بقلم: م. حمادي
منذ أربعينات هذا القرن وهدف السياسة الأميركية في أوروبا هو حفظ توازن القوى بين دولها ومنع أي سيطرة سوفياتية على القارة. وقد كانت السياسة الإستراتيجية الأميركية تعتمد على ما يمكن أن نسميه بـ”الردع المزدوج”. ردع الاتحاد السوفياتي وردع ألمانيا. أما ردع ألمانيا فنعني به مواجهة خطر عودتها كدولة كبرى تمتلك قوة عسكرية ضاربة تمكنها من الإخلال بالتوازن في أوروبا بل وربما منافسة أميركا دولياً، والإستراتيجية الأميركية تجاه ألمانيا تمثلت في ربطها بالمنظمات الغربية وفي مقدمتها الناتو، وجعلها جزءاً من المعسكر الغربي الذي كانت فيه أميركا حينذاك القوة المهيمنة، وأما تجاه الاتحاد السوفياتي فكانت” إستراتيجية الردع” متمثلة في الاستعداد العسكري لإحباط أي محاولة لإيجاد الشيوعية في أوروبا الغربية أو تهديد أمن هذه الدول وحتى بعد أن وصل الأمر إلى مرحلة الوفاق ظلت الولايات المتحدة تتبع ظاهرياً نفس السياسة مع بعض التغيرات في مسميات هذه الإستراتيجية حتى تتمكن من الاستمرار في استخدام الخطر الشيوعي كفزاعة للأوربيين لكي تحافظ على مشروعية بقائها القوة المهيمنة في أوروبا.
وبانهيار الاتحاد السوفيتي واستعادة ألمانيا لسيادتها فإن تغيراً أساسياً في الواقع الذي تواجهه السياسة الأميركية تجاه أوروبا قد حدث واقتضى ذلك وضع سياسة جديدة تجاهها. ولفهم هذه السياسة والتي هي سياسة إدارة كلينتون تجاه أوروبا لا بد من أن نلقي نظرة أولاً على الحوار الذي حدث في أوساط الفكرية والسياسية في أميركا حول السياسة التي ينبغي اتخاذها مع أوروبا خاصة وأن بعض أصحاب هذه الأفكار يعمل كمستشار للإدارة الأميركية الآن.
في هذا الحوار يمكن للمرء أن يميز بين ثلاثة مدارس فكرية سياسية (توجهات سياسية):
1- مدرسة الهيمنة الدولية.
2- مدرسة القومية شبه الانعزالية.
3- مدرسة الليبرالية الدولية.
حيث أن كل مدرسة تستخلص نتائج مختلفة من تغير الموقف الدولي واختفاء الخطر الشامل (خطر حرب شاملة مع المعسكر الشرقي) وترى حلولاً متعددة، ويمكن أن نعتبر الاتجاهان الأول والثاني امتداداً للمدرسة الواقعية بينما الثالث يمثل وجهة النظر الليبرالية وهذا ما يقتضي الحديث المقتضب عن الواقعيين قبل استعراض تلك المدارس.
المدرسة الواقعية:
تعتبر المدرسة الواقعية أن طبيعة النظام الدولي طبيعة فوضوية، حيث يكون العامل المؤثر والهام ي هذا النظام الدولي هو سعي الدول لامتلاك أكبر قوة ممكنة، وبقاء الدول في تقدم وسعادة يكون مرتبطاً بنجاحها في حفظ أمنها القومي تجاه كل الأخطار المحتملة، وبزوال الخطر الذي كان يواجه الجميع (خطر المعسكر الشيوعي) نشأت وفق المدرسة الواقعية أخطار جديدة، فالدول الأوروبية يمكن أن تسلك سلوك المنافس لأميركا بل والخصم لها. كما أنه يمكن أن تنزلق دول أوروبا في صراع لتتقاسم المزايا الناتجة عن عملها المشترك في المجال الاقتصادي (السوق الأوروبية)، مما يؤثر على مصلحة أميركا المتمثلة في أن تكون التجارة حرة والاقتصاد الدولي ليبرالياً. ولذلك يرى الواقعيون أن أميركا تجد نفسها في مأزق أساسي، فهم يخشون إحياء القوميات وتآكل العمل الأوروبي المشترك، ولكن في ذات الوقت فإن مزيداً من التقارب بين دول أوروبا يمكن أن يؤثر سلبياً على مصالح أميركا، وبالتحديد تخشى أميركا عودة ألمانيا كقوة عالمية تطمح لامتلاك قوة نووية وأيضاً يخشى الواقعيون أوروبا المتحدة كقوة عسكرية منافسة للقوة الأميركية. ولذا يرى أصحاب المدرسة الواقعية أن لا مناص من ربط ألمانيا عن طريق تشجيع التقارب الأوروبي ومن أن تحتفظ الولايات المتحدة الأميركية بتواجدها العسكري حتى تمنع هذا الاستقرار أو نشوء قوة كبرى في أوروبا تهدد المصالح الأميركية وعلى أميركا أن تؤثر بشكل إيجابي في منع الآثار السلبية (الأخطار) التي تنتج عن العمل الاقتصادي المشترك وعلى هذا الأساس يجب الحفاظ على تواجد عسكري قوي لأميركا في أوروبا مما يعني ضرورة بقاء حلف الأطلسي.
مدرسة الهيمنة الدولية
مدرسة الهيمنة الدولية ترى أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمتلك بذاتها اقتصادياً وعسكرياً مقومات القيادة كدولة عظمى وبالتالي عليها أن تمارس دوراً مهيمناً في السياسة الدولية وعليها أن تدافع عن مكانتها الدولية ضد تصاعد قوة اليابان وألمانيا وروسيا أو أوروبا المتحدة وغيرهم، ويجب أن تمنع كل قوة أياً كانت من التحكم التام في أي منطقة في العالم قد تمكنها مواردها المالية من أن تصبح يوماً ما قوة عالمية، وهذه النظر تقتضي من أميركا وإن سمحت بمشاركة الآخرين في الأعمال السياسة على الساحة الدولية إلا أنها لا يصح تحت أي ظرف أن تتنازل عن حق التصرف الفردي تجاه مجمل الأحداث الدولية.
وعلى الولايات المتحدة أن تحافظ على حلف الناتو كأداة للتأثير السياسي في أوروبا وعليها أن لا تعطي الفرصة لأوروبا لتحويل الناتو إلى مؤسسة أمنية أوروبية أو تقليص دوره واستبدالها بنظام أمني أوروبي آخر. وترى في توسيع دائرة السوق الأوروبية المشتركة عن طريق زيادة عدد الأعضاء وتبسيط العلاقات بين الأعضاء بديلاً عن السير في اتجاه الوحدة الشاملة وتقوية العلاقات، وأما التدخل العسكري في الصراعات سواء داخل أوروبا أو خارجها فيكون فقط عند احتمال إخلاله بالتوازن الدولي أو الإقليمي.
المدرسة القومية الانعزالية
وأما المدرسة الانعزالية فهي تقول بوجوب إعطاء السياسة الداخلية الأولوية مقابل الخارجية وأن تقوم الولايات المتحدة بدور متواضع في السياسة الدولية على أن ترتكز هذه السياسة على المصالح الأساسية والهامة لها، وأن نشر الديمقراطية والحفاظ على توازن القوى داخل المجتمع الدولي لا تصح أن تكون الأهداف الأساسية للسياسة الأميركية. أما المصالح الحيوية التي تعتبرها هذه المدرسة أهدافاً أساسية فهي استقلال الولايات المتحدة والحفاظ على الأمن القومي بمفهوم الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي الأميركية، وبعد زوال الخطر الشيوعي واحتمال الحرب النووية الشاملة فإنه لا يوجد تهديد لها وبالتالي فإن المبرر لنشاط خارجي للسياسة الأميركية على مستوى العالم كله لم يعد قائماً، إلا أنهم لا يعنون بذلك الانسحاب كلياً من السياسة الدولية ولا التنازل التام عن التدخل العسكري، بل المقصود بالدرجة الأولى أن تكون أميركا لها الحرية التامة في التصرف غير مرتبطة بأي تكتلات أو أحلاف دولية، وهم يرفضون الاشتراك في أية أنظمة للأمن الجماعي نظراً للالتزامات والمخاطر المصحوبة بذلك والتي قد تؤدي إلى الانزلاق في صراعات لا تمثل تهديداً للمصالح الحيوية الأميركية.
المدرسة الليبرالية
المدرسة الليبرالية تنطلق من النظرية القائلة بأن “اختلاف أنواع أنظمة الحكم القائمة في دول العالم يؤثر إلى درجة كبيرة على طبيعة العلاقات بينها”، مثال ذلك مشكلة تهديد الأمن القومي عسكرياً لم يعد لها وجود بين الدول الديمقراطية، ولذا فهم يقولون بوجوب دعم الديمقراطيات في العالم. ويرون في تشابك العلاقات الاقتصادية وازدياد الاعتماد المتبادل في التجارة الدولية وكذلك تنامي دور المؤسسات الدولية ووجود المعايير الدولية كالقانون الدولي والاتفاقيات الدولية أمراً إيجابياً ذا شأن كبير في السياسة الدولية يجب أن يشجع، ويرون استحالة عودة أنماط العلاقات الدولية التي سادت العالم قبل الحرب العالمية الثانية بين الدول الديمقراطية في أوروبا، وبشأن الدور القيادي لأميركا فإنه أمر حتمي وحيوي للعالم ولا بديل عنه ومن واجب الولايات المتحدة أن تقوم بتنسيق التعاون الدولي ودعم المؤسسات الدولية.
من حيث الموقف من حلف الأطلسي يعتقد الليبراليون أن تأمين دور أميركا من خلال مؤسسة تحفظ تأثيرها في أوروبا أمر ضروري ولكن ليس من المحتم أن يكون الناتو هو هذه المؤسسة، وتختلف التصورات حول ذلك فمنهم من يرى تعديل الناتو إلى نظام للأمن الجماعي، وهناك من يجد الحل في دعم مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، وآخرون يقترحون إنشاء منظمة جديدة وغير ذلك. إلا أن مجمل هذه التصورات يقوم على فكرة أساسية هي وجوب بقاء أميركا عسكرياً في أوروبا على المدى الطويل من خلال منظمة للأمن الجماعي تفتح أبوابها مستقبلاً لدول أوروبا الشرقية واستعداد الليبراليين للتدخل العسكري حتى في غياب مصلحة حيوية لأميركا أكبر من أصحبا المدرسة القومية الانعزالية.
بعد الاستعراض المختصر لهذه الاتجاهات الفكرية المختلفة يجد بنا الإشارة إلى أن الممارسة العملية للسياسة الأميركية لا تعتمد توجهاً فكرياً واحداً مهما كانت توجهات الإدارة الأميركية فالجمهوريون مثلاً أقرب إلى مدرسة الهيمنة الدولية ولكن لم تخل سياستهم من أعمال ذات مرتكزات فكرية من المدرسة الليبرالية وكذلك الإدارات الديمقراطية مارست سياسات جذورها تكمن لدى الانعزاليين بينما هم محسوبون على المدرسة الليبرالية ولعل السبب يعود في ذلك إلى أن التنظير الفكري يميل إلى التجريد والتبسيط حتى يتسنى له التغبير عن الواقع السياسي المعقد.