سقوط الحضارة الغربية
2016/10/29م
المقالات
2,516 زيارة
سقوط الحضارة الغربية
المقالة التالية بعنوان (البوسنة: القَدَر يعوض عن تقصير المسلمين) كانت قد كتبت منذ حوالي 14 شهراً، أثناء هجمة الأوروبيين للبطش بمسلمي البوسنة (قبل اتفاق دايتون الذي أخفى النار تحت الرماد). ولكن لم يُقَدَّر للمقالة أن تنشر إلا الآن.
المقالة ليس موضوعها أحداث البوسنة، بل موضوعها الحضارة الغربية وفسادها وعفونتها وميلها للسقوط كما سقطت الاشتراكية قبل بضع سنين. وأحداث البوسنة اتخذت مجرّد مثل شاهد على ذلك. وهناك أمثلة كثيرة سبقت أحداث البوسنة وأخرى تبعتها وكلها تنطق بنهاية حضارة الغرب. ولذلك فأهمية هذه المقالة اليوم هي كما كانت بالأمس حين كُتبتْ.
حين نشأت الحضارة الغربية (المبدأ الرأسمالي) قبل حوالي قرنين، كانت تستهوي المفكرين وتشكل لهم أملاً لإسعاد الناس. كانوا يستعملون الشعارات الجذّابة: العدل، المساواة، الأخوّة، الحريات، حقوق الإنسان، تقرير المصير، السلام، المساعدات، إنقاذ جميع الناس من الفقر والجهل والمرض…
ثم ما لبثت أن نشأت الاشتراكية كردة فعل لنشوء الرأسمالية (الحضارة الغربية). الرأسمالية كانت تتغنّى بشعارات فارغة، أما على أرض الواقع فقد كان الظلم والاستغلال والقوي يأكل الضعيف فنشأت الاشتراكية لإنقاذ الناس من الحضارة الغربية. فكانت الاشتراكية ضِغْثاً على إِبّالة.
كاتب المقالة يخاطب أهل الفكر من حَمَلَة الحضارة الغربية ومن أبناء المسلمين أيضاً المفتونين بهذه الحضارة. وأهل الفكر هم الذين ينظرون في الفكر وينظرون في انطباقه على الواقع، وينظرون إلى مدى صدق هذا الفكر وصلاحه لإسعاد الناس.
وإذا نظرنا إلى الفكر الذي تقوم عليه الحضارة الغربية (وليس الشعارات الزائفة) نجد ما يلي:
1 ـ تقوم على فصل الدين عن الحياة؛ وينتج عن ذلك حتماً أن المرء لا يهتم بحلال أو حرام، ولا يشعر أنه سيعاقب إذا أساء، أو سيثاب إذا أحسن إلا في هذه الدنيا. وانظروا ما ينتج عن ذلك.
2 ـ تقوم على أن مقياس الأعمال هو المنفعة الأنانية الفردية. وتصوروا ما ينتج عن ذلك.
3 ـ تقوم على أن السعادة هي اقتناص المتع والشهوات.
4 ـ تقوم على أن العلاقة بين الإنسان والإنسان هي الرغيف (المصلحة) يغصبه هذا أو ذاك.
والحاصل على الأرض أن أهل الغرب انجرفوا إلى المتع والشهوات فكان الانفلات الجنسي وكانت الخمور والمخدرات والمنبهات وكل ما يخطر في البال أنه يوجد لذة، فلا أخلاق ولا عيب ولا حرام. ونتج عن ذلك الأمراض المخيفة. وصار البابا يناشد، وصار رئيس أميركا يناشد… ولكن هيهات، إن هذه سنة الحياة: من يحملْ هذه المفاهيم يسلكْ هذا السلوك.
وتحول الغرب إلى مجتمعات استهلاكية مترفة؛ وهذا جرّهم إلى الاستعمار للسيطرة على الشعوب وتسخيرها ومص دمائها (وليس لمساعدتها). وهذا قاد إلى الحروب، وإلى صناعة السلاح للقتل والتدمير (وليس للسلام كما هي شعاراتهم).
إنهم يشعلون الحروب لبيع السلاح، ولإتلاف ثروات الناس لتصريف ثرواتهم هم، ولقتل الناس كي لا ينافسوهم على اقتسام الثروة. إنهم يهربون من التضحية وتحمّل الأعباء لأنها تتعارض مع حب الشهوات، ويفتقدون جميع القيم الرفيعة، فلا الكرم ولا النجدة ولا تقديم الروح والمال والولد، ولا أي شيء له قيمة، لأن هذه الحضارة لا تنبت فيها هذه المفاهيم.
إن هذه الحضارة ما كانت لتصمد مائتي سنة لو قامت حضارة قوية تهزها. والاشتراكية التي قامت كانت أكثر ضعفاً وفساداً. وهنا يقع جانب كبير من اللوم على المسلمين، لأنهم هم وحدهم الذين عندهم الحق. ونرجو أن يتحرك المسلمون الآن فيشهروا الحق في وجه الباطل ليتحقق الآن قوله تعالى: ]وقل جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطل إن الباطل كان زهوقا[. فيما يلي المقالة:
البوسنة: القدر يعوض عن تقصير المسلمين
إن هذه الرسالة هي خطاب إلى كل المفكرين، مسلمين وغير مسلمين، وخاصة إلى أولئك الذين يعيشون تحت تأثير الحضارة الغربية. إنها تأملة في الموقف في البوسنة ومعاناة المسلمين هناك. إنها دعوة إليكم لتعيدوا النظر في حياتكم وتقرؤوا التاريخ وتأخذوا الدروس.
عندما وصل الإسلام إلى أوروبا مع الغزو العثماني، أسيء فهمُه؛ ولا يزال كذلك حتى الآن. ولقد ورثتم آراء أسلافكم ومواقفهم ولم تهتموا بالتفكير ثانية. ليس الخطأ كله خطأكم. وربما يتحمل المسلمون القسط الأكبر من المسؤولية في سوء الفهم أو سوء العرض هذا. وهم لا يزالون يرتكبون الأخطاء حتى اليوم، وهم لا ينقلون الرسالة إليكم. ربما تقف قورن من الكره المشترك والعداء حاجزاً بينكم وبين الرسالة. ولكن، مع كل هذه القطاعات والأحداث المأساوية، ألا تظنون حان الوقت للجميع، لنا ولكم لإعادة النظر في الحياة والقيم والكون؟
لقد وضعتم رهانكم على القيم العلمانية «الإنسانية» التي كان من المفترض أن تقود الجنس البشري نحو السعادة والأمن.قيم الحقيقة والحق والعدل والإنصاف والنقاء. اعتقدتم أن هذه القيم، المُرَبَّاة في جو «إنساني» مقطوعة عن ما هو رباني وعن الغيب تكون كافية لتنظيم حياتكم. اعتدتم أن هذا سوف يخلصكم من التجارب المريرة الماضية مع الدين. والآن، انظروا أين أوصلت «الإنسانية» الجنس البشري. إن تقصيرات العلمنة أصبحت واضحة منذ وقت طويل، ولكن الفكر الغربي اختار أن يتشبث بها مع القيام ببعض الإصلاحات هنا وهناك من وقت لآخر.
لم يشعر أحد إلا القلة القليلة بالحاجة الملحة لإعادة التفكير بشكل جدي حول الأمور. إلا أن الغطاء قد انكشف الآن. إن معاناة البوسنيين هي عامل مساعد في ذلك. إن ما يجري الآن في البوسنة وفي يوغوسلافيا السابقة كلها بشكل عام ليس جديداً. إن التاريخ يسجل وكذلك القرآن والحديث يخبراننا عن الطغاة والجبارين ومحاولاتهم حرمان الناس من حقوقهم في اختيار أساليب حياتهم. ولم يوفروا في ذلك التعذيب والفظائع الوحشية. ولكن مع كل المرارة والمعاناة، مع كل التعذيب والقتل والاغتصاب والتهجير للأبرياء، مع كل ذلك، هناك نعمة مخفية في ما يحصل الآن في البوسنة وفي ما حصل في لبنان والصومال وأفغانستان ورواندا. إنها تساعد في كشف الحقيقة المأساوية للقيم المزيفة للعلمنة و«الإنسانية». إن ما يحصل في البوسنة يهز أسس الحضارة المزيفة. إن حضارة مبنية على «حقوق الإنسان» تغمض عينها اليوم عن خرق هذه الحقوق في البوسنة. لقد شددت هذه الحضارة على حقوق الإنسان في إعلاناتها حتى جعلتها جزءاً أساسياً من ميثاق «برلمانها العالمي» -الأمم المتحدة. ولكن أين هي هذه الحقوق الآن؟
لا أحد يستطيع اليوم إلا أن يرى أن حقوق الإنسان ما هي إلا لعبة تُستعمل في العلاقات الديبلوماسية بين القوى العظمى، يستعملونها حين يرون ذلك مناسباً. إن المراوغة والنفاق الذي لا يحسب حساباً للمعاناة الإنسانية، واللذيْن طبعا الفكر السياسي الغربي على الدوام، واضحان تماماً في النزاع البوسني. إن أي شخص يتمتع بالحد الأدنى من الوعي السياسي سوف يرى أن القوى الغربية (وكذلك الشرقية) لعبت لعبة قذرة مع الشعب البوسني. إن فرض حذر على التسلح على الأفرقاء البوسنيين كان يعني عملياً أن المسلمين لن يحصلوا أبداً على الأسلحة اللاومة للدفاع عن النفس بينما كان الأفرقاء الآخرون مسلحين حتى الأسنان. إن إعلان ما سمي «الملاذات الامنة» كان كذبة كبرى استمرت حتى حين قام الصرب بالهجوم عليها (بضوء أخضر وبمباركة وربما بتشجيع من القوى الغربية). ولا يستطيع حتى الطفل أن يصدق أن قوات الأمم المتحدة والحلف الأطلسي المنتشرة هناك كانت غير قادرة على إيقاف هجمات الصرب، خاصة وأن الصرب كانوا يحصلون على أسلحتهم من مخازن ذخيرة هذه القوات. ماذا كان رد فعل القوى العالمية تجاه ذلك؟ الإدانة والدموع والقرارات.. كلام في كلام وليس هناك أفعال. كان يؤمل أن يُغَطَّى ذلك كله بمسرحية الرهائن عندما «اعتقل» الصرب عناصر من الأمم المتحد في محاولة «لردع» قصف جوي؛ ولكن التهديد لم يحصل،ولدينا أسباب كافية للاعتقاد بأن هذه التهديدات لم تكن مقصودة للتنفيذ أصلاً. فهل لنا إذاً أن نرى هذه الممارسات كتكتيكات في ما سمي «راعي الحضارات» الذي بشر به مفكرون سياسيون غربيون بارزون منذ سنوات؟ ولكن يجب أن يكون واضحاً للجميع أن الإسلام ليس طرفاً في الصراع؛ إنه رسالة من الخالق إلى خلقه. إذا كان بعض المسلمين قد تصرفوا بشكل مغاير في الماضي أو الحاضر (رمبا بسبب الشعور باالغربة واليأس والإحباط) فيجب أن لا نخلط بينهم وبين الإسلام. إن الإسلام يناضل ضد الظلم ويعرض بناء حياة نظيفة تتمحور حول الإنسان المعترف بالسيادة للرب الخالق. يجب أن لا يُنْظَر إليه كطرف في نزاع.
إن دولة مسلمة في أوروبا لن تكون مقبولة في أوروبا «العلمانية». إن البوسنة هي أندلس جديدة، وما يحصل هناك الآن هو نسخة جديدة من محاكم التفتيش، حملة صليبية جديدة بمباركة من أوروبا «العلمانية». ويحصل هذا في الوقت الذي تستمر فيه أقليات غير المسلمة في العيش في العيش وممارسة شعائرها بحرية وأمن.
يجب أن يفتح ذلك أعيننا جميعاً. لقد سقطت العلمانية و «الإنسانية» وانكشف الغطاء. ومن أجل مستقبل الجنس البشري أنظروا إلى الإسلام نظرة منصفة فاحصة ولا تدعوا الأهواء تعميكم. ولستم أحراراً في ذلك. إن هذا من واجبكم إن رغبتم في الحفاظ على القيم الإنسانية الحقيقية التي هي أساس حضارتكم وإن أردتم أن تقوّموا مسيرة حياتكم لكم وللأجيال المقبلة.
نحن لم نفقد الإيمان في الطيبة الداخلية للإنسان على الرغم من المؤشرات على عكس ذلك؛ ونحن نؤمن أنه لا يزال بمقدوركم أن تعكسوا اتجاه الانحدار . ع.ص.
2016-10-29