وَصِيَّةُ العَجُوزِ
2016/10/29م
المقالات
1,725 زيارة
وَصِيَّةُ العَجُوزِ
الشاعر: أيمن القادري
مَن العجوزُ؟ تُواري الدمعَ في المقلِ *** تُخفي الوجومَ بأطيافٍ من الأملِِ
من العجوزُ التي من دارها خرجتْ ***لتقتفي خبرَ الفُرسانِ في عجلِِ
تسرّحُ الطرفَ في البيداء شاخصةً ***إلى البعيدِ، ولكنْ ليس مِنْ رجلِِ
حتى إذا سئمتْ من طول ما انتظرتْ ***جثتْ على قلق أقسى من الأجلِِ
وأسلمتْ خدَّها البالي إلى يدها ***وخاطبتْ صُوراً في البالِ لم تزلِِ
وطال ما ردَّدَتْ والجفنُ منكسرٌ ***حزناً على أخويها دونما مللِِ:
«لولا التجلّدُ بالباكين إذ كَثُروا،*** قتلْتُ نفسي، وما بدَّلْتُ من حُللِِ»
ماتا، ولم تبدُ شمسُ الدينِ في أفقٍ ***أرخى به الكفر ستراً جِدَّ منسدلِِ
واليومَ.. ها هي ذي «الخنساءُ» ناظرةً ***أبناءَها بفؤادٍ ليس بالوَجِلِِ
«القادسيةُ» نادتهمْ، فما وهنوا ***بل وافق الأمرُ منهمْ نخوةَ البطَلِِ
صاحوا: «أيا أمّتا، لبّيك نحن هنا ***ونَصدق الله عهداً ليس ذا دَخَلِِ»(1)
«للزحف منا اصطبارٌ لا مثيلَ له ***وما لنا عن غمار الحربِ من بدلِِ»
«من كان غايتَه إرضاءُ خالقه، ***وجنةُ الخلد يُبغِضْ وصمة الوَجَلِِ»
شدّوا الرحالَ إلى الميدان فانتصبت ***تلك العجوزُ بعزمٍ ليس في الجبلِِ
تالله، ما يعلم الرائي إذا وقفتْ ***قربَ الفوارس: من للخيل والجَملِِ؟
قالت لهم: «لست أوصيكمْ، وإن يكُ لي ***بكمْ جوىً، أن تقوا الأجساد من أَسَلِِ»(2)
«لكن أريد جهاداً تستضيء به ***من بعدكمْ أممٌ ترويه كالمثلِِ»
«لا يُبصرنّ عدوٌّ ظهر واحدكم،*** إن الصدور محلُّ السيف والنبلِِ»
مَضَوْا.. وهذا أوان الأَوْب ***فانطلقت جموعُ قومٍ تُوافي ملتقى السبلِِ
أمٌّ هناك، وزوجٌ ههنا وقفتْ ***وخلْف تَيْنِك بنتٌ بَعْدُ لم تصلِِ
وكلُّ واحدة منهن في قلق ***إلا العجوزَ فقد قامت على مهلِِ
وأرجعت طرفها في الأفْق ثانيةً ***فلاحَ طيفٌ يُهادي الخَطْوِ في ثقلِِ
هفا الفؤاد، وضجّتْ فيه بارقة ***من الرجاء تريدُ الفتك بالفشلِِ
الطيفُ يدنو، وخلف الطيف راحلةٌ ***يجرُّها، غير أنّ الرِجْل في زللِِ
ها قد أحاط به الأقوام في لهفٍ ***قالوا: «أمِن جيش سعدٍ جئتَ؟ لم تُنَلِِ»
أجاب: «بل نحن نلنا النصرَ، فافتخري ***نواصيَ الخيل.. هذي سُنّةُ الرسلِِ»
«سبقت سائر جند الجيشِ أُعلمكمْ ***كيف السيادةُ للإسلام في المللِِ»
«وكيف كلُّ جحودٍ نال مصرعه ***وفرّ من سلمت رجلاه كالحملِِ»
«تمرَّغ الكفر أرضاً وارتمى نزِقاً ***وكان يطمح أن يرقى إلى زحلِِ»
«قد لُطّختْ بالدم المسفوكِ رايتُه ***ومُزّقتْ، وانزوت في الوحل، في خجلِِ»
«ورايتي، راية الإسلام، رايتكمْ، ***تعلو الغبار وتهدي قادة الثِللِِ»(3)
«تلقى الأكفّ تَبَارى من يعانقُها، ***من يستظلّ من الرمضاء بالظُللِِ»
«سنابكُ الخيل تُوري تحتها شرراً ***وأعينُ الجند إشراق من الأملِِ»
«لا يعلمُ المرءُ من مِنْهُمْ أشدّ رضاً: ***أداحرُ الكفر، أم مدمىً ولم يَئِلِِ؟»(4)
«هذا يُعِدُّ، لنصرٍ قادمٍ، سُرُجاً، ***وذاك يرقب أنهاراً من العسلِِ».
هنا توقّف، وامتدت لواحظه ***إلى العجوز فغصّ الحلقُ بالجُمَلِِ
أمال عينيه، لكن بعد أن ***قرأتْ عبارةً فيهما مرَّتْ على عجلِِ.
تَردّدت: أتناديه فيفجعَها؟ ***أم تؤثر الصمت يُنجيها.. إلى أجلِِ؟
وقبل أن تصطفي ردّاً، تملّكها ***عزمٌ تدفّق سيلاً غير منخزلِِ.(5)
نادته: «أقبلْ، أخا الإسلام، في ثقةٍ، ***فلست أرهب، مهما حلّ من جللِِ»
قال: «الشهادة، يا أمّاه، فابتهجي، ***فالأرضُ قد رُويتْ بالماطر الهطِلِِ»
«قد كنت تبكين من في النار مسكنُه، ***واليوم، بُشراكِ بالأبرار، فابتهلِي»
«هذا سيمسحُ من عينيك دمعَهُما. ***طوبى لأرواحهمْ في المَورد الخضِلِِ»(6)
قالت: «أفي الصدر نالوا الطعن يا ولدي؟*** لا تُخْفِ عني، أجبني، قبل مُنْتَقَلِي».
أجاب: «كنا –إذا ما ثغرةٌ خُرقت ***لدى العدوّ- نراهم أوّل الثِللِِ».
«ومن تأخّر في جرْحٍ يضمّده، ***لاموه: هل أنت عن مولاك في شُغُلِِ؟»
«وإن كبتْ ضربةٌ في سيف واحدهمْ، ***صاحوا: «تذكّرْ..»، فتذكو النار في المقلِِ
«قد صافحوا القتل حتى نال بُغيتَه ***وغيّر الدم لون البِيض والحُللِِ».
قالت وقامتها كالطود راسخةٌ: ***«لا حُزْنَ، لا دَمْعَ، لا آهاتِ مُكْتهلِِ».(7)
«الحمدُ لله إذ قد شاء لي شرفاً ***وقرّت العين فيهمْ قبل مُرتَحَلي»
«وأسأل الله جَمْعَ الشمل، يوم غدٍ، ***في جنة الخلد، في النعماء والظللِِ».
ثم استدارتْ لتمضي حيثُ خيمتها ***فقال من جاء بالأنباء، في مهلِِ:
«يا خالتا، ما الذي عدّوا تذكُّرَه ***مثار عزمٍ يُعيد البأس في الرجلِِ؟»
قالت: «وصيةُ أمّ، طال ما جهدوا ***أن يكتبوها بحبْرٍ سال من نَبَلِِ»
«ها هم جنودُك، جند الحق، فافتخري ***يا أمة ورثتْ وحياً من الرسلِِ»
«إذا الوصيةُ لم تُحْيِ النساءُ بها ***عقيدةَ النَشْءِ، لا ترقبْ سوى الفشلِِ».
(1) دخل: شوائب. – (2) الأسل: النبال. – (3) الثلل: المجموعات.
(4)لم يئل: لم يرجع. – (5) منخزل: منقطع. – (6) الخضِل: النديّ. (7) المكتهل: العجوز.
2016-10-29