الغيب وعلم الغيب
2016/10/29م
المقالات
3,427 زيارة
الغيب وعلم الغيب
بسم الله الرحمن الرحيم
قال اللـه تعالى: (قُلْ لا أقولُ لكم عندي خزائنُ اللـه ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولُ لكمْ إِنّي مَلَك قلـ إنُ أتّبعُ إلاّ ما يُوحى إليّ) )الأنعام 50(.
وقال تعالى: ( ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاسْتكثرتُ مِنَ الـخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السوء) )الأعراف 188(.
وقال تعالى: (علِمُ الغيبِ فلا يُظْهِرُ على غَيْبِه أحداً* إلاّ من ارْتضى مِن رسول) )الجن 26-27(.
وقال تعالى: (قُلْ لا يعلمُ مَن في السموتِ والأرضِ الغيبَ إلاً اللـه) )النمل 65(.
وقال تعالى: ( فلمّا قضينا عليهِ الموتَ ما دلّهُمْ على موتهِ إلاّ دابّةُ الأرضِ تأكلُ مِنْسَأَتَهُ صلـ فلمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أن لو كانوا يعلمونَ الغيبَ ما لَبِثوا في العذابِ الـمُهين) )سبأ 14(.
قال في «لسان العرب»: (والغيب: كل ما غاب عنك). فأمور المستقبل من الغيب. وأمور الماضي والحاضر بالنسبة لمن لا يستطيع الاطلاع عليها هي من الغيب، ولكنها ليست من الغيب بالنسبة لمن يستطيع أن يطلع عليها.
وإذا أنعمنا النظر في الآية (14) من سورة سبأ المكتوبة أعلاه نرى أن اللـه سبحانه أطلق اسم (الغيب) على أمر حاضر قريب ولكنه غير معلوم لمن يعنيهم الأمر، ثم صار معلوماً لهم بعد مدة (حوالي سنة). سيدنا سليمان عليه السلام كان مَيْتاً ومستنداً على عصاه (منسأته)، والجن بقربه يرونه ويظنونه حيّاً يراقب أعمالهم. فهذا الواقع كان من الغيب بالنسبة للجن طيلة مدة جهلهم به. وحين انكشف لهم لم يعد غيباً بالنسبة لهم.
هذا هو معنى الغيب. أما علم الغيب فهو عند اللـه وحده (قل لا يعلم من في السموت والأرض الغيبَ إلاّ اللـه). ولا يستطيع أحد أن يعلم شيئاً من الغيب إلا إذا أطلعه اللـه سبحانه عليه. والآيات المرقومة أعلاه قطعية الدلالة في هذا المعنى. فلا الملائكة تعلم الغيب، ولا الأنبياء تعلم الغيب، ولا الجن تعلم الغيب، ولا الشياطين تعلم الغيب، ولا المنجمون يعلمون الغيب، ولا أحد يعلم الغيب إلا اللـه سبحانه وتعالى.
محمّد صلى اللـه عليه وآله وسلم هو أفضل خلق اللـه ولم يكن يعلم الغيب، فاللـه أمره أن يقول: (قل لا أقول لكم عندي خزائن اللـه ولا أعلم الغيب) وأمره أن يقول: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنيَ السوء) ولكن اللـه أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً من أنباء الغيب كما أعطى غيره من الأنبياء والملائكة، فاللـه سبحانه يقول: (علم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من ارتضى من رسول) وكلمة (رسول) هنا تشمل رسل الملائكة كما تشمل رسل الإنس.
ولا بد من التنبيه إلى ما يقع فيه العامّة من ضلالات. هناك من يصدق بمسألة الأبراج، أو مسألة حساب الـجُمَّل ويستخدمها لمعرفة مستقبله وحظه. وهذا فوق كونه انحطاطاً فكرياً هو فسق مخالف للعقيدة الإسلامية. فهناك من يذهب إلى (البصّارة والبرّاجة) لمعرفة أحوال الغائبين، أو لمعرفة الأمراض وشفائها، أو لمعرفة السارق وأين أخفى المسروقات. هذا الصنف رغم أنه يتصف بالانحطاط الفكري، لكنّ فسقه أخف من فسق كالصنف الأول، لأن هذا الصنف لا يسأل عن أمور المستقبل بل عن أمور حاصلة، ويتوهمون أن من يسألونه يستطيع تسخير الجن، ويتوهمون أن الجن لا تخفى عليهم خافية. مع أننا رأينا قبل قليل أن الجن تخفى عليهم أكثر الأمور التي تخفى على الإنس، فاللـه سبحانه يقول: (فلمّا خرَّ تبينت الجنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).
وأما معرفة الأمور التي تحصل في المستقبل بناءً على سنن الكون فليست من باب علم الغيب، بل هي من باب علم هذه السنن التي أودعها اللـه في الكون والتي لا تتخلف. فمعرفة أن الأحياء يموتون، وأن الشمس تشرق غداً، وأن القمر سيخسف في ليلة كذا… الخ كل ذلك ليس من علم الغيب.
وكذلك معرفة النتائج التي تحصل في المستقبل بناءً على المقدِّمات والأسباب التي تُهيّأ، معرفة هذه النتائج ليست من علم الغيب، بل هي من باب علم سنن الكون أيضاً، لأن حصول الـمُسَـبَّب عن السبب هو من السنن التي أودعها اللـه في مخلوقاته.
ولا بد من التمييز بين العلم والظن. فالعلم هو المعرفة اليقينية التي لا يلحقها أدنى خطأ. أما المعرفة غير اليقينية التي فيها احتمال الخطأ، ولو كان هذا الاحتمال ضعيفاً، فإنها ليست من العلم، بل هي ظن. والإنسان الذي يعرف ماذا سيفعل غداً بناءً على برنامج محدد ومتفق عليه، فإن معرفته هذه ليست علماً، لأنها قد تحصل أمور غير متوقعة وتغيّر البرنامج، فهذه معرفة ظنية وليست يقينية.
وبذلك تكون معرفة الغيب اليقينية، أي علم الغيب، عند اللـه وحده، وعند من يعطيه اللـه شيئاً من ذلك.
2016-10-29