلى الخارج، ولكن كما تريد الدول الأوروبية، بفرض التعرفة الجمركية، مما شكل إجحافاً بحق الدول العربية ورغم ذلك فقد قبلتها بصغار وذل، وكله لصالح أميركا، إذ أعلنت منظمة التجارة العالمية أنها ستعمل على تنظيم العلاقات الدولية التجارية بين الدول، والبحث في القواعد الإجرائية لتعزيز النشاط الاقتصادي العالمي، والعمل على الحد من الفوارق الاقتصادية والتنموية بين الشعوب وستعمل بتنسيق تام مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
والصين كم بشري هائل تحتاجه أميركا، لجعلها سوقاً للمنتوجات الأميركية، كما تحاول تبرئة الأمور مع اليابان، وقد قبلت اليابان مؤخراً بدعم أميركا كما يظهر إذ اتصلت بعجلة الخطط السياسية الأميركية، حين تدخلت لدعم الدولار في الأسواق في اليابان، وضخت إليها الأموال الأميركية، لتساعد في هذه النقطة، وبإثارة الفضائح في الداخل اقتصادياً. أذعنت الحكومة اليابانية للمطالب الأميركية، وإذا ظل الحال هكذا فستكون اليابان تابعة لأميركا سياسياً واقتصادياً. فالهدف الأميركي من طرح القضايا الاقتصادية بسياسة السوق الحرة والتجارة الحرة وما شاكل ذلك إنما يكمن في تمدد العروق والشرايين إلى الدول الأخرى كي تصبح كما تريد أميركا.
نعم إن الدول الأوروبية الغربية لها مصالحها وهي تسعى منذ قيام البنلوكس إلى قيام المجلس الاقتصادي الأوروبي والسوق المشتركة، للدخول في مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية الضرورية للتخلص من الشرذمة التي وضعتها فيها أميركا، التي سبكتها أميركا عن طريق أحلاف وتكتلات سياسية، وكذلك للتخلص من هيمنة أميركا القوية، لتشكيل كتلة متوازنة معها، ولكن أميركا مدركة لهذه النقطة فهي تشغل أوروبا على الدوام.
وأما حلف الأطلسي فلا يظهر أنه سيحل، بل لا تشجع الرؤية للأحداث على التكهن بمثل هذا الحدث، إذ عولج في موسكو مسألتان: مسألة الدولار، ومسألة حلف الأطلسي وانضواء دول الكتلة الشرقية فيه بعد ضم هذه الدول إلى نطاق روسيا. فهل هذا هو ظاهر المسالة يا ترى؟
المدقق يجد أن حلف الأطلسي ضرورة أمنية لأميركا، وأميركا لها طاقة على معالجة المسائل فلا تريد أن يكون العلاج بيدها هي وحدها، بل إن الضغط كالحبل المشدود فلا يلبث أن ينقطع إذا زيد عليه، وهذا هو وضع أميركا منفرد، ومن ثم فلا بد من إدخال دولة في الوضع الدولي تكون واجهة شكلية مثل روسيا. هذه ناحية، وناحية ثانية هي أن أميركا لا تستطيع أن تتكفل بكل المشاكل دفعة واحدة، فلا بد من أن يكون هناك حماية أخرى لها. وقد أفادت هيئة الأركان الأميركية المشتركة في تقريرها للعام المالي 1984 بما يلي:
«فيما يتعلق بالمسؤوليات الشاملة الملقاة على عاتقنا، فمن الواضح أن القوات الأميركية اللازمة للدفاع في كل مكان ضد أي تهديد وفي أي وقت غير متوفرة مطلقاً… ونظراً لأن قواتنا غير كافية لتنفيذ الاستراتيجية العامة والظروف السائدة والقوى المتوفرة في الوقت المناسب هي عملياً التي توجه أسلوب استخدامنا لقواتنا».
وقد اقترح جفري ريكورد في كتابه (إعادة النظر في الاستراتيجية العسكرية الأميركية) أربع نقاط للمطابقة بين الالتزامات العسكرية الأميركية والقدرات المتوفرة، على الرغم من أنها ليست الوحيدة وهي:
الأولى: توسيع مستوى القدرات العسكرية الأميركية إلى الحد الذي يمكنها من تلبية متطلبات حرب عالمية بما في ذلك دعم الدول الأوروبية والانتشار جنوبي غرب آسيا وفي المحيط الهادئ بالإضافة إلى تعزيز باقي المناطق.
يقول في ص 16: (والخلاصة يبدو أن زيادة حجم القوات مشروع غير عملي، لا من الناحية المالية ولا من الناحية السياسية وليست هي الحل الواقعي لردم الهوة بين الاستراتيجية والقوى اللازمة).
الثانية: أن نقلل من الالتزامات الدفاعية الأميركية الخارجية إلى الحد الذي يمكن للقوات العسكرية حالياً الوفاء بها. وهو غير مجد لأسباب كثيرة.
الثالثة: السعي إلى توفير قدرة متتالية أكبر من القوات العسكرية المتوفرة حالياً عبر إدخال تعديل على أسلوب عمل وزارة الدفاع الأميركية وهو حل مناسب.
الرابعة: تنادي بتوزيع جديد للجهد العسكري داخل المعسكر الغربي ككل بما في ذلك الخطوط العملياتية والجغرافية مع إلقاء مسؤوليات أكبر على الحلفاء بعد أن تحملت الولايات المتحدة العبء الأكبر منها حتى الآن، لتتفرغ الولايات المتحدة لتحرير جيوشها لحماية المصالح الحيوية، وهذا يستدعي بالطبع مقاومة سياسة من الحلفاء للالتزام المادي.
من هذا كله نرى أن هناك إشارات ودلائل على النقطة الرابعة وعلى باقي النقاط شدة وضعفاً. فلنراقب هذه القضايا ع كثب.
الولايات المتحدة سحبت جيشها الخاص من غرب أوروبا، وأقحمت الحلف الأطلسي في المشاكل، وهذا يدل على عدم الرغبة في حل الحلف بالإضافة إلى ما جرى في موسكو كما أشرت آنفاً. ومن ثم فقد ناقش الاختصاصيون الأميركيون ما يدعي (العملية الجوية – البرية المستقلة) وهذا يعني ظهور فكرة جديدة على صعيد التكتيك وهو يرشدنا إلى التقديرات المرتبطة بهذه المسألة.
ولدراسة هذه المسالة بدقة، لا بد من عرض وجهة النظر الأميركية الجديدة في قيادة الجيوش، علماً أنه قد ورد تقرير في الثمانينات يفيد أن مستوى أداء الجيوش الأميركية أدنى بكثير من جيش الاتحاد السوفياتي. ومن العجب أن بريطانيا قد تقدمت بمشروع مماثل لوزارة الدفاع قررت فيه أسلوباً إلى تسريح عدد لا بأس به من الضباط الأوروبيين فاختصر الجهاز الإداري، وطرحت أفكار حول إدماج الجيش، والتنسيق بين أطرافه. والمقترحات الأميركية تدور حول النقاط التي تعيق عمل القوات، وهي قضايا التأمين الفني والمادي لمؤخرة الجيش، وحصر مهام الكتيبة وقدرتها على تنفيذ المناورات، بتجريدها من مسؤولية التأمين الفني والإداري (تأمين المؤخرة) فيفترض أن يكون قائد الكتيبة مسؤولاً فقط عن نوعية الخدمة الفنية للآليات في حدود المهام التي تنفذها الأطقم، وكل ما عدا ذلك يفضل أن يقع على عاتق قطعات التأمين المادي المتقدمة للواء. وهناك سؤال ملح حول أهمية تأمين المؤخرة ضمن الزمن المحدد. كما أن الأنظمة المعروفة للقيادة تقدم معلومات غير كافية لقيادة المؤخرة، التي يجب أن تكون دائماً في صورة الأحداث الجارية، وتتنبأ بالتبدلات الحادة في مجرى المعركة، مما يسمح باتخاذ التدابير الضرورية المناسبة، وتعديل حجم الاحتياطات المنقولة ومعدلات استهلاكها، وضمان أن نص الوقود والزيت والذخائر وقطع الغيار لن يكون سبباً في خفض الإمكانات القتالية للقوات.
وهكذا فإن المسألة الجوهرية هي عامل قيادة القوات وتوزيع الصلاحيات، وتأمين الاتصالات إعلامياً بين كافة النقاط والمراكز والقوى. ولا يخفي مدى تأثير هذه القضايا على المعارك.
ونحن نرى اليوم أن شيئاً من هذا قد حدث في حرب الخليج، واستكملت التجهيزات الباقية اليوم، ذلك أن القوات الأميركية قد دربت تدريباً جديداً كما يشار في المجلات الاستراتيجية. ويهمني أن أشير إلى مقالة لسيث كروبسي بعنوان (الرادع الفاعل الوحيد) في عدد آذار – نيسان 1994 من مجلة (شؤون خارجية) الأميركية. وهو رجل عمل في البنتاعون في إدارة بوش وريغان، وهو حالياً مدير الدراسات الآسيوية في مؤسسة (هيرتيج فاونديشن) وبعد عرض مطول يتوصل إلى أن الولايات المتحدة ينبغي أن تستخدم أسلحتها التقليدية كرادع. ويلفت النظر إلى منظومة صواريخ كروز باعتبار أن لديها كثيراً من العناصر الأساسية التي يمكن أن توفر رادعاً تقليدياً ضد تهديد نووي، مما يجعل هذا الصاروخ يردع دولاً من استخدام أسلحة نووية إلى تجنيب الولايات المتحدة الأميركية الحاجة لرد انتقامي باستخدام ترسانتها النووية.
وعلى كل حال يلاحظ حالياً التركيز على مسائل معينة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة اليوم، ونستطيع أن نحصرها هنا في المجالات التالية:
1- إن حلف الأطلسي تحرص على عدم حله، فهو يستطيع أن يتكفل بالمشاكل الأوروبية، أو المشاكل التي تريدها أميركا أن تحل بوساطته فحسبن وهذا يؤمن انفراد أميركا بالمشاكل الحيوية أو الدولية التي تمس مصالحها الحيوية، كما يجعل أوروبا تقوم بالتكاليف مما يخفف الأعباء على الولايات المتحدة.
2- إن أميركا تحرص على عدم إبراز التوتر في المناطق التي تقع في مجالها هي، فالمناطق التي لا يمكن التدخل فيها يجب ألا تظهر فيها التوترات، ولأنها من جهة ثانية لا تستطيع التدخل بشكل مباشر فيها، كالمشكلة في شبه الجزيرة الكورية أو مشكلة الشرق الأقصى.
3- إن الأفعال السياسية الصادرة حالياً تشير بشكل مباشر (مشكلة العراق) إلى أن صفقات السلاح للسعودية إن هي إلا تخزين أسلحة حديثة بشكل مستور لأميركا نفسها، مما يخفض تكاليف النقل، ومن ثم تأتي الخطوة الأساسية وهي سرعة الحضور إلى منطقة الشرق الأوسط (خصوصاً الخليج) ومن ثم فقد تغيرت الجغرافيا السياسية الحالية، وأصبحت النظرة مرتكزة إلى أماكن تركز البترول في الخليج. وهذا يعني على المدى القريب أو البعيد فرض الحصار على هذه المناطق (السعودية – الإمارات – الكويت – الخليج) وخلق منطقة معزولة عن التدخلات الأخرى، وتركيز الأعمال السياسية على نزع العمالات الإنجليزية والإتيان بعمالات لأميركا. ومشكلة اليمن هي امتداد لهذا المخطط الجغرافي السياسي.
4- لم تحرص أميركا على إزالة قواعدها حول الأماكن المعروفة قبل هدم الاتحاد السوفياتي بل أوجدت قواعد أخرى، وتريد فتح معابر وممرات استراتيجية على جميع نقاط المنافذ الخطرة في العالم، إبتداءَ من باناما، وانتهاءَ بالخليج. مع الحرص على المواقع الجزيرية المتقدمة في جنوب العالم وأطرافه. وأهمية الجزر أنها تؤمن قاعدة انطلاق تمنع القوات من التراجع، وتوجد حماية متقدمة للجيش الأميركي، علماً أن الأحلاف العسكرية وهي تقارب أربعة وأربعين حلفاً كانت قبل وجود الاتحاد السوفياتي، والقصد منها تطويقه، هذه الأحلاف لم تلغها أميركا، فظلت وكأنها موجودة وهي رؤية لها أثرها البعيد.
5- إن محاولة نزع السلاح النووي، وتحجيمه هي من المحاولات التي تدخل في إطار التخطيط الاستراتيجي الحالي لأميركا. فالسلاح النووي لم يعد له جدوى بالحجم الضخم لدى أميركا، وهي تحتفظ بترسانة ضخمة، وتلجأ إلى تفكيك ترسانة روسيا وجعل الدول الأخرى تحت المراقبة كيلا تهدد أميركا.
6- إن مشكلة الصين هي مشكلة حيوية بالنسبة لأميركا، فهي كم سكاني وهي ترفض الرأسمالية سياسياً، وتصر على عدم تعرضها لما تعرض له الاتحاد السوفياتي، وقد خرجت اللجنة السياسية المشكلة لتبيان ما يحدث في ضوء انهيار الاتحاد السوفياتي، خرجت بدراسة إلى أن العمل الأيدلوجي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار العوامل التالية:
1- ضمان التمييز الواضح بين الاشتراكية العملية وبين الاشتراكية الديمقراطية الغربية.
2- تجنب التسويات والحلول الوسطية التي تؤدي إلى قيام نظام التعددية الحزبية.
3- ضمان سيطرة الحزب على القيادة السياسية لجيش التحرير الشعبي.
4- تحديد الحدود التي تفصل بين الاشتراكية الصينية وبين الرأسمالية بشكل واضح.
ومن ناحية ثانية فالعدد السكاني يفيد في فتح الأسواق أمام بضائع الولايات المتحدة الأميركية، وهي من المطالب المقدمة حالياً، وحقوق الإنسان المزعومة إنما القصد منها الضغط على الصين لتحرر الأفكار، ولتأدية متنفس للأفكار الرأسمالية. والصين تخيف أميركا اليوم من الناحية العسكرية، فقد شهدت الفترة الأخيرة نشاطاً ملحوظاً للأسلحة في الصين من روسيا وإسرائيل، والتجارب لتطوير الأسلحة بشكل استراتيجي هام، وكذلك إنشاء جيش تدخل سريع، ومن الملاحظ أن المسؤولين الصينيين يقولون: إن بلادهم في المستقبل ستكون دولة عظمى اقتصادياً ولذلك ينبغي أن تكون دولة عظمى عسكرياً، كما أن المؤتمر الشعبي الوطني (البرلمان) رفع نسبة موازنة الصين العسكرية إلى 22% في شهر أيار الماضي.
فالوضع حساس في هذه البقعة من العالم. وإن صورة الموقف الدولي الحالي لا تبعث على التفاؤل بالنسبة إلى صانعي السياسة في أميركا، وهذا ما سيكون محوراً للصراعات المتوالية، في مناطق كثيرة في العالم. فأميركا لم يهمها السلاح النووي سابقاً ولن يهمها اليوم إلا بمقدار استعراض العضلات، ولذلك فإن تركيزها إنما ينصب على الأسلحة التقليدية وبخاصة الأسلحة ذات الدقة العالية، وكذلك فإن الملاحظ من التصريحات الأخيرة لوكيل وزارة التجارة الأميركية، المسؤول عن شؤون التجارة الدولية، أن الأسواق الناشئة الضخمة كأسواق الصين والهند وإندونيسيا ستكون مسرحاً لصراع دموي على حد تعبيره. وأن الشركات الناشطة في الدول الصناعية ستتنافس على الأسواق والعقود الحكومية. وقال جفري غارتن المشار إليه (إن السياسة التجارية المندفعة التي تتبنّاها وزارة التجارة الأميركية تندمج في السياسة الخارجية الأميركية على نحو لم يحدث في الماضي. وستواصل الحكومة الأميركية الدفاع عن حقوق الإنسان، لكنها صارت تقبل الحجج الآن التي تقدمت بها الأوساط الاقتصادية في الماضي، وهي أن التعامل التجاري يخدم الأغراض الخاصة بحقوق الإنسان).
وهذا الكلام يعني أن أفكار أميركا ستدور حول الأغراض الاقتصادية كذلك فضلاً عما تروج له وتدعو إليه، لوضع أساس جديد دولي.
وقد أشار غارتن أيضاً إلى أن الغرض من تجنيد الإدارة الأميركية للأموال والموارد الحكومية، هو شن هجوك كاسح صاعق على عشرة أسواق ناشئة كبيرة تشمل البرازيل والأرجنتين وكوريا الجنوبية، وجنوب أفريقيا وبولندا وتركيا والمكسيك إلى جانب الصين والهند وإندونيسيا.
وعدم إشارته إلى منطقة الشرق الأوسط يعني أن هناك مخططاً لهذه المنطقة خاصاً، ومستقلاً عن جميع المخططات الأخرى. وعلى كل حال يقول: (لكن الارتباطات الأهم الآن وفي المستقبل ستكون لا مع رجال يلبسون اللباس العسكري ويحملون السلاح بل مع رجال ونساء يلبسون الأردية الزرقاء ويحتضنون أجهزة الكومبيوتر) ويقول أخيراً: (إن علينا أن نشعر الدول العشر وغيرها من الأسواق الناشئة بأن منظمة التجارة الدولية الأميركية تتحسس بمصالحها، لأن هذه الدول تملك أسواقاً داخلية ضخمة، وعليه بوسعها إبطاء اندماجها في الاقتصاد العالمي، لا سيما الاقتصاد العالمي الذي يحتمي بتدابير الحماية أكثر مما بوسع الدول الأصغر أن تستغني عن العالم).
والعبارة الأخيرة توضح أن الاقتصاد العالمي إنما هو مرتبط بما يقوله المحللون الاقتصاديون عن ركود اقتصادي عالمي، ولذلك فإن السياسة الأميركية تسعى على ما يظهر على فتح هذه الأسواق الضخمة ليسير الاقتصاد العالمي بشكل نشط، من خلال الدول التي أشار إلهيا غارتن، بينما تكون منطقة الشرق الأوسط مجالاً اقتصادياً آخر، يمثل الشريان الرئيسي الأميركي، نظراً للمصالح الخاصة، ومن هنا اهتمت أميركا باتفاقات اقتصادية إقليمية كما حدث على هامش اتفاق الغات في المغرب، وكما يحصل حالياً من اتفاقات، وكذلك اهتمت بدفع عملية السلام إلى الأمام ولإبرام الاتفاقات بشكل خاص، وإلى الحل الاقتصادي المتعلق بإسرائيل. فاليهود عملياً مختنقون اقتصادياً، وهذا يضرب المصلحة الأميركية للدخول إلى الشرق الأوسط، فلذلك لا بد من تحريك الأسواق اليهودية في المنطقة، عبر الاستثمارات والأسواق الخاصة في البلدان القريبة والبعيدة، مما يجعل موطئ قدم أميركا سهلاً على أرض صلبة كي تقتحم هذه الأسواق بفتح يهودي مبين.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن النفط هو عامل غير مستقر في الأسواق، يؤثر في أوضاع الدول الصناعية وعلى رأسهم أميركا، فلا بد من فتح شرايين نفطية خاصة بالولايات المتحدة. يقول تقرير الكونغرس المعنون بـ (الجغرافيا السياسية للنفط) ص16: (… يجب أن ينظر إلى سياستنا الخارجية والدفاع بأنها جزء من سياستنا للطاقة، مثلها مثل برامجنا التقليدية، لتخفيض الواردات النفطية). ويقول ص14: (وسوف يزيد توقع حدوث ركود اقتصادي ناتج عن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في كثير من الدول النامية، مما يخلق مشكلات خطيرة في السياسة الخارجية الأميركية).
وتشعر الولايات المتحدة بخطورة النفط وهي تحاول رسم سياسة على المدى البعيد، فإحدى التوصيات في التقرير المذكور تتضمن أنه يجب أن تقوم الولايات المتحدة ببناء احتياطي محلي من النفط، وذلك بسد نقص احتياطي النفط الاستراتيجي بأسرع ما يمكن، وتشجعي التخزين الخاص للنفط والمنتجات النفطية. وأنه يجب أن تقوم أيضاً بتطوير خططها بالتشاور مع حلفائها للاستعداد لمواجهة أي طوارئ في الطاقة. ويقول التقرير: (وبالنسبة للمدى الطويل يجب أن تركز السياسة الأميركية في المنطقة على نقاط أساسية ومحددة، إذ يجب على الولايات المتحدة أن تجعل الحكومات المحلية معتمدة عليها في تحقيق أمنها الداخلي، ومن أجل تحقيق ذلك، يجب أن تتبنى الولايات المتحدة وحلفاؤها برنامجاً مشتركاً لزيادة المعونة العسكرية والتدريب العسكري للدول الصديقة بالشرق الأوسط، وذلك لدعم قدرتها على القضاء على القلاقل الداخلية وللدفاع عن نفسها في النزاعات الإقليمية).
والتوصية الرابعة تتضمن أنه يجب على الولايات المتحدة بالاتفاق مع حلفائها دفع البرامج الخاصة وتدعيمها بالإسراع في استكشاف النفط وتنميته خارج منطقة الشرق الأوسط (المكسيك وفنزويلا).
وقد نظر التقرير إلى أهمية دفع عملية السلام، لإيجاد الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط مما يسبب ارتفاعاً في الأسعار النفطية، أو حظراً نفطياً، أو ربما يقلل عدم الاستقرار من قدرة الولايات المتحدة على التأثير في قرارات الإنتاج والتسعير التي تتخذها الحكومات المنتجة، بسبب حساسية الرأي العام في تلك البلاد، وكذلك حساسيات الدول المنتجة فيما بينها مما ينتج ردود أفعال، تشكل اختلافاً في السياسيات واستقلالية فيها. وكذلك احتمال استخدام النفط كسلاح سياسي.
وكذلك يمكن القول إن التخطيط لهذه المنطقة هو على المدى البعيد، فلذلك لم تدع الولايات المتحدة نفسها عرضة لخطورة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً أن الوضع الحالي لا يجر خيراً لها، من تصاعد المد الإسلامي، وهو أمر لا يمكن ضبطه، لأنه من حياة الأمم والشعوب حين تحمل أفكاراً، ووجهة نظر في الحياة.
ومن هذا كله نستطيع أن ندرك دندنة أميركا ووجه الصراع الأوروبي – الأميركي.
إن أميركا تحاول أو توجه العالم وتقوده لحمايتها، فهي قد جعلت من نفسها جزيرة القلب، ومركز العالم، ولا بد من أن تربض في رفاهيتها، وحلمها الذهبي كما يخيل لها، والجميع سينصاع لها.
ولكنها رغم كل شيء لن تستطيع الانفراد، بمشيئة الله، لأنه ما من دولة حملت فكرة فاسدة وطال أمدها، أو استطاعت الانفراد، حتى بريطانيا لم تكن لتستطيع الانفراد بالعالم كله، رغم أنها استطاعت أن تتسنم مركز الدولة الأولى فترة لا بأس بها. ولكن الذي أثبت فاعليته هو المبدأ الإسلامي، الذي تمثل في دولة تسلّمت أزمّة العالم القديم بأسره، وكانت منفردة بلا منازع في المسائل الدولية، ورغم وجود الدول الأخرى فلم تستطع واحدة منها أن تنافسها مجرد منافسة على مدى طويل. وإن الله قضى أن جولة الباطل ساعة وأن جولة الحق إلى قيام الساعة. فهل تعرف أميركا ودول الكفر ذلك.
إن منقطة الشرق الأوسط تحتوي ليس على النفط فحسب، بل على ثروات العالم بأسره، من الذهب والفضة واليورانيوم والحديد والنحاس والبوتاس والزنك والأحجار المتنوعة والألمنيوم، والرمال المستخدمة في الإلكترونيات الدقيقة، والثروات البحرية، وكثير مما لا يعلمه إلا الله. والأردن تخفي أمر ثروتها الدفينة، والسعودية تظهر أن لديها 800 منجم ذهب، وهي تحتوي على أربعين ونيّف من الخامات المعدنية، فمثلاً الحديد لديها ما يكفي حاجة العالم منه خمس سنوات بوفرة كما صرح هشام ناظر. وقد عرضت الخامات في كتاب صدر في بريطانيا بإشرافه.
وأما أمر الثروات في البلدان الأخرى فيحتاج إظهاره إلى غير هذه العجالة. وليفهم الحكام العملاء أن الإسلامي دين وليس لعبة أو سخرية. وليعلم كل الكفرة في الدنيا أن العقيدة الإسلامية، إذا غذى بها إنسان تجعل منه قنبلة أقوى من كل ما صنعته أيديهم من قنابل، وأن موقف المسلم إذا صحا لن يكون ذلاً ومهانة أو خيانة، بل سيكون موقف السيف لا ينبو إذا هززته، وكالجواد لا يشق له غبار، وكالذرة تتحطم إلى تريليونات من أمثالها لتفرز طاقة هائلة هدّراة.
فما لو تمسكت الأمة بعقيدتها؟ عند ئذ لن تنفعهم أسلحتهم وسيكونون أقزاماً، وسيخنقون بعهرهم وفجورهم وبغيهم وبكل غرسة زنيمة غرسوها.
الله مولانا ولا مولى لهم، والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) ¨
1994-12-31