من السيرة: صورة من المجتمع الإسلامي
1996/03/30م
المقالات
2,326 زيارة
بقلم: م. حمادي
بعد أن مَنّ الله على المسلمين بتحسس الطريق للنهضة والعمل لتمكين الإسلام، حريٌ بنا أن نجعل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة عليهم رضوان الله موضع القدوة والأسوة لنرى كيف كان استقبال المسلمين لأوامر الله عز وجل، وندرك حسياً كيف أن حياة المسلم يجب أن تكون من أجل إظهار الإسلام وجعله الحكم الفصل في حياة البشرية.
في هذا السياق نستعرض سوياً قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا وهم: كعب بن مالك، ومُرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي.
أما قصتهم فنترك روايتها لكعب بن مالك رضي الله عنه، وقد وردت هذه القصة في صحيح مسلم والبخاري وكذلك في سيرة بن هشام، وأوردها القرطبي في تفسيره رحمه الله.
[قال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط. إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر. ولم يعاتب أحداً تخلف عنه… وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً. واستقبل عدواً كثيراً.
فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم. فأخبرهم بوجههم الذي يريد. والمسلمون مع رسول الله كثير لا يجمعهم كتاب حافظ].
ظروف المعركة
استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بداية موسم قطف الثمار بالمدينة حيث الظلال الوارفة والثمار الوفيرة إلى معركة طريقها مفازاً شديد الحرارة قليل الماء، ينتظرهم عدو كثير العدد والعدة والسلام، فتستجيب الأمة بكاملها إلا نزراً يسيراً، مما يعلمنا أن الاستجابة لأمر الله عز وجل يجب أن تكون سجية من سجايا الأمة أفراداً وجماعات في جميع الأحوال والظروف.
القائد وتهيئة الظروف لنجاح العمل
وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن مكان المعركة وظروفها القاسية ترشدنا لمسؤولية القائد عن أمته، وتهيئتها لمهمتها واتخاذ العدة اللازمة، وليس كما يفعل حكام اليوم من خداع للأمة وإيرادها موارد الهلاك، بل والتآمر عليها مع أشد أعدائها.
ما هي مشكلة كعب بن مالك رضي الله عنه مع وجود هذا العدد الكبير من المقاتلين؟
حقيقة المشكلة تتضح عندما نقف على هذه الرواية «قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين سأله رجل من أهل الكوفة عن خبر الخندق: يابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق. وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع – يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة – أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم، من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا».
فقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني» وكذلك قول كعب بن مالك رضي الله عنه: «غير أني تخلفت في غزوة بدر. ولم يعاتب أحداً تخلف عنه… » يوضح لنا الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية، ففي حالة استنفار الخليفة المسلمين للجهاد، أو تعيينه لأشخاص بعينهم، وجب الجهاد في حقهم، وإن كان قتال الكفار ابتداءً فرض كفاية.
ولهذا كان تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك، وهو تخلف عن القيام بفرض عين. فوقعت الواقعة وكان ما سنراه من هذه القصة.
قال كعب بن مالك رضي الله عنه:
[فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه. وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت. فلم يزل ذلك يتمادى بن حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه. ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت].
ما الذي جعل كعباً يفضي إلى هذا المصير وهو التخلف عن خير رفقة وخير موكب وخير مسير؟
إن الجواب الواضح أنها تلك الكلمة المخذلة التي كم عاقت نية صالحة صادقة متوجهة إلى الخير.
يروى أن أحد الصالحين حضرته الوفاة، فسأله الناس قالوا له أوصنا، قال أنذرتكم (سوف).
هذه هي الذارة من يشرف على الآخرة ويودع الدنيا نعم كم عاقت (سوف) المسلمَ عن التوبة والإقلاع عن الذنب أو عطلته عن القيام بالواجب. ولا يزال الإنسان يقول سوف افعل وسوف أؤدي وسوف وسوف، حتى يتفارط العمر وتنتهي الأيام ويفضي الإنسان إلى ساعة لا ساعة بعدها.
المبادرة إلى الطاعات هي طريق النجاة
انظر إلى موقف كعب الذي خذلته (سوف)، وقارنه بحزم أبي خيثمة رضي الله عنه: [فهو كما أخرج الطبراني في معجمه تخلف عن أوليات الغزو، فدخل بستانه فإذا له زوجتان في هذا البستان قد عمدت كل منهما إلى عريش فرشته ليبرد لأن الدنيا قد تلظت واستعرت من الحر، ثم فرشت له فيه ثم قطفت له من خير الثمر وانتظرته فيه، فدخل أبو خيثمة فنظر إلى عريشين مرشوشين، في كل عريش امرأة حسناء، وطيب الطعام فماذا صنع أبو خيثمة؟ مع أن الجيش قد تفارط. فقال أبو حيثمة لنفسه: أبو خيثمة في بستانه وبين زوجتين حسناوتين وعريشين مرشوشين وطعام طيب ورسولُ الله يضرب في نحر هذا القيظ تلفحه الشمس. والله لا دخلتُ عريشَ أحد منكما حتى ألحق برسول الله. ثم عمد إلى ناضحة أي البعير الذي يسقي عليه في البستان، فحله ثم جمع عليه طعامه وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدرك رسول الله إلا في تبوك. ننظر النبي فإذا رجل من بعيد مقبل فقال الصحابة يا رسول الله هذا رجل جاء مقبلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة»، فلما استبان لهم قالوا هو أبو خيثمة يا رسول الله. فلما وصل روى لرسول الله خبره فدعا له بخير).
بل قارن العزم الذي يجب أن يتحلى به كل مؤمن بموقف أبي ذر رضي الله عنه.
أبو ذر سار مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه كان رجلاً رقيق الحال، فكان معه جمل ضعيف أعياه مسيراً، وفي أثناء الطريق انقطع به جمله، وعذره الله، فماذا فعل، هل قال أرجع أو أجلس مكاني حتى يرجع إليّ المسلمون، كلا لقد كان رجلاً أيداً شديداً فما كان منه عندما تلوم عليه جملة وشعر أنه سيعوقه إلا أن جمع متاعه من فوق ظهر الجمل وجعله على ظهره انطلق يمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه هو الآخر إلا في تبوك. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإذا رجل يقبل ماشياً يبين بين السراب، فقالوا يا رسول الله هذا رجل قد جاء راجلاً مقبلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر»، قلما تبينوه قالوا هو، فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده». فانظر كيف نفع الحزم أبا خيثمة وأبا ذر، بينما التسويف كان يهلك كعباً الذي كان قد أجمع أمره ولكن عاقه التسويف.
قال الإمام ابن القيم: ينبغي للمؤمن أن يهتدل ساعة إقباله إلى الطاعة، فيبادر إليها فإنه إذا وفق في الطاعة فتركها فإنه يخشى أن يصرف قلبه عنها ويحال بينه وبينها. قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
مدى استجابة الأمة
يقول كعب رضي الله عنه: «ثم لم يُقدر ذلك لي. فطففت، إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أن لا أرى لي أسوة. إلا رجلاً مغموصاً على النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء».
هكذا كانت استجابة الأمة، فلم يبقَ في المدينة إلا أهل النفاق وأهل الأعذار.
الإيمان والصدق
وقال كعب بن مالك: [فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرني بثي فطففت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي. فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل. حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً. فأجمعت صدقه. وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً. وكان، إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين. ثم جلس للناس، فما فعل ذلك جاءه المخلفون. فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له. وكانوا بضعة وثماني رجلاً. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم. وبايعهم واستغفر لهم. ووكل سرائرهم إلى الله. حتى جئت. فلما سلمت، تبسم تبسم المغضّب، ثم قال: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه. فقال لي: «ما خلفك؟ أمل تكن قد ابتعت ظهرك؟»، قال قلت يا رسول الله إني والله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلاً. ولكني والله! لقد علمت، لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسخِطك علي. ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذر. والله ما كنت قط أقوى ولا ايسر مني حين تخلفت عنك].
الإيمان والاستنارة في التفكير جعلت كعباً لا يغيب عنه أن غاية المسلم هي رضوان الله وليس رضى الناس حتى وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر قوله رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله»، وجعلته يدرك أنه عبدٌ لمن لا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفقهه لدينه رضي الله عنه جعله يختار الصدق ويعلم علم اليقين أن لا ملجأ من الله إلا إليه.
وهذا ما يجب أن يكون حياً في أذهاننا، وواقعاً في حياتنا، يقول الإمام القرطبي: حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال والإخلاص في الأعمال والصفاء في الأقوال، قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صِدّيقاً».
وعقب الله تبارك وتعالى بعد سرد قصة هؤلاء المخلفين بقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
موقف الحاكم من المنافقين في المجتمع
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«أما هذا فصدق. فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت.
من هذا القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفهم أن الحاكم، ليس له من الناس إلا الظاهر من الأعمال فهو يحاسبهم على ما صدر من أعمال ووقائع وليس وفق ما وقر واستقر في قلوبهم، حتى وإن أدرك مقاصدهم وغاياتهم، فالقيام بالفعل أو الشروع فيه أو إعلان العزم على القيام به هو موضع البحث والمحاسبة.
لا كما هو الحال اليوم في مشارق الأرض ومغاربها حيث يُحاسب أبناء الأمة المخلصين على فرضيات وأوهام أملاها خوف الفئات المتسلطة من المحاسبة على أفعالهم الدنيئة، فيقومون بإصدار أحكام السجن المؤبد والإعدام لمجرد الشك والتوهم.
الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر قضاء الله وحكمه
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب: «فقم حتى يقضي الله فيك» يجلي لنا كيف أن الإسلام وأحكامه محصورة بالوحي فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدم بين يدي الله ولا يتعدى حدوده، فمثل هذه الحادثة لم تقع من قبل ولم يُوحَ إليه فيها بشيء حتى تلك اللحظة، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن صرف كعباً وأرجأه حتى نزول الوحي.
ويكشف لنا هذا فظاعة فعل من يتجرأ على دين الله، فيقول إن الإسلام يحوي أحكاماً ثابتة كالعبادات والحدود، أما السياسة وشكل الحكم فهما للاجتهاد أي من قبل العقل وليس الاجتهاد بمفهوم بذل الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمولى تبارك وتعالى يؤكد على حصر الإسلام بالوحي في أكثر من موضع من كتابه العزيز قال تعالى: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وقال عز وجل: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
تأثير الرأي العام
[وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون. فقد كان كافيك ذنبك، استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.
قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. قال ثم قلت لهم هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم. لقيه معك رجلان. قالا مثل ما قلت. فقيل لهما مثل ما قيل لك قال: قلت من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الوقفي. قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدر، فيهما أسوة. قال فمضيت حين ذكروهما لي].
الصحابي الجليل الذي لم يعهد عليه الناس أنه أذنب ذنباً من قبل والذي وقف موقف الصدق الرائع هذا يصف تأثير كلام هؤلاء القوم من بني سلمة فيه بقوله: «فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي» هكذا يكون تأثير الرأي العام، ولذلك صدق القائل: «أصلح المجتمع يصلح الفرد ويستمر صلاحه» وكذلك نتعلم من هذه الحادثة أن الإنسان يتقوى على الطاعة بمصاحبة أهل التقوى والصلاح وعلى المسلم أن يقتدي بالصادقين أهل الطاعات وأهل التقوى. فانظر قوله رضي الله عنه: «قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدر، فيهما أسوة».
طاعة الله فوق كل صلة
[قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، أي الثلاثة، من بين من تخلف عنه. قال فاجتنبَنا الناسُ، وقال: تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحبي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدَهُم. فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد. وآتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام، أم لا؟ ثم اصلي قريباً منه وأسارقه النظر. فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليّ وإذا التفتُ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائظ أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام. فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله، هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت. فعدت فناشدته، فسكت. فعدت فناشدته. فقال الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار].
هكذا يكون انضباط المجتمع، الجميع تلقى أمر رسول الله فباشر بالتقيد به، فهذه هي دولة الإسلام دولة العقيدة الصادقة والمفاهيم الصحيحة، وليست دولة المخابرات وعشرات أجهزة الرقابة والتجسس على الأمة. فتنفيذ الأوامر تلقائياً من الجميع وإلى الحد الذي لم يجعل للصداقة الحميمة ولا للقرابة أي أثر، وظل أمر الله ورسوله مقدماً على كل شيء، فلم يرد أبو قتادة السلام ولم يزد رضي الله عنه عن قوله الله ورسوله أعلم بعد أن ناشده بالله مرات عديدة.
النظرة للكافر
[فبينما أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة. يقول: من يدل على كعب بن مالك. قال فطفق الناس يشيرون له إلي. حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان. وكنت كاتباً. فقرأته فإذا فيه: أما بعد. فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك. ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة. فالحق بنا نواسك. قال فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاد. فتياممت بها التنور فسجرتها بها].
تكشف رسالة ملك الغساسنة أن تربص العالم بالمسلمين ووضعهم تحت المجهر ورصد كل حركة داخل المجتمع الإسلامي لتحين الفرص المواتية لشراء الذمم وخلق فئة من العملاء، يكونون لهم عوناً وسنداً في ضرب المسلمين بل هي سنة الكفر والكافرين في كل عصر.
وإذا كان ذلك نهج الكفار دوماً فما هو موقف المؤمنين الصادقين، إنه كان دائماً موقف الولاء التام لله ولرسوله ولجماعة المسلمين. انظروا كيف كان موقف كعب رضي الله عنه وهو يعاني أشد المعاناة من المقاطعة التامة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فتياممت بها التنور فسجرتها بها».
إنها رسالة من كافر فهي بلاء، وورد في إحدى الروايات أن كعباً ذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاكياً حاله وكيف وصل به الحال أن طمع فيه الكافر. نعم حتى وإن كان هذا الكافر ملكاً فهو نجس من أهل النار، وحرق كعب الرسالة حتى لا يبقى بينه وبين المعصية والفتن أية صلة. فما بال حكامنا اليوم يجِلُّون أراذل الكفار ويركعون لكل زنديق كافر ويخشون الكفار أكثر من خشيتهم لله.
إنه من الواجب على المسلمين أن يحيوا في أنفسهم عزة المؤمن،ويجلوا مفهوم أن العزة للمؤمنين والذلة للكافرين مهما علوا وسموا فإنهم كما وصفهم المولى تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).
ازدياد البلاد
[حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها. فلا تقربنها. قال فأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر].
هنا درس آخر فكعب يتساءل عن كيفية التقيد بالحكم الشرعي على وجهه الصحيح، والحرص على تطبيقه يتجلى في استفساره هل يطلق زوجته. وفي إرساله زوجته يتجلى إلى دار أهلها خشية مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. فما بال فلاسفة اليوم الذين يتشدقون بعبارات: أين الحكمة؟ وما هي العلة؟ والدين يسر لا عسر، وغيرها مما ينم عن جعل المنفعة المادية أساس التقيد بالأحكام الشرعية.
بكاء دائم:
[قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم. فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا. ولكن لا يقربنك، فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء. ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا].
المشاعر الإسلامية الصادقة:
[قال فلبثت بذلك عشر ليال. فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا. فبينما أنا جالس على الحال الذي ذكر الله عز وجل منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشر؟ قال فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء فرج.
قال فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا، حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون. وركض رجل إلى فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى الجبل. فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني. فنزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته. والله ما أملك غيرهما يومئذ. واستعرت ثوبين فلبستهما. فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة ويقولون لِتَهْنِئك توبةُ الله عليك].
هكذا تكون المشاعر في المجتمع الإسلامي ترضى لما يرضي الله وتسخط لما يسخطه، فالجميع سادته مشاعر الفرح والسرور لتوبة الله عز وجل على فرد من المسلمين، وهكذا تكون روابط الأخوة فترى الجميع يتسابقون لإيصال البشرى له، يقفون صفاً لتهنئته بعفو الله].
علاقة الحاكم بالمحكوم:
[حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قال فقلت: أمن عندك؟ يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: لا. بل من عند الله» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه. كأن وجهه قطعة قمر. قال وكنا نعرف ذلك].
انظر كيف استنار وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرق من السرور لعفو الله عن كعب، وهكذا يكون حب الحاكم وحرصه على رعيته. وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» فهو يعلمنا كيف أن رضوان الله والدار الآخرة هي الحياة الحقيقة وغاية الغايات التي يجب أن يسعى إليها المسلم، وصدق الله العظيم إذ يقول: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
إحسان التوبة وحقيقة العبودية:
[قال فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك بعض مالك، فهو خير لك» قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال وقلت: يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق. وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. قال فوالله ما علمت أن أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به. والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقى].
هكذا يكون إحسان التوبة بالإقلاع عن الذنب وبذل المزيد من الطاعة والشكر لله تعالى.
ومجمل القصة يبين لنا أن العبودية لله عز وجل تقتضي استمرارية الطاعة ودوام التقيد بأمر الله في العسر واليسر والمنشط والمكره ما دام العبد على قيد الحياة، فكعب رضي الله عنه خاض أكثر من خمسة عشر غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تكاد تكون جل الغزوات التي غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فإن تخليه عن الخروج إلى غزوة تبوك جعله يلقى ما رأينا وكاد يعصف به إلى جوار المنافقين، مما يوضح لنا أن اقتراف ذنب واحد مثل التخلي عن هذه الغزوة والتخلي عن نصرة الإسلام في معركة واحدة أمر جلل قد يذهب بما قدم الإنسان من سابق أعمال، فما بالنا نتخلى عن تطبيق جل أحكام الإسلام ونركن إلى الظالمين ولا نغير عليهم بقول ولا بفعل.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاج نهج صحابته رضوان الله عليهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأَستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليهِ في اليوم أَكثر من سَبعين مَرَّة».
رواه البخاري
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَابُ قوسٍ في الجنة خَيرٌ مما تطلعُ عليهِ الشمسُ أو تغربُ».
متفق عليه
1996-03-30